ينقش المعرفة تارة على الصخر، ويزرعها في الرمال تارة أخرى.. يسافر من أجل قطرة ماء فيعود أحيانا بضفدع.. فهل هي سخرية الأقدار تلك التي جعلت من المعلم سيزيفا في جبال الأطلس والريف، برومثيوسا في فيافي تنغير وورززات وسندبادا في قفار الصحراء.. «المساء» ترصد هنا معاناة المعلمات والمعلمين العاملين في العالم القروي. منذ البدء تكون المعاناة «رحلة المعاناة تبتدئ منذ شد الرحال للالتحاق بالفرعية في اليوم الأول من السنة الأولى للتعيين»، هكذا يبدأ أحمد الساهد المعلم بضواحي أكادير حديثه عن التعليم وهمومه بالعالم القروي، مؤكدا أن فقدان الوزن يكون التجلي الأول لعذابات هذه الرحلة إلى منطقة لا تعيش الموسم الدراسي وفق مذكرات وزارة التربية الوطنية، وإنما وفق موسم الحرث وموسم الحصاد وما بينهما جد واجتهاد. إحساس بالشفقة يقول أحمد: «ما يؤرقني كثيرا أن أقف داخل الفصل لألقي درسا في المعرفة على أطفال حفاة عراة جائعين متسخين، إذ تنهار كل قواي النفسية وما أعود قادرا على شد انتباهم إلى عالم الكتاب المدرسي.. وما يزيدني إحساسا بالغبن على الإحساس بالشفقة كوني لم أتوصل بأجري في دوار تنعدم فيه أدنى شروط العيش، فمنطقة إدا وتنان جبلية تغيب فيها الآبار للتزود بالماء الشروب، أما قنوات الماء الشروب فمن رابع المستحيلات أن تجد صنبورا، لأن الأهالي لا يستعملون إلا «نطفيات» وهي عبارة عن صهاريج تحت الأرض تملأ بمياه الأمطار وغالبا ما تكون هذه المياه (متعفنة ونتنة) فنضطر لمعالجتها بجافيل الشيء الذي يجعل غالبية المعلمين الذين ينحدرون من خارج المنطقة أن يضطرون إلى اتباع وصفة علاجية بعد زيارة الطبيب مع أول شربة لهم من ماء هذا الدوار، وهو مشكل تعاني منه جميع الفرعيات بإقليم أكادير إدا اوتنان». يقطع حسن مسافات طويلة بحثا عن الماء غير أن انتماءه إلى منطقة سوس يجعل مقاومته أكثر صلابة بالمقارنة مع باقي زملائه الذين يجدون فيه سندا وعونا على تذليل الصعاب، يقول حسن عن هذه التجربة: «أنا من منطقة إنزكان وأشتغل منذ مدة بجبال إدا وتنان، صحيح أنني خبرت المنطقة جيدا لكن الظروف في الجبل تبقى صعبة، تصوروا معي أنه ومن أجل قطرة ماء يلزمني أن أتسلق الجبل بحثا عن عين بمنطقة تامزاركوت، وقد يستغرق ذلك 5 ساعات وعندما أجدها يكون علي دفع الضفادع والعلق جانبا وأزيل الخز لأغرف ماء عكرا، ودائما يترك الماء الذي جعل منه كل شيء حي بصماته على جسد المعلم في معدته، أمعائه، مثانته.. كل المعلمين من قبلي مرضوا وكل من سيأتون من بعدي سيمرضون إن قدر لي أن أغير الفرعية التي أدرس بها الآن». صعوبة الاندماج لجمال قصة أخرى مثيرة يقول عنها واصفا جزءا مما أسماه ب(معاناة معلم): «أقطع عشرات الكيلومترات في هذه البلدة التي تقاس فيها المسافة بالساعة وليس بالكيلومتر، أنطلق من المركزية على الساعة الثانية عشرة زوالا ولا أصل إلى الفرعية إلا عند حدود الخامسة مساء من اليوم الموالي، وقد أقطع كل هذه المسافة حاملا مؤونتي على ظهري في طريق لا طير يطير فوقها ولا وحش يسير جنبها، اللهم يوم السوق الأسبوعي إذ يمكن لنا أن نسمع حثيث الأقدام ونهيق الحمير في تجمع لا يكاد يظهر عند قدم الجبل لكثرة الغبار». ويضيف جمال: «موقع المدرسة جاء في مكان منعزل عن شتات المنازل المبثوثة فوق الجبل، بيد أن ما يزيد من معاناتي هي صعوبة