طنجة اليوم ليست هي طنجة الماضي. طنجة اليوم تساوي ذهبا، وترابها أضحى أغلى من أي تراب آخر في البلاد. في هذه المدينة يمكن أن يحدث أي شيء من أجل الأرض. ومنذ أن خرجت طنجة من عهدها الدولي، بدأت شبكات الاستيلاء على العقارات عملياتها واستمرت في ذلك إلى اليوم. غير أن العشر سنوات الأخيرة عرفت وجود مافيات منظمة بكل ما في الكلمة من معنى من أجل نهب أكبر مساحة ممكنة من أراضي المدينة من أجل إقامة مشاريع سكنية وسياحية، أو من أجل تفويتها إلى أطراف أخرى. هكذا، أصبحت طنجة تعيش حمى حقيقية في مجال العقار، إلى درجة أن القانون يقف عاجزا أمام ما يجري. طنجة - عبد الله الدامون هناك مئات، أو حتى آلاف الحكايات في طنجة عن استيلاء شبكات منظمة على أراضي المدينة. وفي السنوات الأولى التي تلت التحاق طنجة بالمغرب بعد نهاية الحماية الدولية، بدأ الكثيرون ينظرون إلى المدينة وكأنها غنيمة حرب. عمليات الاستيلاء على أراضي طنجة تتشابه. وتبدأ العملية تماما كما لو أن الأمر يتعلق بمعركة. في البداية يأتي المحتالون إلى منطقة معينة ليختبروا الميدان ويسألوا عن أصحاب الأرض، وعندما يتأكدون أن أصحابها توارثوها أبا عن جد وأنهم لا يتوفرون على أوراق ووثائق تؤكد ملكيتهم لها، أو أنهم غائبون، أو أن الأرض ذات ملكية جماعية، أو أنه مختلف حولها بين عدة أطراف، فإنهم يبدؤون عملهم على الفور. هذه هي البداية، وبعد ذلك تختلف الوسائل حسب قوة الإمكانيات التي تمتلكها كل شبكة، ومدى النفوذ الذي يتمتع به ناهبو الأراضي. الحكاية الأولى: المالك الفقير في منطقة سيدي إدريس، بمزارع بني سعيد بجماعة بحراين، توجد قطع أرضية يتعدد ملاكها ما بين شركات وأفراد. وبشكل مفاجئ، ظهر اسم شخص يسمى محمد بن محمد بولعيش، وهو رجل تجاوز السبعين من عمره، على أنه مالك أراض في المنطقة، ليتبين أن هذا الرجل مجرد وسيلة في أيدي أطراف معروفة في المدينة بالاستيلاء على العقار وبيعه، وأنه يسكن منزلا متواضعا لا يملك غيره. ويقول أحمد بن حسن أحجير، الذي يملك رفقة أحد شركائه أرضا في المنطقة، إن من وصفها ب«عصابة إجرامية» جمعت عددا من الشهود الذين شهدوا زورا بأنه مالك قطعة أرضية تقع بمزارع مدشر سيدي إدريس مساحتها 26 هكتارا، وأنه ورث هذه الأرض عن والده، وضم إليها بعد ذلك جميع أراضي الخواص والأحباس وأراضي الجماعة غير المحفظة. الغريب في كل هذا أن محمد بولعيش، مالك كل هذه الأراضي، يسكن في بيت متواضع جدا وفي مساحة لا تتعدى 200 متر مربع، ووالده لايزال على قيد الحياة، بينما شهد الشهود بوفاة والده. كما أن له أربع أخوات، وشهد له الشهود بأنه الوريث الوحيد. هكذا أصبح محمد بولعيش، الرجل الفقير الذي لا يملك أي شيء تقريبا، مالكا لقطع كبيرة من الأراضي تزيد مساحتها على 20 هكتارا، وأقر له شهود بذلك، وكتب العدول في وثائق رسمية بأحقيته بالأرض، وبعض العدول صاروا جزءا من هذه