مررت بالصدفة، مساء السبت الماضي، قبالة متجر «لابيل في» بحي حسان بالرباط، فاسترعاني منظر خروج حشود كبيرة من المتجر حاملة أكياسا بلاستيكية خضراء. عندما تتأمل الأكياس جيدا تكتشف أنها مليئة بقناني «البيرة» و«الروج». جميع هؤلاء الزبائن تقريبا طوروا حاسة الحذر، إذ بمجرد ما يخرجون من باب المتجر يلتفتون يمينا وشمالا قبل أن يسرعوا الخطو نحو سياراتهم المركونة قرب المتجر. آخرون يدسون قنانيهم داخل سراويلهم وتحت آباطهم ويختفون في أزقة الأحياء الخلفية قبل أن تضبطهم سيارة شرطة وتعتقلهم بتهمة حيازة المشروبات الروحية. وأمام الأسواق الممتازة وبجانب «البيسريات» التي تبيع الخمور، ترابط سيارات الشرطة بحثا عن ضحايا يستطيع بعض رجال الأمن مقايضتهم حريتهم برشوة يدفعونها نقدا إذا أرادوا تجنب إكمال السهرة في «الكوميسارية». فواحدة من غرائب القانون المغربي هي أن وزارة المالية تأخذ الضرائب عن عائدات الخمور التي يشتريها المغاربة من الأسواق الممتازة، بينما وزارة الداخلية تأمر باعتقال كل من يضبط رجال الأمن خمورا بحوزته. من أجل حل هذا المشكل العويص نزل إلى الساحة الإعلامية رأيان هذه الأيام. الأول فتوى، انقلبت فيما بعد إلى مجرد رأي، أطلقها الريسوني، تقول بتحريم التسوق من المتاجر التي تبيع الخمور. والثاني مطلب حقوقي نادت به خديجة الرويسي، رئيسة بيت الحكمة، وجاء كرد على فتوى الريسوني، يطالب بإزالة العقوبات القانونية التي تقنن بيع الخمر للمغاربة. وهو مطلب أضافته الرويسي إلى مطلب السماح للشواذ الجنسيين بإعلان شذوذهم والحصول على حقهم في تأسيس الجمعيات وتنظيم «الأنشطة» الخاصة بهم، قبل سنتين عندما اندلعت قضية «عرس الشواذ» بالقصر الكبير. أعتقد أن المشكل أعمق وأخطر من أن يترك بين أيدي الفقهاء أو العلمانيين. فيمكن أن تكون لكل واحد من الخندقين (الريسوني والرويسي) حسابات سياسية، مكانها الحقيقي هو التصارع داخل قبة البرلمان بين نواب العدالة والتنمية الذين يعتبر الريسوني أحد منظريهم، ونواب الأصالة والمعاصرة التي تشغل الرويسي قاعدة حقوقية خلفية لهم عبر جمعية «بيت الحكمة» التي ترأسها. لذلك أعتقد أن الرأيين معا مخطئان في ما ذهبا إليه. وبالنسبة إلى الريسوني، فالإسلام ليس فيه إكراه، وحتى لو تم حظر بيع الكحول في المتاجر فإن الناس الذين يشربونها سيتدبرون أمرهم بطريقة أو بأخرى وسيكتشفون طرقا أخرى للاستهلاك. والدليل على ذلك أن الحشيش ممنوع، ومع ذلك يستحيل أن تمر من زقاق دون أن تشتم رائحة «الجوانات». وعندما يطالب الريسوني ملايين الزبائن، الذين يشترون يوميا حاجياتهم الاستهلاكية من الأسواق الممتازة، بالامتناع عن القيام بذلك في الأسواق التي تبيع الخمور، فإننا نستنتج مباشرة أن الريسوني يدعو هؤلاء الملايين من الزبائن إلى تحويل الاتجاه نحو الأسواق الممتازة التي لا تبيع الخمور. هنا نخرج من الدين لنجد أنفسنا داخل اقتصاد السوق. وبجولة بسيطة بين أورقة هذه السوق، نكتشف أنها مقسمة اليوم في المغرب بين