تعتبر مدينة فاس الكبرى، من أهم التجمعات الجغرافية و السكانية بالمنطقة بحيث تحتضن بين ظهرانيها مقاطعات ووحدات ترابية بالضواحي تشكل تكتلا تعسفيا على تضاريس و تقاطيع سهل سايس بعيدا عن أية رؤية للتدبير و التنمية و مستقبل هذه المدينة العريقة التي أضحت تتجاذبها تحديات و قضايا تشغل بال الشارع الفاسي بمختلف أطيافه و مكوناته المجتمعية و التي ترتبط ارتباطا عضويا بكل المداخل الممكنة للاقتراب من حق المواطن في السكن اللائق أمام مرآة الخطابات التي تملأ أحاديث مسلسل الأنوار المشرعة على عتمة اسمها السكن الاقتصادي الذي تحول إلى شعارات حماسية جوفاء و استهلاكية في تعاطيه مع ظاهرة ما تسميه الجهات الرسمية بالأحياء الناقصة التجهيز التي توالدت أرنبيا بجميع أنحاء مدينة فاس بعد أن نمت عشرات الآلاف من المنازل و الأحياء السكنية العشوائية و التي تغيب عن بيوتاتها عوامل الأمان الإنشائية، لكنها غدت أمرا واقعا يقطنها حوالي مائة ألف نسمة.. واقع يطرح مجددا أسئلة و يسمح برصد عدة اختلالات سنروم عرض بعض منها في هذه الورقة التي تسوق معاناة اولائك الذين اكتووا بنيران أكواخ الاسمنت و البيوت القصديرية و الكرطونية و الذين حاولوا بمعاناتهم و صيحاتهم المدوية تشخيص مظاهر الاختلال التي تعيشها فاس الكبرى على مستوى أهم معادلة في مجال السكن اللائق الذي يحفظ للمواطن كرامته و آدميته. جولة ميدانية جريدة الاتحاد الاشتراكي، تنقلت و جالت عبر فضاءات الفقراء و المعدمين القابعين بالمناطق العشوائية الممتدة بالكثير من أحياء فاس السكنية، الصاخبة بحركية أهلها و تكاثر أبنية أحيائها التي تتراءى لك أشبه بعلب كبريت متراصة ارتفاعا فوق بعضها البعض، فيما تخترقها الأزقة التي تتسع و تضيق وتتوزع عبر اليمين و الشمال تبعا لجغرافية المنطقة و التحديات العمرانية التي أنتجت حركة بناء نشيطة لم تسلم منها حتى المنحدرات التي يصعب السير فيها على الأقدام و جنبات الأودية كما هو الحال بحي بن سليمان و البورنيات و عوينات الحجاج و غيرها من الأحياء بالمناطق العشوائية، و التي لا يوحي مظهرها الخارجي بالاطمئنان لما تمثله من صور مرة لمعاناة يومية لساكنة هذه الفضاءات ابتداء من الدخول إليها والخروج منها وصولا إلى باقي الخدمات المفقودة. البداية تعرضت مدينة فاس خلال العقدين الأخيرين لحركة نزوح نشطة لسكان البوادي و القرى المحيطة بها في موجات نزوح متتابعة بسبب الفقر و الجفاف الذي ضرب المنطقة بشكل دوري خلال العقود الماضية.فمدينة فاس و بحكم موقعها الجغرافي كنقطة التقاء أهم المحاور الطرقية الرئيسية، فقد شكلت قبلة لاستقطاب الساكنة القروية بهذه الجهة، مما أدى إلى إحداث تغيير جوهري في بنية سكانها الذين تفاقمت أوضاعهم و ارتفعت في أوساطهم معدلات البطالة التي تزيد في بعض التجمعات السكانية عن 50 بالمائة، أما الدخل الفردي فلا يتجاوز 10 دراهم في اليوم،وما يعنيه ذلك من انحدار مخيف للقدرة الشرائية إلى أدنى مستوياتها بالأحياء الشعبية التي تعيش وضعية مأساوية أمام تزايد لجوء سكانها إلى تلبية حاجياتهم في مجال السكن.