هذا تقرير صحفي هام بقلم بوبي غوش نشر في مجلة «تايم» الأمريكية العريقة والمرموقة بتاريخ 8 يونيو 2009 ، وترجمته لأنه يؤكد فعالية طرق التحقيق السيكولوجية الناعمة بدل طرق التعذيب العنيفة لاستجواب الإرهابيين وانتزاع معلومات منهم. ويثبت التقرير كذلك أهمية معرفة المحققين لعلم النفس وفنون الاستجواب السيكولوجية والخدع النفسية الذكية والبسيطة التي تلعب دورا هاما في انتزاع المعلومات من الإرهابيين بدل التعذيب الذي يتعارض مع حقوق الإنسان. وهذا الفن هو الذي ينقص رجال الأمن في بلداننا العربية التي ابتليت بالإرهاب ملاحظة: التقديم والأقواس داخل النص هي للمترجم. أكثر الاستجوابات نجاحا مع إرهابيي القاعدة، التي قام بها المحققون الأمريكان، لم تحتج إلى ممارسة طرق تعذيب شرسة مثل «الحرمان من النوم» ولا «الحبس الانفرادي» ولا أهم الطرق الأمريكية العنيفة المشهورة ب«الإيهام بالغرق» («الإيهام بالغرق» أسلوب تعذيب يعود إلى أيام محاكم التفتيش في إسبانيا، ويتم عبر غمر وجه المعتقل بالماء بواسطة جهاز خاص وبسيط، وجعله «يتوهم» بأنه سيموت غرقا من الاختناق بينما هو آمن، ويستغرق هذا الأسلوب 20 دقيقة، ولكنه يترك آثاراً نفسية وعقلية مدمرة على المعتقل). إذ كل ما احتاجه الأمر مع حارس بن لادن الرئيس المسمى «أبو جندل» هو حفنة من الكعكات «غير المحلاة» أبو جندل حارس بن لادن أبو جندل كان موجوداً في سجن يمني عندما وصل كل من المحقق علي صوفان (وهو محقق أمريكي من أًصل لبناني من مواليد 1971. وهو واحد من ثمانية عملاء فقط يتكلمون العربية في مكتب التحقيقات الفيدرالي «إف بي آي» ويعمل حاليا مستشارا دوليا مستقلا) والمحقق روبرت مكفادن (المخابرات البحرية الأمريكية)، لكي يستجوباه بعد أسبوع من هجمات 11 سبتمبر الإرهابية . وبالرغم من أنه كان هناك شبه دليل على أن القاعدة كانت مسؤولة عن تلك الهجمات، فقد كان المسؤولون الأمريكان يريدون الحصول على أدلة دامغة ضد القاعدة، على الأقل لإقناع بعض المشككين مثل الرئيس الباكستاني السابق برويز مشرف، الذي تحتاج أمريكا إلى مساندته المهمة في أي هجوم تريد القيام به ضد تنظيم القاعدة. أجهزة التجسس الأمريكية كانت تحتاج أيضاً إلى فهم أفضل لهيكل «القاعدة» التنظيمي وقيادتها وطبيعة عملياتها. أبو جندل كان المصدر المناسب لهذه المعلومات. هذا اليمني الذي نشأ في السعودية كان حارس بن لادن الرئيس، وكان أيضاً محل ثقته ليحميه، بل لديه إذن من بن لادن ليطلق على رأسه رصاصة قبل أن يقبض عليه الأمريكان! لم تكن في نية أبو جندل أن يتعاون مع المحققين الأمريكيين في أول اجتماع. إذ رفض مجرد النظر إليهما، وكان يجعجع عن شرور الشيطان الأكبر وحلفائه الأشرار. وبدل أن يؤكد أن القاعدة لها يد في هجمات 11 سبتمبر، كان يصر على أن الهجمات نفذها الموساد الاسرائيلي. وعندما ذهب أبو جندل ذات مرة إلى المرحاض أثناء الاستجواب، لاحظ المحقق علي صوفان أن أبا جندل لم يلمس أي كعكة من الكعكات التي قدمت إليه مع الشاي. وتقصى صوفان الأمر ثم