كيف تتم المزاوجة بين الصحافة والإبداع، بين كتابة تقريرية عجلى، لاهثة خلف الخبر، ومنضغطة بالتزامات اليومي.. وكتابة أخرى متأملة، قلقة، جوانية، وتحتاج باستمرار إلى حيز الحرية والوقت لممارسة شغبها؟ هو ذا السؤال/ الإشكال الذي عادة ما يحاصر الصحافيين الأدباء. هذا التوزع بين كتابتين/فضاءين مغايرين يجعل الصحافي المبدع منشطرا دوما بين ذاتين. قد يحدث التعايش، فتتقبل إحداهما الأخرى، أو يكون التعايش مستحيلا، فتنقاد واحدة للأخرى وتستسلم لها، وأحيانا تمّحي نهائيا. وغالبا ما تكون ذات المبدع هي الضحية حين يستحيل التعايش. في تاريخ العلاقة بين الصحافة والأدب، حدثت حالات عشق وزواج كاثوليكي وكذا حالات نفور وطلاق.. أسماء عديدة غامرت في لج هاته العلاقة، أسماء من عيار ثقيل: همنغواي، غارسيا ماركيز، سارتر، ألبير كامي… في العالم العربي كان إحسان عبد القدوس، جمال الغيطاني، يوسف القعيد، فتحي غانم، طيب صالح، غسان الكنفاني، جمانة حداد، إلياس الخوري، قاسم حداد.. وآخرون عديدون. في المغرب ظهر هناك أيضا من يهوى الجمع بين الأختين/ الضرتين: عبد الكريم غلاب، عبد الجبار السحيمي، إدريس الخوري، نجيب خداري، عبد الرفيع الجواهري..وفي الجيل الجديد كان عبد العالي بركات، سعيد منتسب، عبد العالي الدمياني، ليلي بارع ومليكة وليالي… كل هاته الأسماء المختلفة فكريا والمتباعدة جغرافيا يوحدها همّ مشترك: أن تكون كاتبا صحافيا وكاتبا مبدعا في الآن ذاته.. وتحدّ مشترك: كيف تتكيف مع إيقاعين مختلفين وأحيانا متنافرين. في هاته التجربة الممتعة والمرهقة في الآن ذاته لم يكن الصحافيون الأدباء بعيدين في صمتهم. كانوا يشاطروننا باستمرار متعة وبؤس المغامرة. الصحافي الفرنسي إيف بورتيلي يكشف وجها من المعاناة: «الأصعب هو أنك حين تشرع في كتاب وتبدأ في كتابة صفحة جديدة، فتضطر إلى التوقف مرغما لكتابة ربورتاج في موضوع آخر مختلف». بعض الصحافيين ذهبوا حد الجأر بأن الصحافة تقتل الأدب، وأنها مقبرة الأدباء. لكن ليسوا كلهم يقولون ذلك. حين سئل الصحافي الأديب يوسف القعيد عما إن كانت الصحافة تقتل فعلا الأدب، أجاب مستغربا: من قال ذلك؟. وفي رأيه أن أهم فضائل الصحافة على الأدب أنها تنزع عن الكتابة قداستها. بين الخندقين يقف همنغواي صاحب «العجوز والبحر»، متأملا ، قبل أن يقول قولة مأثورة سيرددها من بعده غارسيا ماركيز: «تناسب الصحافة الروائي كثيرا جدا بشرط أن يعرف متى يعتزلها فيه. لا يقوم ويتأخر عنها». هل كل الصحافيين الأدباء يدركون ذلك؟ وحتى إن أدركوه ماذا يستطيع من تكون الصحافة مصدره الوحيد للعيش؟ هو ذا السؤال الحارق الذي يواجه كل من يجمع بين الصحافة والأدب، ويحاول ألا يرزأ في أي منهما. محنة الصحافي/ الأديب بين الطارئ والمقلق سعيد منتسب ليس هناك أي مجال لسوء الفهم. أحيانا يخطر لي أن الصحافة غلطة مميتة، وأنها أشبه بتربية العناكب والجرذان، عن عمد، لتسميم ذلك العالم الجميل المشحون بالارتياب الذي نسميه الأدب؛ يخطر لي أنها موت بطيء في تلك المنطقة المحايدة التي يصنعها الدوام الوظيفي، وأنها تتأسس على المظهر الجاد والمتزمت. هناك تخوم كابحة، وهناك مطاردة لأشرار نعرف جميعا من أين اقتنوا ضغائنهم، كما أن هناك إغماضة عين أشبه بمسرحية هزلية نساهم جميعا في إخراجها، ونحرص جميعا على تحريكها وتحويلها إلى «قضية رأي عام». إن الصحافي هو