المافيا، بينما الحقيقة المرة أن هذا الرجل مجرد دمية في يد مجموعة من ناهبي الأراضي في طنجة، والذين سبقت إدانتهم بالسجن ومع ذلك فإنهم لايزالون يتحركون كما تتحرك الأسماك في الماء. والأكثر غرابة من كل هذا أن عصابة نهب الأراضي أنجزت تصميما طوبوغرافيا وألحقت به قطعا أرضية أخرى، مع وثيقة صادرة عن الوكالة الحضرية من أجل التضليل، ثم عرضت تلك الأراضي للبيع. لما عرضت هذه المجموعة القطعة الأرضية للبيع، وصل الأمر إلى علم أصحابها، فاكتشفوا أن ما تقوم به أصبح قاعدة ذهبية لكثير من عصابات نهب الأراضي في طنجة، وأن الرؤوس الكبيرة تقف في الخفاء، من بينها الملقب بصدام، وآخر ملقب بالحنش، وهي أسماء يبدو أنها تنطبق على هذا الواقع الغريب. الشقيقان المتورطان في هذه القضية سبق أن قُضي في حقهما بالسجن، ومع ذلك فإن هذا لم يمنع المحافظة العقارية في طنجة من التعامل معهما في ملفات مشبوهة. هذه المجموعة قامت بعمليات مشابهة في طنجة، وهناك شكايات ضدها لدى القضاء والأمن والدرك، ومع ذلك فإن أفرادها يتحركون في المدينة وكأن شيئا لم يكن. الحكاية الثانية: عصابة الأشباح عكس المجموعة الأولى التي تقدم في الواجهة أشخاصا على أنهم ملاك الأرض، فإن هناك مجموعات في طنجة تخلق أسماء وهمية وتسجل الأراضي بأسمائها، وهي المجموعات أو العصابات التي أصبح يطلق عليها اسم «عصابات الأشباح»، والتي استطاعت أن تحوز قطعا كبيرة من الأراضي بفعل عملية التمليك الوهمي لأشخاص غير موجودين، مقابل رشاوى وإتاوات لموظفين فاسدين في الإدارات، من بينهم موظفون في المحافظة العقارية. أشهر من يوظف الأشباح من أجل الاستيلاء على الأراضي هو برلماني في المدينة، ومعه أيضا برلماني سابق شهير. نموذج ذلك يتمثل في نموذج أرض عائلة احمادوش، وهي عائلة وجدت نفسها في مواجهة أطراف كثيرة تحاول الاستيلاء على أرض تكتريها بموجب عقود قانونية، لكن تلك الأرض بدأت تنتقل من مالك إلى آخر بطرق غريبة. وتقول أسرة احمادوش إن الأرض تكتريها بموجب عقود رسمية معترف بها من طرف الدولة، بما فيها «عقد الخيار»، لكنها فوجئت بقيام أطراف بمحاولة تضليل العدالة، ودخول أطراف كثيرة في هذا الملف من أجل الاستيلاء على أرض بطريقة اعتاد أباطرة الاستيلاء على الأراضي في المدينة اعتمادها، والتي ابتدأت بقيام برلماني معروف بطنجة بإنجاز وثائق مزورة في الخارج، باسم شخص إسباني من مدينة مالقة اسمه بارتومولي مولينا فيرنانديث»، والذي ثبت فيما بعد أنه مجرد شبح لا وجود له، وأن الذين يقفون خلفه اصطنعوا اسمه من أجل تسجيل الأرض باسمهم، حيث اتصل البرلماني بالمحافظة العقارية في طنجة، من أجل إنجاز عقود ظهر أنها مزورة، قبل أن تصبح الأرض اليوم في عهدة شركة تحاول بشتى الطرق أن تحوز الأرض من أجل تفويتها وبيعها إلى طرف آخر. الحكاية الثالثة: حاميها حراميها الحكاية الثانية ل«الأشباح» توجد في قضية أسرة مازور الفرنسية