اختفت العائلات الفاسية من الأعيان في تدبير الشأن المحلي، ولم يعد المواطن العادي يسمع عنها أي شيء بعدما كانت طيلة عقود سابقة هي التي تتناوب على زمام المجالس والجماعات بفاس. وظهرت في المقابل نخب جديدة أنتجتها هوامش المدينة وأحياؤها الفقيرة وتمكنت من صنع إشعاعها وتصديره ليصل إلى جل ربوع الوطن، وخصوصا إلى فضاءات صنع القرار بالعاصمة الرباط. ولم يقتصر الأمر على انسحابات أعيان فاس القدامى من الشأن المحلي، وإنما غابت أسماؤهم في الهياكل الوطنية والمحلية لأحزاب عريقة في هذه المدينة، من قبيل حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، وهما الحزبان الرئيسيان المتناوبان على السلطة فيما مضى في فاس قبل أن تدخله أحزاب «مغمورة» بنخب الهامش وتصنع لها سمعة وأنصارا يزدادون في الارتفاع كحزب العدالة والتنمية الإسلامي، والحزب الاشتراكي الموحد اليساري. وهي الأحزاب التي يراهن عليها الكثيرون من أجل إنقاذ المدينة من التدهور الاجتماعي الذي أصابها. وهكذا لم يعد المواطن بفاس يسمع عن عائلات من قبيل عائلة الدباغ وبابا الفيلالي، وبنجلون التويمي والدويري والتازي وغيرها. وتزامن اختفاء العائلات الفاسية من الشأن المحلي مع بداية عقد التسعينات من القرن الماضي، وهو العقد الذي تميز باحتجاجات كثيرة في هوامش المدينة وبتوتر اجتماعي استدعى تدخل الجيش في بعض الأحيان وإعلان حالة الطوارئ بالمدينة. ويوحي هذا الاختفاء من الساحة بفشل هذه النخبة في تسيير شؤون المدينة وإهمال أحيائها الشعبية، في مقابل الاهتمام بمصالح «النخبة المدينية» التي يظهر بأن لها أصلا من الامتيازات الشيء الكثير. وأفرزت الانتخابات المحلية أسماء مغمورين تمكنوا في ظرف وجيز من مراكمة الثروات ومن تهدئة الأوضاع داخل الأحياء الهامشية. وتعتمد هذه النخبة «الهامشية» سياسة القرب من مشاكل السكان وإيجاد حلول ترقيعية لها، كغض الطرف عن البنايات العشوائية والرخص ومنح بعض الامتيازات للمقربين، والتدخل لدى بعض الإدارات والمؤسسات لمعالجة بعض المشاكل العالقة لسكان هذه الأحياء والتقرب من مجموعات السكان مهما كانت توجهاتهم وسلوكاتهم الشخصية. وتطور أداء بعض هذه النخب «الهامشية» ليتجاوز مقاربة التهدئة إلى مقاربة أخرى تكمن في قطع الطريق على السلفيين من الانتشار بأعداد كبيرة في الأحياء الهامشية، ومن قطع الطريق، من جهة أخرى، على إسلاميي العدالة والتنمية، وزرع العراقيل أمامهم لكي لا «يستولوا» على الشأن المحلي لمدينة كبيرة وتاريخية مثل فاس. وفي هذا الإطار يرى امحمد لقماني، وهو ناشط جمعوي بالمدينة، ومدير لجريدة «المعلومة» الجهوية، بأن اختفاء النخبة الفاسية من الساحة المحلية يعود إلى صراع مفتوح شهدته العاصمة الرباط آنذاك بين إدريس البصري، وزير الداخلية القوي في تلك المرحلة، وبين العائلات الفاسية. ويقول لقماني في تصريح ل«المساء» إن البصري وجد في أحداث 1990 فرصة تاريخية لحسم الصراع لصالحه ولصالح ما يعرف ب«العروبية» ضد العائلات الفاسية. ويضيف هذا الناشط الجمعوي والذي يرأس جمعية حماية المال العام بفاس أنه عوض أن تكون هناك مقاربة اجتماعية شاملة للوضع بفاس، تم اللجوء إلى «خدمات» بعض الأسماء التي ظهرت إبان ما يعرف بانتفاضة 1990 بالمدينة. ويورد بأنه، وأمام «الحصار» المفروض آنذاك على المدينة، اضطرت العائلات الفاسية والتي تعمل أساسا في قطاع المال والأعمال إلى الهجرة نحو العاصمة الاقتصادية والبحث عن فرص استثمار واعدة في الأسواق الإفريقية. ويذهب إلى أن هذا الوضع أدى إلى إنتاج نخب جديدة كان وضعها الاجتماعي هشا، لكن بدخولها إلى الساحة واستحواذها على مجال العقار استطاعت أن تصبح من الأعيان على المستوى المحلي وأن تنشر أسماءها حتى على الصعيد الوطني. ويشير إلى أن هذه النخب هي التي لعبت دور مطفئ الحرائق في الأحياء الهامشية بشكل مرحلي ومؤقت. ويعتبر لقماني أن هذه المقاربة أتت أكلها على المدى القصير، لكنها ستكون سلبية على المدى المتوسط. وحذر هذا الناشط الجمعوي من تبعات هذه المقاربة، قائلا إن الوضع الاجتماعي في المدينة يزداد في التراجع، وهو ما يغذي استفحال الجريمة وغيرها من مظاهر التطرف.