الذي يتدبر اليومي والطارئ والسريع الزوال. أما الأديب فهو المعني بالحالات الداخلية، بالعمق والمشقة والقلق. ولهذا، أنا أزعم بأنني، مع حلول كل يوم جديد، أعقد تسوية مع نفسي، وأنني أجازف بتعريضها للقصف بقليل من الاهتمام؛ فما أنا في نهاية المطاف إلا متفرج: لست زعيما محنكا، ولا راعي إسمنت، ولا مصارع ثيران. وأدعي بأن هذه الأشياء تسبب لي الضجر، وأن سؤال «من الأقوى» (السؤال الذي يحكم العالم) يثير لدي إحساسا بالعزلة والتمرد، والرغبة في العيش في مكان آخر، خارج الأرض ربما. ومع ذلك، لننظر إلى الموضوع من زاوية أخرى. فالصحافة ليست قلبا باردا، وهي تمنعك من النوم ورأسك مسندة إلى النافذة، كما تجعلك تشعر بالهدير الذي حولك.. ومعها لا ينتهي أي شيء. أو دعني أقول إنها وجهة نظر تجعلك على دراية بالحساء الفاسد الذي يعده الزعماء للشعوب المغلوبة على أمرها. مع الصحافة بإمكانك الاستغراق في كل الروائح، كما بإمكانك أن تصغي إلى كل الأصوات بطاقة القادر على الملاحظة والفرز، وعلى إعادة التشكيل والبناء. بل إن بوسعها أن تنمي لديك ذلك النزوع الهزلي لتصحيح هشاشة الواقع؛ وهذا ما يمتلئ به الأديب ويسعى إليه : أن لا تكون رؤاه مخدرة أو مرتخية أو مغشيا عليها. أن لا يتكلم ورأسه محشورة في إناء من الماء. أن يملك تعبيره الخاص والاستثنائي. أن يتحول، على نحو واع، من أشكال فنية إلى أخرى. أن يكون قادرا على تجريب الخلطات وتركيبها. إن هذا هو الأفق (إغناء التجربة وإدراكها في كل أبعادها) الذي أنتمي إليه، وهذا ما نجح فيه القاص والروائي والشاعر الإيطالي دينو بوزاتي صاحب «صحراء التتار» الذي كان يقول في كثير من الأحيان إن خلفيته الصحافية تضفي جو الواقعية حتى على أكثر قصصه فانتازيةً. وهذا هو الأفق أيضا الذي انتمى إليه كتاب عالميون أمثال غارسيا ماركيز وإرنست همنغواي.. وآخرون. ولهذا، فالصحافة ليست مستحضرا زيتيا لتلميع الشعر، بل هي تمرين على حبس الأنفاس إذا ما أصابك تشنج عضلي في فهمك للأشياء. هذا على الأقل ما تعلمته من تجربتي الصحافية المتواضعة. تعلمت كيف يمكنني أن أمشي على أرضية باردة وأنا مغمور باليأس. تعلمت أن أنظر إلى «الحقيقة» من ارتفاع ستة أقدام. تعلمت ما معنى أن تضطر للكتابة عن مياه المجاري والحرائق والفضائح، وكيف تغمر الأوساخ بكتل الصابون حتى تصبح أكثر لمعانا. أما الأدب، فهو يرسل إلى كل ذلك نظرات حادة. هو نبرة التحذير التي لا تنطلي على الصحافة. هو اليقظة القصوى في عالم يتحيز للبنج بدل الصواعق. إن الأدب تأمل عميق في هذا السيرك الواسع الذي يقدم عروضه في الهواء الطلق، تأمل في ما وراء الفرجة والوجوه والأقنعة والدموع والآلام. بينما تكتفي الصحافة بالقشرة الخارجية، بالكلام، بالسيناريو، بالمعجزات، بالتصفيق. إنني أزعم- وأتمنى أن يكون ذلك حقيقيا- أن الأدب لا ينقاد إلا للإرغام الجمالي الذي لا يمكن تفسيره. أي أن الكاتب يسترد نفسه في الأدب، ويكاد يضيعها في الصحافة التي تجبره على التحيز، في لغته ومعالجته، للأبواق والأضواء وقرع الطبول. ومن ثمة، فالصحافي يتحول إلى «آكل نار» ليعجب الآخرين، وعليه أن يغويهم ويستدرجهم ل «استهلاك» ما يقترح عليهم من أطباق. إنني أزعم، تأسيسا على ذلك، أن الأدب يرقص مع الصحافة طوال الليل، لكن دون أن يكون مضطرا إلى مرافقتها إلى الفراش. إنها مجرد رفيقة، وليست عشيقة.. وما ينبغي