التي كانت تمتلك أرضا توجد اليوم قرب ولاية طنجة، والتي وجدت نفسها في دوامة حقيقية بسبب الأشباح مرة أخرى. والحقيقة أن الأشباح في طنجة لعبوا دورا كبيرا في نهب الأراضي. أشباح طنجة ليسوا سوى شخصيات غير موجودة اختلقها أباطرة نهب الأراضي من أجل الاستيلاء على كل الأراضي التي غاب أصحابها أو توفوا أو لم يكونوا يتوفرون على عقود تحفيظ قانونية رغم امتلاكهم الأراضي بطرق تقليدية ومتوارثة أبا عن جد. وتقول مارتي مازور إن أسرتها التي تتحدر من الجد إميل ألبوز، الذي كان مهندسا في المغرب أوائل القرن الماضي وأشرف على مد بعض خطوط السكك الحديدية في المغرب، لاتزال تعاني إلى حد الآن من عملية النهب التي تعرضت لها أرضها الموجودة في مدينة طنجة. وتضيف مازور أن جدها اشترى سنة 1917 قطعة أرضية في طنجة مساحتها 3600 متر مربع قرب شارع المسيرة الخضراء، بثمن قدره قطعة ذهبية للمتر المربع، حسب الأسعار التي كان معمولا بها آنذاك، وأنه بعد وفاة الجد، سنة 1964، فإن الأسرة لم تنشغل كثيرا بالأرض الموجودة في طنجة على اعتبار أن كل وثائقها قانونية وموجودة في حوزة الأسرة، قبل أن تحدث المفاجأة وتجد الأسرة نفسها وسط متاهة حقيقية. وتقول مازور إنه بعد وفاة الجد، وبعدها وفاة والدها سنة 1986، فإن أشخاصا من المغرب زاروهم في فرنسا من أجل مفاوضتهم على شراء القطعة الأرضية، وإن الأم، التي كانت في مرحلة حداد، كانت تطلب من محاميها أن يلتقي هؤلاء الأشخاص، ولم يتم أبدا قبول أي عرض ببيع الأرض. لكن الأسرة ستفاجأ بعد ذلك بأن الأرض بيعت من دون علمها، وستكتشف عمليات تزوير كبيرة لم تكن المحافظة العقارية في طنجة بعيدة عنها، وستجد أسماء وهمية في الملف، ولازالت القضية إلى اليوم بين ردهات المحاكم. الحكاية الرابعة: ظلم الوزارة على الضفة الجنوبية لمضيق جبل طارق يوجد شاطئ وادليان، وهو شاطئ يضم أراضي توارثها السكان أبا عن جد ولم يكونوا في حاجة إلى تحفيظها. لكن قبل حوالي سنة، فوجئ هؤلاء السكان الذين كانوا يقتاتون من الصيد البحري والفلاحة وكراء منازلهم صيفا للمصطافين، بمجيء جرافة بدأت في هدم بعض المنازل بحجة أنها بنيت على الملك البحري، في الوقت الذي توجد فيه أغلب هذه الدور على بعد أزيد من 60 مترا من الشاطئ. سكان وادليان فوجئوا بهستيريا حقيقية تلبست أعوان السلطة في المنطقة الذين أصبحوا يضغطون عليهم من أجل تقديم تنازلات، وأصبح عامل عمالة الفحص بني مكادة يقود بنفسه حملة غريبة من أجل إجلائهم من المنطقة. والأكثر من هذا أنه حاول أن يستفرد بهم واحدا بعد الآخر من أجل تحويل المنطقة إلى جهات لم تتبين هويتها إلى الآن. الغريب في الأمر، حسب ما تأكد منه السكان، أنهم كانوا في البداية يواجهون مصلحة المياه والغابات، التي كانت تطالبهم بالرحيل، لكنهم بعد ذلك فوجئوا بأنهم يواجهون مباشرة وزارة التجهيز، بينما هذه الأخيرة تقول في البداية إنه