نوعين من الأسواق الممتازة: أسواق محلية وأجنبية تبيع الخمور إلى جانب المواد الغذائية والاستهلاكية التي تعرضها، وأسواق محلية تبيع كل شيء إلا الخمور. «بالعربية تاعرابت» هناك «أسيما»، و«مرجان»، و«لابيل في»، و«كارفور» التي لديها فروع في مدن مغربية متعددة وتحقق نسبة كبيرة من الأرباح بفضل مبيعات رواق الخمور، وهناك «أسواق السلام» التي بدأت تتوسع وتفتح أسواقا جديدة في مدن خارج البيضاءوالرباط، ولا تبيع الخمور. والمنافسة، طبعا، على أشدها بين هذه الأسواق الممتازة لاستدراج أكبر عدد من الزبائن وتحقيق أرقام معاملات مرتفعة. إذن، من الناحية الاقتصادية الصرفة تنحاز فتوى الريسوني إلى نوع من الأسواق الممتازة ضد نوع آخر. وهذا فيه، من الناحية الاقتصادية دائما، ضرب لمبدأ المنافسة، بغض النظر عن النوايا الحسنة المفترضة في فتوى الريسوني. لذلك أعتقد أن الريسوني كان عليه أن يركز اجتهاده الفقهي والفكري على النتائج الكارثية للخمور على الصحة العامة للمواطنين وعلى خزينة الدولة التي تتحمل هذه الضريبة وعلى الاقتصاد المغربي بشكل عام، وأن يترك للمواطنين حرية اختيار التسوق من السوق الممتاز الذي يناسب جيوبهم في نهاية المطاف. فليست مقاطعة الناس للأسواق التي تبيع الخمور هي ما سيجعل تفشي تعاطي الخمور بين المغاربة (لأن هذا هو المشكل الحقيقي) يتراجع، بل الذي قد يحدث هو تراجع أرباح الأسواق الممتازة التي تبيع الخمور لصالح ارتفاع أرباح الأسواق التي لا تبيعها. ولا أعتقد أن هذا هو هدف الريسوني من وراء فتواه. فالمشكل ليس في البائع بل في المستهلك. وإذا استطعنا أن نقنع (لا أن نكره) هذا المستهلك بخطورة الخمر على صحته واستقرار أسرته وتقدم بلاده، فإننا سنكون قد نجحنا في إفقاد تجار الخمور زبائنهم الذين بدونهم يستحيل أن تقوم لهم قائمة. وأظن أن المجهود الكبير الذي من واجب العلماء والفقهاء بذله يجب أن يكون على مستوى التربية وتوعية الناس بمخاطر الخمور على صحتهم وعلى تربية أبنائهم وعلى تماسكهم العائلي وعلى أمنهم في الطرقات. وهذا مجهود يجب أن تقوم به الدولة كذلك عبر وسائل الإعلام العمومية، مثلما تصنع الدول الأوربية العلمانية التي تعرف أن ضر الخمر أكثر من نفعه، أو مثلما تصنع أمريكا التي لديها في ولايات «ألاباما»، و«كينتاكي»، و«تكساس»، ونيو جيرسي»، و«فلوريدا» وولايات أخرى «مدن بدون كحول» تسمى «Dry Country» يمنع فيها بيع الكحول بالمرة، مع أنه ليس بين رؤساء أحزابهم شخص اسمه بنكيران وليس بين عمداء مدنهم واحد اسمه بلكورة. وربما يجهل الأمريكيون أن محمد الخامس سبقهم إلى هذا الأمر عندما خص مدينة سلا بظهير يمنع بيع الخمور فيها. وهو الظهير الذي تم دهسه بالأقدام دون أدنى احترام لروح محمد الخامس عندما سمحت سلطات سلا لمتجر «كارفور» ببيع الخمور. أما بالنسبة إلى السيدة خديجة الرويسي، فقد كان الأجدر بها أن تطالب بتشديد القوانين الزجرية لتعاطي الخمور عوض المطالبة بإزالتها، فربما تجهل السيدة خديجة أن الشباب