للكاتب الذي يمتهن الصحافة أن يجعل الأدب تابعا، أو أن يجعله مساحة للتسلية، ولا أن يتعامل معه بارتفاع تام، بل يتوجب عليه أن يشعر على الدوام بأنه يخوض بحرا يقف الصحافيون على شطآنه، وأن الأدب هو النور الذي يضيء كل الأشياء.. إنني متحيز للصحافي الذي قرأ هوميروس وأوفيد والمتنبي ولوركا وموراكامي وإدوارد سعيد وزفيغ وكالفينو وماركيز وبيسوا.. إلخ، أكثر من تحيزي للصحافي الذي يحفظ قواعد الصحافة عن ظهر قلب. إن الصحافة والأدب ليسا منفصلين أو متباعدين بعمق. فالأولى ضوء على «واقع» معين يمكن أن تصنعه سياقات مختلفة، أما الثاني فضوء يعكس قوة الخيال بلا هوادة، ليمنح «الواقع» وجودا آخر. إن كليهما إذا شئنا الدقة يحملان وجهة نظر حول الحدود. فالصحافة ترسم الحدود والقواعد والممرات، بينما الأدب يحاول أن يحلق نحو حياة أخرى، ونحو وجود آخر تصنعه البراري والضواري والسماوات. العمل الصحافي ليس نقيصة المبدع عبد العالي بركات لا أعتقد أن العمل الصحافي يقتل الإبداع؛ لأن الصحافة في حد ذاتها إبداع، إلا إذا كان المقصود من ذلك أنها يمكن أن تشغل المبدع عن إنجاز مشاريعه الإبداعية؛ فبحكم التجربة والملاحظة، يتضح أن العديد من المبدعين في أجناس تعبيرية أخرى، تقلص عطاؤهم لصالح الممارسة الصحافية، أو مهنة المتاعب كما تسمى عادة، مع أنه في واقع الأمر، كل المهن متعبة، حتى تلك التي لا تستدعي منك القيام بأي مجهود، سواء فكري أو عضلي. الكاتب حين يجلس كي يمارس مهنته الصحافية، يفعل ذلك وفق الشروط التي تمليها هذه المهنة، وحين يخلو بنفسه لممارسة شغبه في الكتابة القصصية أو الشعرية أو غير ذلك من الأجناس التعبيرية الخارجة عن نطاق الكتابة الصحافية، يتقمص هذا الدور إذا صح التعبير، بكل أبعاده وجنونه. غير أنني ألاحظ، بحكم التجربة دائما، أن هناك بعض القراء والنقاد على وجه الخصوص، ينتقصون من الصحافي الذي يمارس الكتابة الإبداعية، ويتحدثون باستمرار عن احتمالات الأثر الذي تخلفه الصحافة على تجربته الأدبية، وحتى إن كان لا وجود لهذا الأثر بالمرة في هذه التجربة. الصحافة ليست نقيصة المبدع. أستغرب حين يقوم أحد النقاد بقراءة إحدى مجموعاتي القصصية ويدعي أن بعض نصوصها كتبت بأسلوب صحافي. هم مثلا لا يثيرون المسألة نفسها بخصوص من يمارسون التدريس أو المحاماة أو غير ذلك من المهن، ويذكرون أن هذه النصوص الإبداعية لهذا الأستاذ أو ذاك عليها أثر أكاديمي، وأن هذا الفعل أثر بشكل سلبي على المنحى الإبداعي. أنا لم أولد صحافيا، ربما ولدت كاتبا قصصيا، ولذلك لا مجال للربط بين الكتابة القصصية ومهنة الصحافة التي بدأت أمارسها بعد مراكمتي مجموعة من النصوص القصصية، لا بل إن إصداري القصصي الأول، طبع قبل شروعي في العمل الصحافي، والغريب في هذا الأمر أن هناك من يقول إن الصوت الصحافي بداخلي كان له أثر سلبي على بعض نصوص هذه المجموعة. إلى جانب الممارسة الصحافية المحضة، أي مواكبة الأنشطة الثقافية وإجراء حوارات وإنجاز استطلاعات والإشراف على الملحق الثقافي الأسبوعي.. إلى جانب ذلك أكتب وأنشر مقالا أدبيا بين الفينة والأخرى، وكل هذه المهام لم تحد من عطائي في مجال الكتابة القصصية، التي سأظل مخلصا لها رغم كل شيء، حيث صدرت لي لحد الآن ثلاث مجاميع قصصية، وأخرى في طريقها نحو الصدور. إذن يمكن القول إن الكتابة الصحافية لم تحل بيني وبين الكتابة القصصية، وأفضل