عرف أن أبا جندل يعاني من مرض السكري. وفي اجتماعهما التالي، قدم له صوفان كعكات خاصة وأخبره أنها بدون سكر. وكانت لمسة إنسانية ليَّنت سلوك أبي جندل العدواني والشرس. يقول صوفان: «لقد أظهرنا له الاحترام عبر تقديم هذه اللمسة الإنسانية، ولهذا بدأ يتحدث ويتحاور معنا لأول مرة بدل إلقاء المواعظ والمحاضرات (الحماسية) علينا». لقد احتاج الأمر بضعة أسئلة ومكر من المحققين كي يستسلم اليمني ويبوح (بدون أن يدرك) بكنز من المعلومات الخطيرة والمجهولة عن تنظيم القاعدة في ذلك الوقت، ومن ضمنها هويات سبعة من منفذي الهجمات الإرهابية. وهكذا كانت هدية الكعكات نقطة التحول الرئيسة. «بعد ذلك لم يعد يستطيع تصورنا أمريكيين شريرين» كما قال صوفان، وأضاف: «حينها، بدأ يفكر أننا بشر مثله». صوفان الذي أصبح مستشاراً أمنياً عالمياً الآن، تحول إلى ناقد هام لطرق الاستجوابات (التعذيب) التي شاعت في عهد الرئيس دبليو بوش. لقد قدم صوفان شهادة مهمة ضد هذه الطرق الوحشية في لجان تحقيق الكونغرس . كما أصبح يستدعى كشاهد خبير في القضايا التي أقامها معتقلون سابقون. لقد شهد صوفان بأن هذه الطرق تعتبر تعذيبا «غير إنساني» ولا تتفق مع المبادئ الأخلاقية الأمريكية (مثل ما تنص عليه وثيقة الحقوق الأمريكية الدستورية Bill of Rights). وكان صوفان يجادل بأن طرق الاستجواب التعذيبية مثل «الإيهام بالغرق» ليست ضرورية مطلقاً، وأن مزيجا من «الدهاء والإنسانية» يستطيع هزيمة أي معتقل عنيد. كما قال صوفان في جلسة استماع للجنة القضائية في مجلس الشيوخ إن هذه الطرق الناعمة، وليست طرق التعذيب العنيفة، هي التي نجحت في إقناع الإرهابي «أبي زبيدة» ليكشف هوية الإرهابي «خالد شيخ محمد»، الذي اعترف بنفسه أنه العقل المدبر لهجمات 11 سبتمبر ، وكذلك هوية الإرهابي جوزيه باديلا (الملقب بعبد الله المهاجر صاحب القنبلة القذرة) . المسؤولون في إدارة بوش، ومنهم نائب الرئيس السابق ديك تشيني، ادعوا سابقاً أن أبا زبيدة قدم المعلومات بعد تعذيبه بطريقة «الإيهام بالغرق» المخيفة. ولكن صوفان يؤكد أنه بعد بدء عملية «الإيهام بالغرق» التي أدارها عميل خاص لحساب «سي آي إيه» ليست لديه خبرة في فنون الاستجواب، توقف أبو زبيدة عن التعاون. إن النقاش والجدل حول طرق تعذيب «سي آي أيه» العنيفة ومدى فاعليتها زاد بعد قرار (الرئيس) باراك أوباما نشر المذكرات التي كتبتها إدارة بوش للتصريح باستعمال «الإيهام بالغرق» وطرق التعذيب العنيفة الأخرى. المدافعون عن برنامج بوش التعذيبي، وأهمهم (نائب الرئيس السابق) تشيني، يقولون إن استعمال طريقة «الإيهام بالغرق» العنيفة أنتج أدلة دامغة هامة ساعدت أمريكا على إبطال خطط الإرهابيين. ولكن خبرات المحققين مثل صوفان تؤكد أن منفعة التعذيب العنيف «محدودة» في أفضل الأحوال, و«تؤدي إلى نتيجة عكسية» في أسوئها، ولكن ببساطة، لا يوجد دليل حاسم بأن التعذيب مفيد «بصورة مطلقة». إن السؤال المحوري الهام هو«كيف يستطيع المحقق هزيمة معتقل عنيد بدون استعمال العنف؟». مجلة «تايم» تحدثت مع عدة محققين عملوا مع الجيش الأمريكي وكذلك مع آخرين تقاعدوا مؤخراً من عملهم في المخابرات والتجسس . لكن «سي آي إيه» و «إف بي آي» رفضتا طلبنا للحديث مع محققيهم الحاليين!! الجميع وافقوا مع المحقق صوفان: «أفضل طريقة للحصول على معلومات مخابراتية سرية من أصلب وأعند المعتقلين هي استخدام فنون الاستجواب الناعمة (الرقيقة والماكرة) بدل طرق التعذيب المتوحشة». «لا يوجد ذكاء في استعمال التعذيب» كما قال الرقيب إريك مادوكس، الذي ألف كتاب «المهمة: القائمة السوداء رقم واحد» الذي يسجل استجواباته في العراق، التي أدت في النهاية إلى القبض على صدام حسين. يقول مادوكس: «إذا اضطررت إلى إيقاع الألم، فَقدتَ السيطرة على الحالة .. المعتقل وأنت»!! قوانين اللعبة لا يوجد كتاب خاص بفن الاستجواب. دليل (نظام) الجيش الأمريكي، الذي تم تحديثه عام 2006، يضم 19 طريقة استجواب تتراوح بين تقديم «هدية مادية ملموسة أو عاطفية» للإجابات الصادقة عن الأسئلة المتكررة مراراً وتكراراً حتى يشعر المعتقل بالملل تماماً وبصورة مطلقة من هذا الأٍسلوب، ويبدأ في الإجابة بصورة كاملة ومريحة. (أوباما أمر «سي آي إيه» باتباع دليل الجيش هذا حتى الانتهاء من مراجعة وتقييم طرقها العنيفة في الاستجواب). بعض أكثر الطرق إثارة تسمى «الأساليب العاطفية». المستجوبون قد يثنون على غرور المعتقل و يتملقونه عن طريق مدح إحدى سماته. وبالمثل، قد ينتقد المحققون غرور المعتقل باتهامه بعدم المهارة، مما يجبره على الدفاع عن نفسه مع احتمال تقديمه معلومات هامة في هذا السياق (بدون أن يدرك).إذا اختار المحققون الهجوم فإنهم، مع ذلك، «لا يتجاوزون الخط الأحمر» ليهينوا ويحتقروا المعتقل. ولكن المحققين ذوي الخبرة لا تحدهم ال19 طريقة الموجودة في دليل (نظام) الجيش. ماثيو ألكساندر، وهو محقق عسكري أدت جهوده في العراق إلى العثور على زعيم القاعدة في العراق أبي مصعب الزرقاوي ثم قتله، يقول «إن طرق التحقيق في الجرائم الكلاسيكية تعمل أفضل من دليل الجيش». ويضيف ألكساندر «كنت أستعمل دائماً «حيلا» لا توجد في نظام الجيش، ولكن يعرفها أي شرطي». يقول ألكساندر: «مثلا عندما تحضر اثنين من المعتقلين تأخذهما إلى غرف منفصلة، وتعرض صفقة مع المعتقل الذي يعترف أولاً». (ألكساندر هو أحد مؤلفي كتاب «كيف تهزم إرهابي؟»). آخرون يستعملون طرقاً مألوفة لعلماء النفس، ومألوفة كذلك لدى المحققين الذين يعيدون برمجة عقول أعضاء الطوائف ذات الأفكار الخطرة مثل جيمس فيتزسيمونز، وهو محقق «إف بي آي» متقاعد وتعامل كثيرا مع إرهابيي القاعدة، يقول: «مشتبهو الإرهاب يستعملون دائماً عضويتهم في جماعتهم كحاجز نفسي (ليحميهم نفسياً من الانهيار)». مهمة المحقق هي، كما يقول فيتزسيمونز «إخراجهم من الهوية الجمعية إلى الهوية الشخصية» لفعل ذلك، يدعوهم فيتزسيمونز إلى الحديث عن حياتهم منذ الطفولة، مما يجعلهم يفكرون أنهم «أشخاص» أكثر من كونهم أعضاء «جماعة». في النهاية، كل تحقيق أو استجواب هو عبارة عن