مبارك وساط نموذج آخر للشاعر الثمانيني، الذي شهد انهيار العالم الخارجي وما يستندُ إليه من مفاهيم، فانحرف بالشعر إلى حياة الداخل، جامعا بين شفافية الأحلام وعكر الوساوس. لا نعثر في تجربته إلا على فسيفساء من عناصر الحياة في المدينة، وقد غرقتْ في مياه عميقة منبثقة من «نهر» الداخل، موصولا بمياه الميثولوجيا. إنها ليست ميثولوجيا الحضارات الوثنية، التي استدعاها الشعر العربي، في خمسينيات القرن الماضي، بل ميثولوجيا شعرية شديدة الخصوصية. يبدو مبارك وساط بلا أسلاف في الشعر المغربي. وهو أحد الشعراء الذين وسعوا من مرجعية هذا الشعر ومن جغرافيا نصه الغائب. توسيع مقترن بصمت، يُحَوِّل مفهوم الذات الكاتبة في التجربة مُختَرَقة بروافد أخرى من المعرفة. ولم تكن هذه المعرفة، مجسَّدَة خاصة في السريالية، مقتَرنة بتصلب نظري، وإنما موصولَة بحركة ذهاب وإياب بين كتابة التجربة وتجربة الكتابة، الشيء الذي أضفى على قصيدة مبارك وساط حيوية مفتَقَدة، في كثير من نماذج شعر النثر والتفعيلة العربيين. لمبارك وساط حتى الآن أربعة دواوين شعرية. ثلاثة منها تجتمع، في طبعة عكاظ، في كتاب واحد: «محفوفا بأرخبيلات»، «على درج المياه العميقة»، ثم «راية الهواء». العنوان الأول والثالث ثََمَت إضافتهما إلى «على درج المياه العميقة»، ليسبحا معه في نهر واحد، وهو نهر الحلم بامتياز. أما الديوان الرابع، في بيبليوغرافيا مبارك وساط، فهو «فراشة من هيدروجين» (دار النهضة/ 2008)، الذي يضيف إلى أحلام شاعر النثر تجربة في «التسكع» تؤكد انهيار المسكن الشعري القديم. تبديد مفهوم الشعر، في تجربة مبارك وساط، يستمر في التأشير على حياة شعرية تنهض داخل القصيدة. ولا تنفصل هذه الحياة عن منابع الحلم، التي تخترق الذات، مُحَوِّلة في طريقها مفهوم الشعر ومصادر تفجره. تقول قصيدة «ديباجة»، التي تفتتح ديوان «محفوفا بالأرخبيلات»: «بأشرعة من شرار، وإلا / فبأجنحة من الألم، فحسب / يمكنني أن أوغل في الفجر الخفيف / حتى مصب أنهار / تهدر بالأحلام» (ص.5). تنسج دوال: الأشرعة/ الشرار/ الألم/ الفجر/ الأنهار/ الأحلام، مسالك أخرى، في الرؤية إلى الشعر، هي غير مسالك أحمد بركات المُبَأرة حول دوال: الحذاء/ الطريق/ العين/ الحركة/ الشك. يصل دال «الألم» بين التجربتين، قارنا إياهما بتجربة الحدود. إن تجربة المشي عند أحمد بركات، تتحول عند مبارك وساط إلى «تحليق» و«سباحة»، يستدعيان توثبات الأحلام وقفزات اللاوعي وانسيابات أحلام اليقظة. وبالرغم من اختلاف الرؤيتين، فإنهما تتواشجان في جعل الجسد، حتى بأبعاده الطفولية اللاواعية، منطلَقا للتجربة. في المقطع الأول من قصيدة «أبدية» نعثر على ما يوسع آفاق الرؤية: «وكأن الأبدية/ محمولة بين مخالب نسر: كل هذا البياض/ المُدمَّى». يقترن دال «البياض»، وهو يحيل على الكتابة، بدال التجربة موصولة بالدم. إنها «البياض المدمى» الذي يكابد نشدان التعالي، مُجسَّدا في «الأبدية، محمولة بين مخالب نسر». مرة أخرى تكون «الكتابة» تحليقا آخر، مشدودا إلى فعل تخيُّلي يُوَسِّع من آفاق الذات والعالم، فيما هو ينبثق من «كأن»، المؤسسة للحقيقة الشعرية. من هذا المكان، تتخلَّق التجربة الشعرية، محيلة، في النص ذاته، على آثارها، التي تجعل من كل تجربة شعرية تجربة