بهذا الصدد أن لا أميز بين الصحافة والإبداع، على اعتبار أن الصحافة في حد ذاتها إبداع، كما أشرت إلى ذلك سالفا. لحسن حظي أن التخصص الصحافي الذي أعمل فيه، لا يوجد بعيدا أو خارج عالم الأدب والفن والثقافة بوجه عام، ولهذا أجدني منسجما مع ذاتي؛ فلا أكاد أشعر بضغط الإيقاع اليومي السريع الذي تفرضه الممارسة الصحافية، ليس هناك لهاث ولا سرعة ولا ضغوط ولا سجون. لا بل إن اشتغالي بالعمل الصحافي على امتداد أكثر من عقدين من الزمن، في هذا التخصص بالذات، له إسهام في إغناء تجربتي القصصية؛ حيث أجدني كل يوم مطالبا بقراءة تفحصية لمقال فكري أو نص إبداعي أو أقوم بتغطية لنشاط ثقافي معين أو غير ذلك من المواد المعدة للنشر، ونحن نعلم أن على الكاتب المبدع أن يكون له إلمام بشتى المعارف. كيف إذن يمكن لهذا النوع من العمل المهني أن يكون له أثر سلبي على كتاباتي القصصية. على العكس، هو عمل يعد مصدر إغناء لتجربة ما زلت أعتبرها في طور التشكل، ولا يمكن الحديث عن اكتمالها إلا بعد مفارقة هذه الحياة العابرة. الكتابة الصحافية لا تشكل أي ضغط من شأنه أن يحول بيني وبين مواصلة ممارستي الإبداعية، القصصية على وجه الخصوص، ولعل الضغط الوحيد الذي أعاني منه في هذا السياق مرتبط ليس بنصوص مكتوبة، ولكن بأصحابها تحديدا، حيث غالبا ما أتلقى اللوم من هذا الطرف أو ذاك، لكوني لم أقم بنشر مراسلته، أو لم أكتب عن إصداره الجديد، حتى وإن كان هذا الإصدار لم يتم توزيعه بعد، وكم من صداقات انقطعت لهذا السبب بالذات، كأنه مفروض في أن أقوم بكل شيء في وقت واحد، في حين أنه لا يكلف الله نفسا إلا وسعها. أعتقد أن الصحافة ستظل حاضنة للكتابة الإبداعية بكل أبعادها، ولا أدل على ذلك الانتعاشة التي عرفتها الملاحق الثقافية الأسبوعية خلال المدة الأخيرة، أخذا بعين الاعتبار أن القارئ بحاجة دائمة إلى ظلال وارفة يستريح تحتها، خصوصا مع جحيم القتل والحروب والأخبار السياسية الجافة التي تقتات من الدماء والكوارث اليومية، كما لو أن الصحافة تنحصر في الإخبار بمن مات وبمن قتل. الإبداع معتقل في زنازن الممارسة الصحفية بالمغرب محمد بلمو أذكر أن انجذابي للشعر والصحافة حصل بشكل متزامن تقريبا على مستوى القراءة بداية ثم على مستوى الكتابة في مرحلة ثانية. في طفولتي كانت الكتب جزءا من مكونات بيتنا بقصبة بني عمار بحكم دراسة أخوالي بجامعة القرويين. كنت بذلك محظوظا رفقة أخي فؤاد، حيث كنا نفتح صندوقا ضخما مملوءا بالكتب تركه أخوالي بعد هجرتهم نحو الدارالبيضاءوالرباط بدافع الفضول وحب الاستطلاع والاكتشاف نقلب صفحات الكتب والوثائق الكثيرة، نتفحصها ونتمعن في صورها وخطوطها، ومن هنا تكرست عندنا عادة القراءة، وبدأنا، أنا وأخي فؤاد الأكبر مني سنا بسنتين، نوفر الدراهم لاقتناء الكتب والمجلات والجرائد. كنت أقرأ بنهم وعشق كبيرين، ليس فقط من أجل المعرفة والمتعة، ولكن برغبة داخلية قوية في أن أتمكن يوما من تقنيات الكتابة فأكتب وأنشر مثل هؤلاء الذين أقرأ لهم. لم يتأخر ذلك كثيرا فعندما انتقلت للدراسة بالإعدادي في بداية ثمانينيات القرن الماضي نشرت أول محاولة شعرية بالمجلة الحائطية لجمعية قدماء تلاميذ بني عمار، وبعد أيام قليلة نشرت في نفس المجلة مقالا صحفيا حول عمل تلفزيوني مغربي، وانضممت إلى اللجنة الثقافية للجمعية تحت إشراف الأخ أحمد كريش ،وفي المرحلة