لعلها الصدفة التي تجسد حال الانهيار القيمي والأخلاقي، تلك التي تمثلت في إقدام القوات الإسرائيلية على ارتكاب مجزرة في قطاع غزة في الوقت الذي كان يستقبل فيه الرئيس جورج دبليو بوش استقبال الأبطال، يرقص العرضة التقليدية، ويتلقى السيوف المذهبة، وأنواط الشجاعة، ويتذوق المأكولات العربية الشهية. فإيهود أولمرت، رئيس الوزراء الإسرائيلي والصديق الحميم للرئيس بوش، باعترافه في كلمته الترحيبية التي ألقاها لحظة الاستقبال في مطار بن غوريون، ما كان يقدم على هذه المجزرة، لو كان يعتقد أنها يمكن أن تشكل إحراجا له أو لمضيفيه في أرض الحرمين الشريفين. الأمر الذي يؤكد أنها جاءت نتيجة اتفاق مسبق، وفي إطار استراتيجية إعلان الحرب على دول محور الشر والمنظمات المرتبطة بها، والفلسطينية منها على وجه الخصوص. الرئيس الأمريكي لم يأت إلى المنطقة من أجل تحقيق السلام وإقامة الدولة الفلسطينية، وإنما من أجل تثبيت دعائم إسرائيل كدولة يهودية عنصرية، وبناء التحالف الجديد الذي سيضمها مع دول خليجية أخرى لمواجهة النفوذ الإيراني المتصاعد، على حد وصفه، فالرجل لم يستطع إزالة حاجز واحد من ستمائة حاجز في الضفة الغربية أو مستوطنة واحدة غير شرعية، فكيف سيقيم دولة ويتعامل مع قضايا الوضع النهائي؟. فعندما يسقط الرئيس الأمريكي مصر الدولة العربية الأكبر، ووسيط السلام المعتمد من جولته الحالية، ويتوقف فيها لبضع ساعات من أجل رفع العتب، ويطالبها بتبني دور جديد وهو قيادة المد الديمقراطي، وليس السلام في المنطقة، فإن هذا يعني أن الثقل الأساسي في الاستراتيجية الأمريكية، والغربية بشكل عام، انتقل إلى منطقة الخليج. فسورية محاصرة، ومصر مهمشة كليا، والعراق خاضع للاحتلال، والمغرب العربي معزول، وليبيا تتخبط، والسودان غارق في أزمات دارفور والجنوب، واليمن يواجه خطر الانفصال والتفتيت، ولبنان يعيش فراغا دستوريا ويقف على حافة هاوية الحرب الأهلية واللااستقرار الأمني والسياسي. وهكذا لم تبق غير منطقة الخليج متماسكة لكي تنفرد بها واشنطن والدول الأوروبية الأخرى وامتصاص عوائدها النفطية الهائلة في صفقات أسلحة ضخمة. جولة الرئيس بوش الحالية تركزت بالدرجة الأولى على إسرائيل ومنطقة الخليج، أي العالم العربي الجديد، وأسقطت العالم العربي القديم كليا، لأن النفط وإسرائيل هما القرنان اللذان تدور عليهما رحى السياسة الخارجية الأمريكية حاليا. وكان لافتا أن منطقة الخليج شهدت جولتين على درجة كبيرة من الأهمية، الأولى للرئيس بوش، والثانية لنيكولا ساركوزي حليفه الجديد في العداء لمحور الشر العربي-الإيراني، فالأول اتفق على صفقات أسلحة للمملكة العربية السعودية بأكثر من ثلاثين مليار دولار، والثاني بعشرين مليارا أخرى، ووقع اتفاقا بإقامة قاعدة عسكرية فرنسية في أبوظبي عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة. الاقتصاد الغربي يقف حاليا على حافة حالة من الركود، بدأت تنعكس بشكل واضح على تراجع متسارع في أسهم الشركات العالمية، فبورصة لندن خسرت سبعة آلاف نقطة في أقل من شهر، ووصلت الأسهم الأوروبية الأخرى إلى أدنى معدلاتها في عامين تقريبا، والشيء نفسه يقال عن نظيرتها الأمريكية، وليس هناك غير النفط العربي لكي يكون وعوائده عجلة الإنقاذ الأوحد في هذا الصدد. فلم يكن مفاجئا أن يطلب الرئيس بوش من مضيفيه السعوديين، وسط انشغاله بالرقص بالسيوف، تخفيض أسعار النفط، من خلال زيادة الإنتاج بأكثر من مليون برميل يوميا. عزل منطقة الخليج، عن قضايا المنطقة الأساسية في فلسطين والعراق، وربطها بالكامل مع الخطط الأمريكية، والتفرد بها بالشكل الذي رأيناه أثناء جولتي بوش وساركوزي سينعكس خطرا على جميع دول المنطقة، لأن الأمن القومي العربي مترابط، ووحدة متكاملة، وأي محاولة لتفتيته ستترتب عليها