– أين يندرج هذا اللقاء الذي جمع أكثر من ألف طالب وطالبة من التعليم العتيق؟ هذا جزء من التعاطي مع الشأن الديني، ولدينا في المغرب والجهة الشرقية بنية قوية للتعليم العتيق، الذي هو إرث من الماضي، لكنه واقع في الحاضر، وهو أمل بالنسبة للمستقبل. كثير من الناس لم يمتلكوا إلى الآن الفرصة ليعلموا بوجود هذا التعليم العتيق، لذلك أصبح الكثير من الناس يتحدثون بعيدا عنه. التعليم العتيق لا نتحدث عنه من خلال انطباعات، بل بناء على دراسات وواقع، وهناك من أصبح يقترح مادة أو منهجا، أي شيئا من هذا القبيل.التعليم العتيق أعطى الدليل على جدواه وأهميته من خلال كلّ ما نتحدث عنه من تاريخ المغرب العلمي، وكلّ العلماء الذين تخرجوا وعرفوا بالمغرب، وممن يشهد لهم في القديم وصنفوا ودافعوا عن العقيدة، خريجو هذا التعليم. فهو حجته معه، وفي الحقيقة لا يُسأل عنه لأنه أعطى ما يمكن أن يعطيه، وإذا تحدثنا عن تاريخ المغرب العلمي لا يمكن أن تتحدث عنه مع انفصال بإقصاء التعليم العتيق. التعليم العتيق له برنامجه وفي حاجة لأن ُيطّلع عليه، لا أن يُتحدث عنه من بعيد ويقترح له برنامجا إن لم يكن من أبنائه. – ما موقع التعليم العتيق في بلدان العام الإسلامي؟ يقع في العالم الإسلامي، الآن، ارتباك وظهور للتطرف، ومرجع ذلك الفراغ الذي تعاني منه الساحة الدينية، الآن، حيث إن الدين ضرورة، ولكن حين ينعدم التأطير يمكن أن يظهر في الساحة أي تمثل من التمثلات الدينية، وهي تمثلات خاطئة بسبب الجهل. ونحن نعرف أن المثابات العلمية القديمة التي كانت تعطي علما راسخا ومحررا تراجعت. نتحدث عن القرويين وعن الزيتونة وعن الأزهر وعن المسجد الأموي. هذه المؤسسات كانت تعطي تعليما يؤديه العلماء، وكان مأمونا لأنه كانت له ضوابط وقوانين، وما كان أحد يتحدث بلا حجة ولا دليل.أما اليوم فنلاحظ انتقال العلم أو التدين الجديد إلى مناطق لم تكن معروفة فيما سبق أنها أماكن للعلم، في باكستان مثلا. إذن، لماّ يذهب العلم إلى هناك، يكون العلم قد هاجر بسبب إعراض الناس عنه أو سوء إغفال الناس له، ثم يذهب، حينئذ، إلى جهة أخرى وينشأ أي نشأة شاء، أي غير مُؤَطر. وهؤلاء ليس معروفا عنهم أن لهم علماء أو قواعد علمية. هذا خطأ تنبه إليه المحللون الدينيون والسياسيون. – لماذا يوجه العالم الغربي سهامه للإسلام كلّما وقع حدث إرهابي؟ نحن أضر بنا العالم الأوروبي وكذا العالم الإسلامي، حيث يقولون إن إسكات الدين أو تحييده هو اندفاع نحو الحداثة وهذا خطأ فادح. فحينما تقع الأحداث في أوروبا، لا يوجد وراءها أناس تعلموا في المدارس الشرعية. كانوا يحتاجون إليه فأخذوه من حيث شاؤوا، ولذلك ظهر ما ظهر في العالم كلّه. الأوروبيون حين يقع ما يقع وتلِمّ بهم بعض الأحداث يذهبون مباشرة إلى المساجد ويضايقونها، وهذا خطأ كبير. هذا التطرف لم ينشأ في المساجد، بل نشأ في مناطق أخرى مُعتِمة ليست مُؤطرة علميا. لذلك الرجوع إلى المعرفة الشرعية شيء ضروري. ثم إن المعرفة عندنا متصلة اتصالا وثيقا بالقرآن الكريم، ولا حديث لنا عن نصف القرآن أو الربع، لأن الصورة تتكامل بالقرآن كلّه وليس بجزئه، أي لا يمكن أن تربي جيلا إسلاميا إلا بمثل ما رُبِّي به الجيل الأول، وهو القرآن كاملا. النبي صلى الله عليه وسلم لم يُربِّ الناس بثلث القرآن أو ربعه أو لا يجب أن يحفظ الناس القرآن الكريم، هذه مغامرات يقوم بها بعض الناس. – هل هناك فرق بين طلاب التعليم العتيق وغيرهم من طلاب المدارس الأخرى؟ طلاب العلم يحفظون القرآن، ونحن لا نتعامل معه في لحظته، قد يحفظ الإنسان القرآن، الآن، ليشتغل ويحتاجه طوال حياته كلّها. هناك من يحفظ القرآن ولا يفهمه، لكن الطالب قد لا يفهمه في السنة الأولى أو السنتين الأوليين، لكنه رجل يتم إعداده للمستقبل ويحتاجه في دروس البلاغة، وفي اللغة، وفي الحقائق الفقهية. هو إذن بالنسبة إليه رصيد للمستقبل. في التعليم القروي باليابان يحفظ الإنسان عددا كبيرا من الكلمات، هو تقريبا مثل عدد ما يحفظه الطالب في القرآن عندنا. هم يعطون لغة ونصوصا، والنتيجة واحدة، فهو يُعبأ في المراحل الأولى من حياته. أما بعد المراحل الأولى من الحياة فيصعب أن تجد ما تريد. ونحن عندما نتحدث عن الشاعر الذي كان يملأ الناس نجد تربته الأولى هي كذلك. وفي لبنان، المسيحيون ليست لهم صلة بالإسلام، ولكن كان بعضهم يُحفِّظ أبناءه القرآن ليس حبّا في الإسلام ولكن ليعطيهم زادا لغويا، وبالتالي لا نتصور أن هذا الضمور، الذي نجده حتى في الآداب وفي كلّ المجالات، سببه الخواء الذي في الماضي. الشاعر لا يبدأ من فراغ، وبقدر ما يختزن من محفوظات ونصوص بقدر ما يستطيع أن ينسج على منواله القصائد ويبدع فيها، أما الذي ليس له شيء فلا يمكن أن ننتظر منه الكثير. وبهذا تفسر هذه الضحالة. – تعتبر التديُّن المغربي نموذجا. أين يتجلى ذلك؟ في مثل هذه الملتقيات، يكون القصد ضرورة الدعم وضرورة المواصلة، ثم ضرورة المحافظة على النموذج المغربي، ولا نكفّ عن الحديث في هذا. النموذج المغربي متفرد ولا يمكن. يأتي شخص من بلاد ليس فيها قرآن ظاهرا ويقول للمغاربة «أنتم مبتدعون لأنكم تقرؤون الحزب». لدينا أمانة لقراءة الحزب، قرأه المغاربة منذ زمن الموحدين بملاحظة وإشراف العلماء، وقد أدرجوه في باب المصلحة، وهو للناس فيه مصلحة. وأنا لا أقبل إنسانا مبتدئا في العلم يأتي ليلاحظ على التدين المغربي وهو ليس له سند فيما يقول. وهذا حينما يقبل به المغاربة سيؤدي إلى ما هو واقع في المشرق. نحن نريد المحافظة على هذا التدين لأنه مؤصل وله سنده الشرعي، وكلّ عالم يستطيع أن يدافع عن التدين المغربي. يجب علينا أن نحافظ على وحدة المغرب وعلى استقراره من خلال الوحدة المذهبية. نحن دون بقية الدول في العالم التي كان لها مذهب واحد، وحتى دول في شمال إفريقيا، وجدت نفسها يوما ما تعيش بمذهبين: المذهب الحنفي والمذهب المالكي، وفي تونس كانت هناك مشيختان، وكذلك في الجزائر، فيما المغرب وحده حافظ على المذهب الواحد، وأصبح يمثل نموذجا في المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية، وإذا لم يستطع المغاربة أن يحافظوا على هذا ويدعموه، سيقع لهم ما وقع للآخرين، ويبدو لي أن المجازفة فيه لا تصحّ، لا من هذه الجهة ولا من تلك. – وما تقييمك لطلبة المدارس العتيقة، خاصة بالجهة الشرقية؟ الحمد لله، طلبة المدارس من أحسن الطلبة الذين يعرفون اللغات، بعضهم يحاضر بالإنجليزية والفرنسية، وتعليم القرآن للإنسان يؤهله لأن يستوعب، وهم ناجحون حتى في الكليات وليسوا دون غيرهم، إذ لهم معرفة باللغات وبالعلوم، وبالعلوم الحديثة، وبعلم الاجتماع وبالفلسفة، وكلّ هذا أصبح ضروريا، خصوصا أن الكثيرين أصبحوا يتوجهون إلى أوروبا، ولا يمكن لهم، في أوروبا، أن يؤدوا رسالتهم إذا لم يكن لهم إلمام باللغات الأوروبية، خاصة الفرنسية والألمانية. والطلبة أنفسهم يتلقون دروسا إضافية في اللغات لأنهم يعرفون أن العالم منفتح، وطالب العلوم الشرعية ليس هو ذلك الطالب الذي نتوهَّمُ بأن معارفه اضمحلت، وبأنه منفصل عن الواقع، وهو ما يجب أن نشتغل عليه ونقويه. وهذا اللقاء يندرج في هذا الإطار، فهناك العديد من الطالبات والطلبة، منهم أفارقة من غينيا، ذكورا وإناثا، وأمريكية، ونحن نعتقد أنهم إذا تعلموا العلم الشرعي كما يجب وتلقوه من العلماء سيكون جهدهم ضمانة لاستقرار هذا لبلد.