مما أدى إلى ظهور أشكال من الأحياء و السكن غير اللائق المهدد على الدوام بالانهيار و الذي لم تسلم منه مختلف مقاطعات مدينة فاس (اكدال، المرينيين، زواغة، الجنانات، سايس، فاسالمدينة)، فتشكلت بذلك أحياء الصفيح و آلاف العشش و الدروب الضيقة التي تحولت إلى بقع سوداء شوهت رداء العاصمة العلمية بعد أن حاصرتها من كل الجهات، فيما عجزت رزنامة قرارات الهدم، التي ظلت موقوفة التنفيذ و حبيسة الرفوف، عن إنقاذ المدينة من براثين أحزمة الطوق الجاثمة على أنفاسها. ذروة المعاناة بأحياء المناطق العشوائية المترامية الأطراف بفاس الكبرى ( حي"45"، ظهر الخميس، بن سليمان، البورنيات، ازليليك، عين هارون، الجنانات، صهريج اكناوة، حي السلام و مناطق أخرى بالمدينة القديمة) تتفاقم معاناة ساكنة االأحياء الحساسة و«المناطق الآهلة المنسية» بسبب اتساع رقعتها وتكاثر أحيائها و ارتفاع كثافتها السكانية،وما يصاحبها من اختلالات في العلاقات الاجتماعية،حيث كشفت دراسات عن وجود علاقة جدلية بين زيادة نسبة الجريمة و ارتفاع الكثافة السكانية بأحياء البناء العشوائي غير اللائق و التي تعاني ساكنتها الفقر و الحرمان و كل المظاهر التي تخدش الكرامة و تدفع إلى الإحساس بالدونية و «الحكرة». فبهذه الفضاءات التي تملأ المناطق العشوائية بفاس، تستوقفك أزقة ضيقة بالكاد يستطيع المرء أن يعبرها راجلا، فهي مكدسة بالأبنية العشوائية التي بلغ علوها بهذه الأحياء الطابق الثامن و لايزال الحبل على الجرار لتشييد المزيد تحت سمع القانون و عيون السلطات،بعد أن تحولت الطوابق العشوائية إلى ناطحات سحاب تحجب ولوج أشعة الشمس إلى داخل البيوت المليئة بالرطوبة الشديدة محولة إياها إلى مقابر جماعية تحوي جثثا متحركة، كما عبر عن ذلك أحد قاطني هذه الدور بقوله:«كما ترى راحنا عايشين هنا في أكواخ من الاسمنت، الضوء ديما شاعل ليل نهار من كثرة ارتفاع الطوابق القريبة جدا من بعضها البعض، أولادنا ديما شادهم الكحبة و الرواح بسبب الرطوبة المفرطة». كل آراء و تصريحات ساكنة هذه الفضاءات ممن تمكنا من محاورتهم و التحدث إليهم، أكدت أن عدم اكتراث الجهات المعنية بواقع هذه الأحياء التي طبعتها مظاهر الريف و النمط القروي في غياب شبه تام للبنيات التحتية التي لم تواكب النمو السكاني وما يتطلبه من مرافق و تجهيزات، جعلت سكان هذه الأحياء المنسية تحيى حياة تفتقد إلى ابسط مقومات العيش الكريم، فأفراد العائلة الوحيدة يتكدسون في حيز مكاني ضيق أثناء النوم وكأنها علب سردين،حيث أن الذكور يجبرون على المبيت في الخارج حتى لا يشعروا بالحرج و أجسادهم تلتصق بأجساد اخواتهم الإناث، مما يجعلهم عرضة للانحراف و الانغماس في عالم جلسات الخمر الليلية بالدرب في محاولة منهم للهروب من مرارة ظروفهم الحياتية..فليس لهم سوى السهر ليلا و الخلود إلى النوم نهارا. فقد يرصد زائر الأحياء الفقيرة في فاس، أنها تنقسم إلى قسمين، قسم أحياء دور الصفيح ويقطنها حسب بعض الإحصاءات غير الرسمية، زهاء 150 ألف شخص يقيمون ببيوت من القصدير هي أشبه بالأكواخ ارتفاعها اقصر من قامة ساكنيها..جدرانها من الطوب و سقوفها من الأخشاب و القصدير، فهي لا تصلح للسكن الآدمي..