رشيد نيني إذا كان انهيار عمارة في القنيطرة قد «سلط» الضوء من جديد على ظاهرة انهيار المباني السكنية، فإن آلاف المواطنين من ساكنة البيوت الآيلة للسقوط في فاس يتعايشون يوميا مع حيطان مساكنهم المدعومة بالعوارض الخشبية التي تمسك بها السلطات المحلية الأزقة والممرات حتى لا تقع فوق رؤوس السياح والعابرين. هذه المدينة العريقة التي تقاوم معالمها الانهيار يوميا وتبدو مثل عجوز تتحرك مسنودة بالعصي واضعة على فمها «العكر الفاسي»، تستعد هذه الأيام للاحتفال بالذكرى 1200 لتأسيسها. وإكراما لهذه الذكرى يستعد السيد شباط عمدة المدينة لإطلاق مجموعة من المشاريع العظيمة التي سيكلف إنشاؤها السكان حوالي 20 مليون درهم. ولو أن هذا الغلاف المالي كان سيذهب لترميم قلب المدينة المصاب بالانهيار لهان الأمر، لكن السيد شباط يحب النافورات والرشاشات أكثر من ترميم البيوت الآيلة للسقوط، ولذلك يخصص 20 مليون درهم من أموال دافعي الضرائب لشراء 12 نافورة و1200 رشاشة مياه. كما سيخصص 17 مليون درهم لتربية العشب وتعهده بالسماد والمبيدات والسقي، وغرس 1200 نخلة و1200 شجيرة من تلك الشجيرات التي تكون بجانب الطرقات. كما يخصص برنامج السيد شباط الاحتفالي بالذكرى 1200 لتأسيس فاس غلافا ماليا لجمع أوراق الأشجار الميتة وجذوعها اليابسة، والأهم من ذلك كله، ميزانية لرش هذه المساحات الخضراء بروث البهائم اليابسة من «النوع الممتاز» من فضلكم. وبالنسبة لهذه المهمة أعتقد أن السيد شباط ليس مطالبا بالبحث عن شركة يمنحها «المارشي» كما فعل مع شركة «زينيليك» التي رست عليها صفقة النافورات ورشاشات المياه، إذ ليس أمامه سوى أن يتعاقد مع البغال التي تنقل لشركة كوكاكولا بين أزقة فاس الضيقة صناديق الموناضا للحوانيت، لكي يقايضها روثها بالشعير. وبما أنه مشغول دائما بما هو أهم من الروث والشعير، فما عليه سوى أن يكلف كاتبته الخاصة بهذه المهمة، فيبدو أن «سعادتها» تفهم في كل شيء. ففاس التي يستعد سعد الكتاني، الذي أسندت إليه رئاسة اللجنة المنظمة للتظاهرة بعد أن فشل على رأس اللجنة التي تكلفت سابقا بالترويج لتنظيم كأس العالم في المغرب، للاحتفال بعيد ميلادها 1200 لازال للبغال فيها دور مهم. فبدونها كانت شركة كوكاكولا ستتكبد خسائر فادحة في الأرباح، وكانت ستضيع عليها فرصة الوصول إلى مئات الدكاكين المنتشرة في قلب المدينة العتيقة. ومن بين المشاريع التاريخية العظمى التي يستعد عمدة المدينة الاستقلالي السيد شباط لتدشينها احتفالا بذكرى تأسيس فاس، عرضه للبيع معلمة تاريخية اسمها «المارشي صونطرال» بغلاف مالي يصل إلى 100 مليون درهم. وعوض ترميم هذه المعلمة وإدخالها ضمن المعالم التاريخية للمدينة سيتم تدميرها لكي ينهض مكانها فندق. كل هذه المنجزات العظيمة تحدث عنها مراسل إحدى اليوميات الفرنكوفونية لجريدته في صفحة كاملة، بكثير من الحماس والافتخار. وعندما نعرف أن المراسل ليس شخصا آخر غير زوج ابنة العمدة شباط نفهم سر هذا الحماس. فالصحافي «يضرب الشيتة لنسيبو»، «نسيبو» الذي بدوره يمنح الشركة الإشهارية التي توجد في اسم والد الصحافي، والتي تحتكر مجموعة من اللوحات الإشهارية في فاس، عقود إشهار مدرة للدخل. وهكذا يخرج الجميع رابحا في هذه الصفقة الإشهارية العائلية. والخاسر الأكبر طبعا يبقى هو فاس العميق، حيث يستحيل أن تدخل بعض الأحياء دون أن تصاب بالدوار بسبب الروائح الكريهة والمزابل المنتشرة في كل مكان. حتى أصبح ينطبق على فاس تلك الحكمة المغربية التي تقول «المزوق من برا آش خبارك من لداخل». فمن يزور فاس ويرى الزهور والورود والنافورات على طول شارع الحسن الثاني وعلال بن عبد الله ومولاي يوسف، يظن أنه في واحدة من مدن السويد. وبمجرد ما ينزل إلى ظهر المهراز وعوينات الحجاج وبن دباب والمدينة