في كتابة الشعر. وقصيدة «رحيل» تفتح، من هذه الزاوية، إمكانية خصيبة للتأويل: «حين سالتْ على جبيني/ دماءُ الغسق/ رعشة اللحظة العمياء/ انسحبتْ يداي/ من طفولة الذهب/ وبدأ وجهي يسافر، بلا كلل،/ نحو مهاب الألم» (ص.7). إن «البياض المدمى»، في المقطع السابق، يصبح في نص رحيل «دماءَ الغسق». بياض تجربة الكتابة موصولا عبر «الدم» بسوادها، يحيلان على مجهول يُحرض الذات على خوض فعل الكتابة، في الوقت الذي تبدأ فيه هذه الذات، مكابدة تحولات «اللحظة العمياء»، مكابدة تبدأ «رعشةً» وتنتهي انفصالا، يؤشر عليه دال السفر، مقترنا بالوجه، وهو ما يجعل منه امتدادا لفعل التحليق. لم يرد دال «الشاعر» صريحا في «محفوفا بالأرخبيلات» إلا في قصيدة «نار غريبة»، مع التأكيد على أن ذات التلفظ، وهي تتوسل بضمير المتكلم المفرد الجمع، تتقدم في بناء تجربتها بما يجعل ممارستها مخترقة برؤية الشعر. في آخر نص «نار غريبة»، يرد هذا المقطع: «يرحل مظلَّلا بأنفاس العُقبان/ إنه شاعر، تخفره صيحته الأولى.../ حلمُه، الآن، أن يجمع/ مِن بين شفاه الفصول/ أسنانا جميلة/ تصلح لأفواه الموتى» (ص21.). يستمر دال «الرحيل» في رسم تجربة الشعر، بما هي تجربة انفصال، مُحوِّلة للذات ولمسكنها الشعري. ومرة أخرى تخفق «أنفاس» الطيور الكاسرة، ممتزجة بصيحة الشاعر. إنها عناصر الطبيعة، مستدعاةً من بدائيتها، لِتُضفي على تجربة الشاعر وضعية الصوت البكر، المكتشِف للأبعاد الوثنية والميثولوجية للذات، وهي تخوض مغامرة اكتناه أسرار الفضاء. ولا يستقيم «انفصال» الذات الشاعرة إلا باختراق «الحلم» لتجربتها، على نحو يستظل بالأعماق اللاواعية، التي تضفي على تجربة مبارك وساط حياة شعرية تصلها بالسحر والعرافة والكوابيس والهذيان. يُفتتح ديوان «فراشة من هيدروجين» بقصيدة «الظهيرة» التي تجسد استهلالا شعريا، يعيد بناء تجربة الكتابة كحكاية مُكثَّفة بما يخترقها من إيقاع الذات الكاتبة، التي يحررها من شروطها البرانية. يتوسَّل فعل «حكاية» التجربة الشعرية بضمير المتكلم المفرد، الذي يجعل الذات مسرحا لتجربة تُعيد بناء مشاهدها كالتالي: «كنتُ على وشك الغرق/ في البحر/ البسيط/ حين أنقذني/ بحارةٌ/ عروضيون/ هكذا بقيتُ على الرمال/ ملفوفا في بغام الظهيرة/ الذي تنبجس منه/ نمورٌ وديعةٌ/ لقد حُكم عليَّ بالتسكع/ فبيتي/ الشعري/ قد جرفته الأمواج/ وعليّ بمساعدة نموري، أن أبنيه ثانية» (ص.7/8). يتوزع حدث الكتابة على ثلاثة مشاهد: مشهد النجاة من الغرق في «البحر»، مشهد الاستلقاء على «الرمال»، ومشهد التسكع وانجراف «البيت الشعري»، لينهض من أنقاضه فعل الرغبة في إعادة البناء. إنها مشاهد تعيد وصل حدث الكتابة بمغامرة العوم. وهو فعل يتبادل الإضاءة، في تجربة الكتابة عند مبارك وساط، مع فعل «التحليق»، ليجعل منها فضاء للصعود أو الهبوط، كفعلين مُؤَسِّسين لانفصال، به تكون تجربة الكتابة مُخترَقة بإيقاع الذات. ويتقدّم دال «البحر البسيط»، في النص، كجناس يُحيل على «أحواض» عروضية، تجعل ماءَ الإيقاع مقيدا بحدود مسبقة. إن انتشال الذات من الغرق في هذه الأحواض العروضية، اقترن عند الذات الكاتبة بفعل انجراف المسكن الشعري. ولذلك تجمع تجربة الكتابة، في آن واحد، بين حدَّي النجاة -الهلاك، بما يجعل منها تجربة حدودية.