لعبة «القط والفأر»، والمستجوبون المحنكون يملكون أكثر من طريقة لإقناع وترغيب وخداع المعتقل لكي يذعن ثم يسرب معلومات بدون إدراكه. «الكذب والخداع» وسيلتان مهمتان. عندما تَكَلم متمرد خطير عن زوجته المسرفة، قال له ألكساندر إنه تعاطف معه لأن زوجته أيضاً مبذرة وتعشق التسوق، والتحم الرجلان (المحقق ألكساندر والمعتقل) سيكولوجياً حول هذه المعاناة «المشتركة». المتمرد لم يعرف مطلقاً أن ألكساندر كذب عليه لأنه في الحقيقة «أعزب»!!! العلم الزائف دليل نظام الجيش يتضمن أيضاً طريقة «العَلَم الزائف». المستجوبون يمكنهم التظاهر بأنهم من جنسيات أخرى إذا شعروا أن المعتقل لن يتعاون مع الأمريكان. الدول الأخرى التي عانت من التمرد والإرهاب طورت قواعد أيضاً. من بريطانيا مع الانفصاليين الأيرلنديين إلى إسٍرائيل مع الانتحاريين (الاستشهاديين) الفلسطينيين. معظم هذه الدول بدأت تترك طرق التعذيب الوحشية. ولكن بعض الانتكاسات المؤسسية قد تحدث أحياناً : ناشطو حقوق الإنسان والفلسطينيون ذوو الخبرة في السجون الإسرائيلية يقولون إن طرق التعذيب العنيفة عادت في السنوات الأخيرة!! كل محقق لديه فكرته الخاصة عن كيفية إجراء الاستجواب . صوفان يحب أن يجري بحثاً شاملاً مفصلاً ودقيقاً عن المعتقل «قبل» دخول غرفة التحقيق، حيث يقول: «إذا استطعت إيهام الرجل بأنك تعرف تقريباً كل شيء عنه، عائلته وأًصدقاءه وجماعته, فإنك تملك ميزة مؤثرة عليه»، لأنه عندها سيهمس : «حسناً، هذا الرجل يعرف سلفاً الكثير، فليس هناك جدوى للمقاومة، بل من الأفضل والأريح أن أقول له كل شيء» . عندما حاول أبو زبيدة إخفاء هويته بعد أسره، صعقه صوفان عندما استعمل اسم الدلع الذي كانت تناديه به أمه. «بمجرد أن قلت له «هاني» أدرك أبو زبيدة أن اللعبة انتهت». كما أكد صوفان. وللحصول على تعاون أبوجندل، وضع صوفان ومكافدن فخاً ماكراً و(محكماً) له بعد تلطيف وتليين عدوانيته بالكعك غير المحلى، إذ جعلاه يتعرف على مجموعة من أعضاء القاعدة من خلال الدردشة أثناء عرض صور شمسية في ألبوم قدماه له، ومنهم محمد عطا وستة من إرهابيي 11 سبتمبر، ثم أعطياه جريدة محلية «مفبركة» تمت طباعتها لخدع أبي جندل، كان عنوانها ومانشيتها المزيف يقول: «أكثر من 200 يمني قتلوا في مركز التجارة العالمي»!! أبوجندل حينها وافقهم أنها جريمة مرعبة (وهذا يدل على غباء الإرهابي أبي جندل الذي لم يفطن إلى أن أمريكا التي وصلت إلى القمر يمكنها صنع جريدة مزيفة لخداعه!!)، وقال إنه لا يمكن أن يكون مسلمون خلف هذه الهجمات، ثم صعقه صوفان بقوة عندما أكد له أن « بعض الرجال الذين تعرف عليهم في ألبوم الصور (قبل قليل) كانوا ضمن المهاجمين»!! وبدون أن يدرك، اعترف المعتقل اليمني بأن القاعدة هي المسؤولة عن هجمات 11 سبتمبر . ورغم مقاومته، أعطى الأمريكان ما كانوا يريدونه. «لقد انهار وتحطم تماما» كما قال صوفان. ومنذ تلك اللحظة، أصبح أبو جندل متعاوناً تماماً، وأعطى صوفان ومكفادن كنزا من المعلومات التي يملكها مثل أسماء وتفاصيل