القديمة ويرى كل تلك الأحياء الصفيحية ومطارح الأزبال والبيوت المسنودة بالأخشاب، يظن نفسه في كابل أو مزار الشريف. إنه لمن المخجل أن تكون نسبة الإجرام في فاس، بعد 1200 سنة على تأسيسها، من بين أعلى النسب في المغرب. وإنه لمن المخجل أن تكون عاصمة المغرب العلمية مسيرة من طرف عمدة ليست لديه من شهادة أخرى غير شهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله. وإنه لمن المخجل أن تكون عاصمة العلم والعلماء اليوم مهددة بالانهيار فوق رؤوس سكانها، بعد أن شحذت بهم الحكومة والدولة وجمعية فاس سايس في أروقة البنك الدولي وردهات منظمة اليونيسكو حاملين تحت أذرعهم مشروعا وهميا اسمه «مشروع إنقاذ فاس» انطلق منذ 1973 وتوقف في بداية ألفين بسبب نهب الإعانات المالية التي كانت ترسلها هذه المؤسسات العالمية كل سنة إلى الجهات التي رشحت نفسها لمهمة الإنقاذ. أتذكر عندما كتبت تحت هذا الركن نفسه قبل خمس سنوات، في جريدة أخرى، عمودا تحت عنوان «العكر الفاسي» انتقدت فيه الطريقة البهلوانية في تزويق بعض الأماكن والشوارع في فاس، وشبهتها بالعجوز التي يقوم المسؤولون بطلي العكر الفاسي على شفتيها لكي تبدو أصغر من سنها في أعين السياح. وانتقدت كيف أن جمعية فاس سايس التي كان يرأسها آنذاك القباج، والي الدارالبيضاء الحالي، قامت بترميم الأماكن التاريخية التي تستغلها في مهرجان الموسيقى الروحية السنوي الذي تقيمه وتجني من ورائه أرباحا تدخل أرقامها في عداد أسرار الدولة. فغضب المستشار الملكي القباج، واتصل بنور الدين الصايل مدير القناة الثانية آنذاك حيث كنت أشتغل، وطلب منه توقيفي عن كتابة عمودي في الجريدة. وامتثل للأسف الصايل لرغبة المستشار الملكي واستدعاني إلى مكتبه وخيرني بين تقديم استقالتي من القناة والاستمرار في الكتابة وبين التوقف عن الكتابة والاستمرار في العمل بالقناة. وكنت قد عبرت عن عدم رغبتي في التخلي عن الكتابة اليومية تحت أي تهديد، وبعد أخذ ورد قبل المدير بأن أكتب مرة في الأسبوع. ولم أعد للكتابة اليومية إلا بعد أن أقيل المدير من منصبه وألحق بالمركز السينمائي المغربي. فالماسكون بزمام الأمور في فاس، من حي كاليفورنيا بالدارالبيضاء، لا يحبون من يحاول إزالة آثار هذا «العكر الفاسي» من فوق الشفاه المشققة لمدينة عريقة تحتضر ببطء تحت أقدام بعض الجهلة والأميين وأشباه المسؤولين. وإذا كان العمدة شباط ومجلسه يستعدون لتخليد ذكرى تأسيس فاس بالورود والنافورات ورشاشات المياه، فإن نائبا من أحد الأحزاب الاشتراكية المتحالفة مع شباط، بمساندة من الجماعة الحضرية لأكدال وأكاديمية فاس والنادي الفاسي لكرة المضرب، قد ابتدعوا شكلا جديدا من أشكال الاحتفال بالذكرى 1200 لتأسيس فاس. وذلك بتنظيم «الدوري الأول في كرة المضرب» وسط حي صفيحي من أحياء ظهر المهراز تحت شعار «لنجعل من كرة المضرب رياضة شعبية للجميع». وشوفو الطنز. وهكذا تبادل ستة عشر لاعبا الكرات فوق الملعب المحاط بالبراريك من كل جانب، أمام أنظار قائد المنطقة وبعض المستشارين الجماعيين وممثلين عن السلطة العمومية، والعشرات من ساكني الدوار الذين جاؤوا لكي يروا كيف يريد البعض جعل كرة المضرب التي ارتبطت في المغرب بأسماء من قبيل أرازي والعلمي، تتحول إلى رياضة شعبية يمكن أن يمارسها البوهالي والبودالي وغيرها من الأسماء التي لا يمكن أن تسمعها سوى في برنامج «مختفون». ولن نستغرب إذا سمعنا أن سعد الكتاني رئيس المؤسسة المشرفة على تخليد ذكرى تأسيس فاس، يستعد لتنظيم دوري في الغولف في مزابل ظهر المهراز. على العموم إذا فكر في هذه المبادرة فلن يعدم الحفر. فهي مبنية من عند الله، ولن يحتاج إلى حفرها. كذلك الشأن بالنسبة للبرك المائية، فالأمطار الأخيرة ستعفيه من صرف ميزانية لتصميمها. وكل عام وأنتم بخير.