الاندماج في هذا الوسط الغريب الذي قضيت به 3 سنوات عجاف مرت وكأنها تسع لغياب أبسط ضروريات العيش والاستمرار، الكل مهدد بالموت عند حصول وعكة صحية فلا وجود لمستوصف ولا دواء ولا ماء نقي، لا ماء ولا كهرباء... غير خليها على الله»، وبلغة اليأس والحزن يردف: «ورغم ذلك فأنا منتصب القامة أمشي مرفوع الهامة أمشي في كفي طبشور وعلى كتفي مسؤوليات جسام.. ورغم تصورات الأهالي الذين يقولون إنني موظف وعندي أجرة شهرية فأنا محروم وأنا أمشي..». جمال معلم وفنان يتقن الإنشاد ويعزف على قيثارته كل ليل ألحان الالتزام بها ينسى هموما كثيرة، بيد أنه على ما يبدو لن ينسى للأهالي إهمالهم أثناء فترة مرض. يوضح ذلك قائلا: «ربما لكوني لا أتحدث بالأمازيغية يحرض الآباء أبناءهم ضدي ويمنعوهم من تقديم أي مساعدة ولو كانت شربة ماء، وسبق لي أن أصبت بكسر على مستوى الكتف ولم أر لون خبز أولئك الأهالي فبالأحرى طعمه!». في متاهات العزلة رحمة غاتر امرأة حازمة تتكلم بمرارة أكثر مستعملة كل ما من شأنه أن يبلغ معاناتها مع أهل الدوار، وفي مقدمتهم حارس المدرسة، حصلت هذه المعلمة على الإجازة عام 1990 وتدرس كمعلمة بمنطقة تبعد عن أكادير ب80 كيلومترا، منها 5 كيلومترات مشيا على الإقدام داخل مجرى في واد، تنتقل إلى الفرعية عبر سيارة الخطافة وهي عبارة عن أجزاء مفككة مشدودة بالحبال تشغل بواسطة تماس الأسلاك وبين الفينة والأخرى ينزل السائق ليسقيها ماء كي يطرد به دخان ينبعث منها، تقول رحمة: «في البداية كنت أرتبك وأشعر بالخوف الشديد كلما ركبت هذه السيارة فأبدأ في قراءة اللطيف بعيون مغمضة حتى الوصول، أما الآن فقد أصبحت المسألة عندي جد طبيعية وأدرب المعلمات الجديدات على ركوب هذه المغامرة». مشكلة رحمة الأساسية تكمن في غياب السكن وظروف الدوار المزرية التي تحتم على رجل التربية أن يعيش متفرجا على واقع البؤس حينما يطالب بأن يلقن أطفالا أبجديات فك رموز العالم الذي لن يستطع أن يواري فقرهم وهشاشتهم، تقول رحمة «ما يعذبني حقا أن أطالب بتنفيذ الواجب في متاهات العزلة والضياع بدون شروط موضوعية داخل أقسام أشبه بزنازين المعتقلين». دونت رحمة رحلتها في دروب التربية والتعليم في مذكرات تكتبها على تراخ زمني وحين سألناها عن سبب توقفها عن الكتابة أجابت ساخرة: «تتشابه الأيام ولا تختلف معاناتها». كتبت في إحدى مذكراتها التي أطلعتنا عليها: «يجيئني أطفال عرايا إلا من البرد القارس، ذات حصة وأنا ألقي الدرس انفجر الأطفال فجأة بكاء صامتا من شدة ما تجمدت أطرافهم، وما عادت أناملهم الصغيرة تستطيع الإمساك بالقلم والطبشورة.. احترت في أمرهم وخلصت بعد حزن عميق إلى إيقاف الحصة والخروج بهم للركض في الساحة من أجل ضخ الحرارة اللازمة في أجسادهم النحيلة.. استغرب المدير من هذا الخرق المفاجئ فأوضحت له سر الركض في ذلك الصباح فانصرف..»