عن عملاء القاعدة والأهداف المحتملة والتدريب والتكتيكات. ألكساندر، الذي أجرى أكثر من 300 استجواب وأشرف على أكثر من 1000 استجواب آخر في العراق، قال إن مفتاح الاستجواب يكمن في «فهم دوافع المعتقل». في ربيع 2006، كان ألكساندر يستجوب إمام مسجد «سنيا» يعتقد أنه عميل للقاعدة في العراق، التي كان يقودها آنذك الزرقاوي. كان الإمام يبارك الانتحاريين قبل قيامهم بمهماتهم. كانت أولى كلمات الإمام لألكساندر «لو كان معي سكين الآن لقطعت رقبتك فوراً». وعندما سأله ألكساندر (بلطف) عن السبب، رد الإمام: «إن الغزو الأمريكي مكن ميليشيات «الشيعة» من طرد عائلته من منزلها وجعله يشعر بالإهانة والقهر، ولذلك انضم للمتمردين». إجابة ألكساندر الماكرة كانت عبارة عن اعتذار شخصي حميم ، قلت له: «استمع إلي جيداً، أنا أمريكي، وأريد أن أعتذر بصدق عن أخطائنا الكثيرة في بلدكم». عندها قال ألكساندر: «بكى الإمام لأن الاعتذار قوض دافعه لكره الأمريكان، وأفسح المجال لكي يتعاون مع المحقق» ، وآنذاك حول ألكساندر الحديث (بخبث ومهارة) إلى اتجاه آخر قائلاً: «إن العراق وأمريكا يواجهان عدواً مشتركاً: إيران، وأنهما يجب أن يتعاونا حتى لا يصبح العراق تابعاً لملالي الشيعة في طهران (بل في مدينة قم)»، وهو هاجس مرعب لسنة العراق. في النهاية ، باح الإمام بمكان منزل آمن يسكنه بعض الانتحاريين، وأدى اقتحام المنزل إلى اعتقال عميل للقاعدة أرشد الأمريكان إلى مكان اختباء الزرقاوي. دقات القنبلة الموقوتة مناصرو طريقة «الإيهام بالغرق» أو الطرق الوحشية الأخرى يقولون إن الطرق الناعمة لا تفيد في حالات الطوارئ، أي عندما تكون عند المستجوبين فقط دقائق قليلة، وليست أياما، لانتزاع معلومات منقذة لحياة آلاف الناس. أسوأ الحالات هي التي يتم تصويرها في الأفلام والمسلسلات التلفزيونية، عندما تكون قنبلة ستنفجر في مكان هام (سوق، مدرسة، الكونغرس) ويكون الإرهابي المعتقل يعرف متى ستنفجر القنبلة. ويكون من الواجب على المحققين أن يجعلوه يتكلم فوراً حتى لا يخاطروا بحياة الآلاف من النفوس البريئة. ليس كُتاب السيناريو المتحمسون هم فقط الذين يعتقدون أن مثل هذه الحالات الطارئة تستدعي استخدام طرق التحقيق العنيفة والمتوحشة. في عام 2002، كتب قاضي الاستئناف الأمريكي الشهير ريتشارد بوسنر في مجلة نيوريببليك (مجلة نصف شهرية، تؤيد الحزب الديمقراطي، ولكنها ذات ميول محافظة متطرفة في السياسة الخارجية الأمريكية): «إذا كان التعذيب العنيف هو الوسيلة الوحيدة للحصول على معلومات ضرورية لتجنب تفجير قنبلة نووية في «تايم سكوير» (أهم ميدان في مانهاتن أو قلب نيويورك ومركز الأعمال) ، فيجب استخدام التعذيب... ولا ينبغي مساءلة أي محقق يقوم بهذا العمل» . إن طرق استجواب «سي آي إيه» المختلف عليها، كما يقول أنصارها، تم تطويرها لمثل هذه الحالات الطارئة تماماً: بعد تفجيرات 11 سبتمبر وخلال انتشار الشائعات عن احتمال حدوث هجمات أخرى وشيكة، بما فيها احتمال تفجير قنبلة نووية قذرة، لم يكن لدى