نتائج خطيرة جدا. مضافا إلى ذلك أن هناك قوى عظمى صاعدة مثل الصين والهند أقرب إليها من واشنطن جغرافيا على الأقل. صحيح أن دول العالم العربي القديم مثل مصر وسوريا على وجه الخصوص تخلتا عن دوريهما في قيادة المنطقة بسبب قصر نظر بعض قياداتهما، والانجرار خلف الإملاءات الأمريكية في العراق على وجه الخصوص مثلما هو حال مصر، ولكن هذا الانسحاب ربما يكون مؤقتا، فالدولتان إذا ما قررتا التمرد، منفردتين أو مجتمعتين، تستطيعان خلط الأوراق وقلب الأمور رأسا على عقب في المنطقة. الخطأ الأكبر في التوجهات الأمريكيةالجديدة لا يتمثل فقط في عزل سوريا ومصر عن أمن الخليج، وهما اللتان كانتا العمود الفقري فيه، ولولاهما لما تحررت الكويت، وإنما أيضا عن القضية العربية المركزية الأولى فلسطين، واستبدالها بإسرائيل بعد أن تحولت إلى صديق في مواجهة العدو الأكبر الجديد للعرب وهو إيران. إننا نرى بوادر صحوة، ومؤشرات تمرد، إن لم يكن على مستوى القيادة في مصر، فعلى مستوى الشعب ومؤسسات المجتمع المدني على وجه الخصوص، بعد أن طفح كيل الطرفين من شدة الإهانات التي لحقت ببلدهما على أيدي إسرائيل وأمريكا وعمليات الابتزاز المستمرة من نظام هرم فاقد الرؤية والبوصلة الوطنية منها والإقليمية. الإدارات الأمريكية المتعاقبة حاولت أكثر من مرة فصل الخليج عن المستودع البشري والراديكالي في مصر وسوريا والمغرب العربي بتهميش القضية الفلسطينية بجعلها ثانوية لحساب قضايا أخرى طارئة في حينها، مثل الحرب العراقية-الإيرانية، ثم بعد ذلك حرب احتلال الكويت، وتأسيس منظمة إعلان دمشق، وأخيرا شيطنة إيران وجعلها الخطر والعدو الأكبر للعرب. ومثلما فشلت المحاولات الأولى في إعطاء أكلها، ستفشل المحاولة الحالية التي يتزعمها الرئيس بوش وبعض القيادات الخليجية الجديدة ذات الميول الأمريكية. فلسطين كانت دائما القضية المحورية، وستظل كذلك، وما يجري حاليا في قطاع غزة من مجازر وسط صمت عربي وتواطؤ عالمي، ربما يكون عنصر التفجير الذي يقلب كل المعادلات. فالمقاومة لن تهزم، ومشروع بوش لن يعطي ثماره. إسرائيل تشن حاليا حرب إبادة بالتقسيط ضد الشعب الفلسطيني، وسيسقط شهداء كثيرون في الأيام المقبلة، مثلما سقطوا على مدى ستين عاما ماضية، فالشعوب لا تختار أقدارها، وبعضها لا يهرب من المواجهة، والشعب الفلسطيني عنوان رئيسي في هذا الإطار. الحرب الإسرائيلية هذه دموية بكل المقاييس، ولكن قد يأتي الخير من باطن شرها، فالسلطة الفلسطينية في رام الله في النزع الأخير، والمفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية التي أطلقها بوش في أنابوليس باتت قنبلة موقوتة ستنسف الطرف الفلسطيني الغارق فيها، وربما يخسر الرئيس عباس بعد أن خسر الضفة. المجزرة الإسرائيلية الأخيرة، طهرت حركة حماس من كل أخطائها، وهي كثيرة، وأعادت التفاف الشعب الفلسطيني حولها وفصائل المقاومة الإسلامية الأخرى، وأضعفت موقف فريق الرئيس عباس، وأفقدته ما تبقى له من مصداقية في أوساط القلة الفلسطينية. فهكذا تكافئ أمريكا وإسرائيل حلفاءهما. الغارات والتوغلات الإسرائيلية ستستمر في غزة ونابلس وجنين، وعدد الضحايا سيرتفع يوما بعد يوم، ولكن ما لا تدركه القيادتان الإسرائيلية والأمريكية أنهما لا تقضيان على المعتدلين الفلسطينيين فقط، وإنما على الأجنحة المرنة في صفوف حماس نفسها، فمحمود الزهار بات الأكثر شعبية بعد فقدانه نجله الثاني شهيدا إلى جانب شقيقه الأكبر، لأنه أثبت أن قيادات حماس تضحي بأبنائها وليس بأبناء الآخرين، وأن هؤلاء الأبناء هم مقاتلون وليسوا منخرطين في البزنس والصفقات التجارية. السياسة الخارجية الأمريكية تدخل حاليا حقل ألغام جديد، شديد الانفجار، ولعله يكون الخطأ الأخير الذي يمهد لصعود الصحوة العربية والإسلامية المنتظرة.