شديدة الحر صيفا بسبب امتصاص صفائح القصدير لأشعة الشمس و افتقادها للتهوية الضرورية ، في حين تتحول في فصل الشتاء إلى ثلاجات كبيرة. أما القسم الثاني من الأحياء الفقيرة فيتألف من الأحياء الهامشية التي تم بناؤها بشكل عشوائي وأصبحت اليوم مركز الثقل السكاني في المدينة ويقطنها حوالي ثلث سكان المدينة الذي يناهز مليون شخص. وتنتشر دور الصفيح في ضواحي المدينة ومن أشهرها أحياء عوينة الحجاج وبرج الكيفان وحي المسيرة و دوار العسكر حيث لقب بعض هذه الأحياء بأسماء مثل «الشيشان» و«قندهار» ارتباطا بظاهرة العشش و الخراب و البيوت الواطئة التي انتشرت بها كالفطر وتكاثرت أحياؤها و اتسعت رقعتها بالرغم من تفاقم مشاكلها و معاناة قاطنيها الذين اجمعوا على غياب معظم الخدمات بدءا من غياب مياه الشرب بحيث تنتشر ساقيات الماء بالحنفيات العمومية التي تحوم حولها النساء و الأطفال لملء المياه في العبوات البلاستيكية و حملها لمسافات طويلة مما دفع السكان إلى اعتماد الحلول الخاصة كأن يمد أحدهم شبكة بطول يصل أحيانا إلى الألف متر لتزويد منزله بماء الحنفيات العمومية و ما قد ينتج عن هذا السلوك من صراعات و مواجهات، كما انه لا توجد شبكة نظامية للصرف الصحي حيث يلجأ السكان إلى تنفيذ شبكات خاصة بهم عشوائية تصب في النهر على مدخل الحي أو في شكل مجاري مكشوفة تملأ المكان بمياهها العادمة مما يزيد في تلوث البيئة وانتشار الروائح والحشرات والقوارض وازدياد الإصابة بمرض الليشمانيا.فحتى الكهرباء ، الخدمة الوحيدة المتوفرة ، فهي غير مستقرة وأعطابها أكثر من انقطاعها! أما الأزقة الضيقة و شوارعها الفرعية فإنه يغيب عنها التعبيد لتبقى مغبرة صيفا وموحلة شتاء.. ليبقى حال هذه الفضاءات المغايرة تماما لأحياء الواجهة، أو كما يروق للكثيرين بأن يسموها ب"أحزمة الطوق" أو أحياء العمق لاحتوائها على جزر منعزلة لا وجود بها لحياة تخلب الألباب، من بين أخطر الملفات العالقة حاليا في مدينة فاس التي تتناسل بها المناطق العشوائية أرنبيا مع إيوائها ل 48 حيا صفيحيا تقطنها 1420 أسرة ممتدة على مساحة إجمالية تقدر ب63 هكتارا، و التي أعلنت مصالح المراقبة و تتبع الأوراش وكذا بعض المقاولين المتاجرين بصحة و سلامة المواطنين المغلوبين على أمرهم، أبطالا للموضوع بسبب تحملهم لجانب من مسؤولية حيال تفشي أكواخ الاسمنت باستثمارهم فوق أراض غير مؤهلة البناء يعاني قاطنوها على الدوام من وطأة الرطوبة و الخوف.. تمخضت عنها أحداث مؤلمة عرفتها انهيارات بعض المنازل بكل من المدينة العتيقة و أحياء السكن غير اللائق و لم تسلم من هذه الظاهرة حتى العمارات و البنايات التي قامت بإعدادها الجهات المعنية في إطار برامج إعادة إيواء قاطني الدور المهددة بالانهيار و بعض جيوب الدور الصفيحية و التي تعاني هي الأخرى من تناسل الشقوق و الانهيارات الأرضية، أما ما خفي في النسيج العمراني العتيق بالدور الآيلة للسقوط فهو أعظم مما ساق أصحاب الحل و العقد بفاس إلى تدعيم أكثر من 1082 بناية بالأعمدة الخشبية (أكثر من 3 مليارات) حولت مآثر فاس و دورها و أسواقها و دروبها إلى أوراش مفتوحة تزرع الخوف في نفوس المارة الذين قد يجبرون مستقبلا على حمل الخوذات الواقية للمرور و أجسادهم تتملكها القشعريرة جراء مظاهر الرعب التي أحدثتها مشاهد تدعيم عوارض الدور العتيقة بالخشب و التي تأوي آلاف الأرواح المعلقة بين جدران الموت ليبقى الخرق الدائم للقوانين العمرانية التي يتحكم فيها العامل التجاري المحض في أموال الفقراء و المعدمين وكذا الحسابات السياسوية الضيقة فيما قد يعتبر ترتيبات سياسية للتغلغل الجماهيري و التي حولت القاعدة القانونية إلى الاستثناء الذي أحدث الاختلالات و «الزلازل» الكبرى التي لم ترصدها سلاليم ريشتر في وقوفها ضمن خانة النقيض للاختيارات العمرانية و السكنية المعلنة.