إدارة الرئيس بوش أي خيار إلا ترخيص استعمال أي طريقة ضرورية لانتزاع المعلومات من الإرهابيين المحتملين . «لقد كان أمامنا الكثير من الاحتمالات المجهولة بعد الهجمات علينا» كما شرح نائب الرئيس السابق ديك تشيني في خطابه في 21 مايو 2002 في واشنطن. وأضاف: «لم نكن نعرف شيئاً عن خطط القاعدة، ولكن خالد شيخ محمد وآخرون كانوا يعرفون. وبينما هناك آلاف النفوس التي قد تتعرض للخطر، لم نعتقد أنه من الجيد ترك الإرهابيين يجيبون عن أسئلتنا حسب راحتهم أو عندما يكون مزاجهم رائقاً». ولكن المحققين المحترفين يقولون إن سيناريو «دقات القنبلة الموقوتة» ليس أكثر من فرضية لأن هذه الحالة تعتبر نادرة جداً، هذا إذا افترضنا إمكانية حدوثها في واقع الحياة الحقيقية. صحيح أن المخابرات الأمريكية نجحت في انتزاع معلومات عن بعض مخططات القاعدة الشريرة عن طريق استجواب معتقلين قبض عليهم بعد أحداث 11 سبتمبر، ولكن لم يتم الكشف عن هذه المخططات للجمهور بخصوص هجمات وشيكة، إذ لا يوجد دليل قاطع على أن أي معلومات استخباراتية حصلت عليها أمريكا بواسطة طرق التحقيق العنيفة لم يكن من الممكن الحصول عليها بطرق ناعمة. في الواقع، يستطيع المحققون الماهرون (الأذكياء) قلب سيناريو دقات القنبلة الموقوتة لمصلحتهم، ويستعملون فكرة السرعة والاستعجال ضد المعتقل. خلال الهجمات العسكرية في العراق، تعود المحقق مادوكس على استجواب المتمردين بسرعة فائقة، في الغالب في نفس مكان القبض عليهم. كان هدفه هو انتزاع المعلومات بسرعة عن أماكن المتمردين الآخرين المختبئين في الجوار. «كنت أقول لهم: فور معرفة رفاقك باعتقالك سيفترضون أنك ستبلغ عن أمكنتهم. (ولهذا سيهربون فوراً). لذلك إذا أردت مساعدة نفسك (والحصول على صفقة)، فيجب أن تخبرني كل شيء الآن لأنك بعد ساعتين لن تكون لديك أي معلومات قيمة (أو صحيحة على الإطلاق، لأن رفاقك سيغيرون أماكنهم). وقادت هذه الحيلة الماكرة مادوكس إلى أهم وأسعد ساعة له في العراق. في السادسة من صباح يوم 13 ديسمبر 2003، أي اليوم الأخير لخدمته في العراق وقبل ساعتين فقط من إقلاع طائرته من بغداد، بدأ في استجواب محمد إبراهيم، وهو قائد بعثي متوسط الأهمية، ولكنه معروف بقربه من صدام حسين. كان أكثر من 40 من عائلة محمد إبراهيم وأًصدقائه لهم علاقة بالتمرد في الأسر. ولمدة ساعة ونصف، حاول مادوكس إقناع إبراهيم بأن الاعتراف بمكان اختباء صدام سيؤدي إلى إطلاق سراح أفراد عائلته وأصدقائه المحتجزين، ثم جرب مادوكس «الكارت» النفسي (الماكر) الأخير: «قلت له إنه يجب عليه أن يتكلم بسرعة لأن صدام قد يغير مكانه ويصبح هو (محمد إبراهيم) عديم الفائدة، و أنه عندما أركب الطائرة (بعد قليل) لن أستطيع مساعدته، وأن رفاقه الجنود سيجعلونه أضحوكة، وفي الغالب سيعذبونه. وبدل أن يتمكن هو من إطلاق رفاقه ال 40، سيصبح المعتقل رقم 41 من عائلته». ونجحت الخدعة الماكرة. وفي تلك الليلة، أدلى إبراهيم بمعلومات هامة مكنت الجيش الأمريكي من العثور على صدام مختبئا في حفرة قذرة.