، وتابعت: «وقد اقترحت على آباء التلاميذ من خلال الجمعية أن يوفروا لأبنائهم التدفئة بالأقسام وما من جدوى، فما كان علي إلا أن حملت قارورة الغاز الوحيدة إلى القسم.. من أجل أن يمسك هؤلاء الأبرياء بالطبشور».. بين الدراسة والفلاحة وبعيدا عن المشاكل الاجتماعية والنفسية للمعلم سألنا عبد الواحد المعلم بمنطقة «تقي» بخصوص شعار تعميم التمدرس بالعالم القروي فأوضح بثقة عالية وبحجج واقعية أن الإحصاءات والأرقام والنسب التي تقدمها وزارة التربية الوطنية بهذا الخصوص مغلوطة ومجانبة للحقيقة ولما هو على أرض الواقع. يقول عبد الواحد: «قد تجد عدد المسجلين في مستوى يبلغ خمسين أو ستين تلميذا لكن عندما تلج القسم لا تجد سوى خمسة عشر أو عشرين تلميذا في أحسن الأحوال، شخصيا مسجل لدي في لائحة المستوى الأول ابتدائي 36 تلميذا، وعندما التحقت لم أجد ولا واحدا وانتظرت يوما بعد يوم وما من زائر، فاضطررت للطواف على مجموع الدواوير وطرق الأبواب وإقناع الآباء بإلحاق أبنائهم بالمدرسة لأحصل في النهاية على 16 تلميذا جلهم غير مواظب»، وعن سؤال حول معيار الحكم على الإحصائيات الرسمية أجابنا: «العملية سهلة وبسيطة فمع كل موسم دراسي يتوجه بعض المدراء إلى مكاتب الحالة المدنية ويطلبون من ضابطها مدهم بأسماء كل المزدادين في سن كذا (البالغين سن التمدرس) فيأخذون اللائحة ويبعثون بها إلى النيابة فالأكاديمية فالوزارة دون أن يراجعوا الآباء لمعرفة الميت من الحي أو المستقر من المهاجر.. إنها عملية إرضاء من أسفل نحو فوق للتغطية على واقع حقيقي يعج بالهدر المدرسي والنتيجة إحصائيات وأرقام وهمية». مصادر أخرى محلية أكدت لنا أن مجموعة كبيرة من الآباء ليست لديهم رغبة في تعليم أبنائهم لأنهم يفضلون إشراكهم في الأعمال الفلاحية لأن الطفل من منظورهم يجب أن يكون منتجا، أو وسيلة من وسائل الإنتاج في هذا الزمن الصعب، ليبقى التعليم بالنسبة لهم مجرد مضيعة للوقت. وتعليقا على هذا الكلام يقول معلم آخر بمنطقة أولوز: «لهم الحق فيما ذهبوا إليه لأن البرامج المقررة تزغرد في واد وهم يشقون في قمم الجبال، فلا معنى لأن تدرس للطفل الطريق المعبدة وهو يسكن في قمة الجبل لا يعرف غير المسالك الوعرة، فهو أشبه باللقلاق، فكيف ستعلمه البحر والحاسوب والهاتف المحمول والأضواء الثلاثة وشرطي المرور وهي أمور لم يسمع عنها ولم يرها قط حتى على شاشة التلفزيون لكون غالبيتهم لا يملكونه». سؤال الكفايات نسبة كبيرة من المعلمين ما يزال الخلط لديها بين التدريس بالأهداف والتدريس بالكفايات، إذ إنه «رغم الدروس واللقاءات والعروض والمحاضرات التي ألقيت علينا» يقول عبد الرحيم الذي يشتغل بنواحي حاحا، لم تستطيع الغالبية فك لغز الكفايات نظرا لكون الوزارة أسقطت البرامج والمناهج من عل كما أسقط الطفل الطائرة في البستان، والمفتشون يكتفون بالقول ( أنت أوجهدك ايلا عطيتي غير 40% من المردودية فتبارك ...) ويبدو من كلام هذا المعلم أنه غير راض تماما عن عمل المعلمين بالعالم القروي، يقول منتقدا: «إن ما يقوم به المعلم هو مجرد محو الأمية فقط، أمية القراءة والكتابة والحساب البسيط، والغريب أن يطالبنا المفتشون بالجودة وهم أعرف الناس بأن شروطها غير متوفرة ولو في حدودها الدنيا بحواضرنا وما بالك بقرانا». وعن المشاركة في الدورات التكوينية يضيف المصدر ذاته: «في كل لقاء نشرع في ترجمة المصطلح إلى اللغة الفرنسية بعد أن قلبناه يمنة ويسرة بالعربية فما انفك لغز الكفايات، وهكذا ترجمه لنا أحد المفتشين ب«capacité» ثم بcompètence ومصطلحات أخرى لكن لم يزدنا ذلك إلا غموضا»، شارك هذا المعلم في ثلاث دورات تكوينية وكانت الاستفادة كما يقول ضئيلة إلى منعدمة لأن التكوين لا يكون في محله إذ يتم إشراكهم مع أساتذة التعليم الثانوي الإعدادي والتأهيلي»..