لا علاقة لها بما يجري وتنفي أي تورط لها في القضية. وفي النهاية، اكتشف السكان أن وزارة التجهيز قامت بتحفيظ أراضي المنطقة لصالحها في الوقت الذي كانت فيه القضية معروضة أمام المحاكم. سكان وادليان يتساءلون بمرارة كيف يمكن تحفيظ أرض لصالح وزارة التجهيز في الوقت الذي كانوا ينتظرون فيه حكم المحكمة، هل لأن الوزارة فوق القانون، أم إن هناك أطرافا قوية وذات نفوذ كبير تحاول الاستيلاء على المنطقة من دون أي اعتبار للقانون. السكان يعرفون جيدا أن الأمر لا يتعلق بمجرد رغبة في تحفيظ الأرض من طرف الدولة، بل إن هناك أطرافا قوية أصبح اسمها يتردد على كل لسان، حيث ترتقب إقامة مشاريع سياحية في المنطقة وطرد أصحاب الأرض من مناطق سكنوها لمئات السنين. هذه الأطراف القوية، هي خليط من نساء متنفذات وشخصيات قوية، ستظهر أسماؤها قريبا عندما تتخلص من آخر الموجودين على أرض وادليان. الحكاية الخامسة: حجر النحل مدشر «حجر النحل» بعمالة طنجة أصيلة، شهد واحدة من أغرب الوسائل من أجل الاستيلاء على أرض توجد في ملكية عدد من الفلاحين في المنطقة، والتي توارثوها أبا عن جد، قبل أن يظهر أباطرة الأراضي والعقار، ليحاولوا إلحاقها بأملاكهم. ويقول فلاحو «حجر النحل» إنهم أصبحوا يتعرضون لمضايقات من طرف أحد المنعشين العقاريين المتنفذين بمدينة طنجة، وذلك منذ أن اشترى هذا الأخير قطعا أرضية مجاورة لمزارعهم سنة 1993، فبدأ يمارس كل الحيل والأساليب من أجل طرد الفلاحين من أراضيهم والاستيلاء عليها من أجل تحويلها إلى إقامات سكنية. ويضيف الفلاحون أن هذا المنعش العقاري بدأ يطالب الفلاحين ببيعه أراضيهم، وعندما رفضوا ذلك بدأ يستخدم لغة التهديد والوعيد، وعندما لم تنفع لغة التهديد فإنه انتقل إلى التطبيق، وقام بحفر واد يفصل الفلاحين عن أراضيهم، وكل ذلك حدث أمام «عيون السلطة التي لا تنام»، لكنها عيون تنام ملء جفونها حين يتعلق الأمر بمحاولة منعش عقاري كبير الاستيلاء على أراضي فلاحين بسطاء. ما قام به المنعش العقاري يثير بالفعل مسألة في غاية الخطورة وهي أن «وحوش العقار» تحولوا إلى قوة خارقة لا أحد باستطاعته معها إيقافهم عند حدهم. لقد قام المنعش العقاري بتحويل مجرى المياه من أجل هدفين: الأول حرمان الفلاحين من سقي أراضيهم ودفعهم إلى بيعها له ومن ثمة ترك الأراضي التي ورثوها أبا عن جد والهجرة نحو المدينة. وثانيا، لكي يحرم الفلاحين من الانتقال إلى أراضيهم بسهولة لأن الوادي تحول إلى عائق في طريقهم وأصبح عليهم كل صباح قطع مسافة تزيد على 20 كيلومترا من أجل الوصول إلى أراضيهم بعدما كانوا يقطعون في السابق مسافة لا تزيد على ثلاثة كيلومترات. هذه حكاية تشبه المسلسلات المصرية التي يراها المغاربة على شاشة التلفزيون. لكنها هذه المرة تقع أمام أعين الجميع، ومع ذلك فإن الفلاحين لازالوا يصرخون في انتظار من يعيد إليهم حقهم أمام هذا المنعش العقاري.