والمراهقين أصبحوا يبيعونهم «الروج بالضيطاي» أمام أبواب المدارس. في فرنسا العلمانية، صدر قانون مؤخرا يمنع وجود محلات لبيع الخمور بالقرب من المؤسسات التعليمية. هذا في الوقت الذي توجد فيه بالقرب من العمارة حيث أقطن في قلب الرباط «كباريهات» ومحلات لبيع الخمور، مع العلم بأن المنطقة منطقة سكانية توجد بها مؤسسات تعليمية. والمصيبة هي أنه بمجرد ما يسكر زبائن هذه «الكباريهات» يخرجون إلى شارع «باتريس لومومبا» لكي «يعرعرو» ويوقظوا عباد الله بكلامهم النابي الذي يبدأ «من السمطة لتحت». ذات ليلة من «ليالي الأنس» تلك، حملت الهاتف واتصلت برئيس الأمن أشكو إليه هؤلاء السكارى، فنصحني بجمع توقيعات السكان لكي ينظروا في أمر إغلاق «الكباريه». إن اجتهاد الريسوني الفقهي ونضال الرويسي العلماني يجب أن يتحدا معا لكي يخلصا المواطنين من هذه الكباريهات ومحلات بيع الخمور التي تعشش في أحيائنا السكنية وبجانب المؤسسات التعليمية التي يدرس فيها أبناؤنا. أما الجدل حول تحليل أو تحريم الذهاب إلى الأسواق التي تبيع الخمر أو تلك التي لا تبيعه فيبقى نقاشا خاطئا وبعيدا كل البعد عن انشغالات الناس اليومية. لذلك فنحن محتاجون، أكثر من أي وقت مضى، إلى تفعيل وسن القوانين التي تنظم وتزجر هذه الفوضى العارمة التي يعرفها ترويج الخمور وبيعها عوض المطالبة بإلغاء هذه القوانين، خصوصا وأن المغاربة شعب لا يعرف كيف يشرب، وإذا شرب سكر وإذا سكر «عربط»، وإذا «عربط» فلا بد أن يسيل الدم. المطلوب هو إقفال كل «الكباريهات» و«البارات» التي رخصت لها الداخلية بالعمل في الأحياء السكنية، وتقنين إشهار الخمور في وسائل الإعلام وتجريم تشجيع القاصرين على تعاطيها كما تصنع بعض «الكباريهات» في مراكش. والأهم من كل ذلك هو تشديد العقوبات ضد مستعملي الطريق في حالة سكر عبر تنظيم حملات لمراقبة درجة الكحول في دماء السائقين وتزويد رجال الأمن بالآلات الضرورية لذلك. فحوالي 13 في المائة من حوادث السير سببها الخمر، ونسبة كبيرة من العنف ضد الزوجات والاعتداءات الجنسية على الأبناء والمحارم سببها الخمر، والآلاف من القاصرين والجانحين يتزاحمون في السجون بسبب الجرائم التي يرتكبونها تحت تأثير السكر، والآلاف من «ضيوف» بنهاشم بسجون المملكة يتزاحمون في الزنازين بسبب السكر العلني، وثلاثة في المائة من الناتج الداخلي الخام تذهب هباء منثورا كمصاريف لعلاج ضحايا الخمور، سواء بسبب الأمراض المستعصية الناتجة عن الإدمان كالسرطان وأمراض الشرايين والقلب أو بسبب حوادث السير التي يموت فيها الأبرياء بسبب السكارى الذين يحولون سياراتهم إلى «بارات» متحركة على طول طرقات المملكة. الخمر كان دائما وسيكون حيثما كان الإنسان. الحل ليس في أن ننصح الناس بالامتناع عن الذهاب حيث يوجد، بل في توعيتهم بمخاطره حتى إذا ما ذهبوا إلى حيث يوجد لم يشتروه. هكذا نكون قد ربحنا الرهان دون أن نسقط في الدعاية لهذا «السوبير» على حساب الآخر. فالدين أكبر من هذه الحسابات الصغيرة.