الثانوية كنت مسؤولا عن المجلة الحائطية بداخلية ثانوية مولاي إدريس زرهون رفقة الصديق علي المنصوري المقيم حاليا بالسويد ننشر بشكل أسبوعي مقالات ومحاولات إبداعية لنا وللتلاميذ المقيمين. كنت مغرما في الوقت نفسه بالكتابة الشعرية والكتابة الصحفية، وسيستمر هذا العشق المزدوج إلى أن تخرجت من الجامعة وامتهنت الصحافة، مرورا بمراحل الثانوي والجامعي التي تميزت بنشري عددا من النصوص الشعرية والمقالات الصحفية بعدد من المنابر المغربية كأسبوعيتي «المسار» و»الطريق» اليساريتين، كانت مرحلة مفعمة بالرغبة الطفولية البريئة والهاوية في الكتابة على الواجهتين. لكن عندما انتقلت الى مرحلة العمل الصحفي المهني، بمبادرة من الزميل عبد الصمد بنشريف، سيتغير الوضع تماما، حيث ستتحول الكتابة الصحفية إلى عمل يومي ضاغط له الأسبقية والأولوية بحكم أنه هو الذي يضمن تغطية تكاليف العيش، بينما ستقبع الكتابة الشعرية في منطقتها الرمادية ككتابة هاوية وتتوارى إلى الوراء مكتفية بلحظات استثنائية قليلة في حياة الشاعر الذي ابتلي بمهنة صحافة تتغذى من اللغة الشعرية بالضرورة لصاحبها، لكنها تكتسح المساحة الزمنية الساحقة من وقت الكاتب وتترك الفتات للشعر. ففي الوقت الذي نشرت مئات المواد الصحفية من كل الأجناس خلال عشر سنوات لم أستطع نشر ديواني الأول «صوت التراب» إلا سنة 2001، ومعظم نصوصه كتبت في المرحلة الأولى. بهذا المعنى يمكن القول إن الإبداع يتحول إلى ضحية للممارسة الصحفية المهنية في بلادنا طبعا، وهو الأمر الذي جعلني مرارا أعيش بين نارين، وأحاول ما أمكن أن أعيد التوازن المستحيل بين الممارستين بدون جدوى، خصوصا عندما كنت مهنيا أكتب في الاجتماعي والسياسي، لكن عندما تفرغت للعمل في الصحافة الثقافية استطعت أن أرد بعض الاعتبار للممارسة الإبداعية على الأقل لأن عملي أصبح مرتبطا بالثقافة والإبداع في تجربة جميلة مع الزميل الطاهر الطويل. وهكذا تمكنا من فتح المجال أكثر لنشر الإبداع الشعري والقصصي والنقدي الأدبي المغربي في خرق واضح لأعراف الصحافة الحزبية، التي كانت تنشر الإبداع وفق معايير الانتماء الحزبي، مما كان يحرم العديد من المبدعين من كل الأجيال من نشر إبداعاتهم على الصفحات والملاحق الثقافية للجرائد الحزبية التي كانت مهيمنة آنذاك. ويمكن القول بدون تحفظ أن تلك التجربة شكلت انطلاقة للعديد من المبدعين المغاربة الجدد في القصة والشعر والنقد الأدبي والمقالة الثقافية، الذين استطاعوا بعد ذلك التأشير على حضور قوي على المستويين الوطني والعربي. لقد شكلت لي تلك التجربة التي لم يكتب لها الاستمرار بعض العزاء لذلك التواري القاهر لممارستي الشعرية بسبب تغول الممارسة الصحفية التي تسمن من جوع، خصوصا أن ما يميز بين الكتابتين كون كتابة الشعر لا تتم بقرار للكاتب وهو أمام المكتب لأنها كتابة زئبقية ومزاجية ومتمردة لا تخضع للترتيبات الزمكانية الدقيقة والمستعجلة مثلما تخضع الكتابة الصحفية. للأسف الشديد، يمكن القول إننا لم نعش عهد المبدعين الذين اشتغلوا في الصحافة في شروط توفر لهم الحفاظ على نوع من التوازن الخلاق بين الممارستين مثل العقاد وطه حسين وإدريس الخوري وعبد الكريم غلاب وعبد الجبار السحيمي وغيرهم كثير لأن إدارات منابرنا الإعلامية الحزبية آنذاك كانت تتوجس من الأعمال الإبداعية لصحفييها، لذلك لم تكن تعطي أي أهمية لهم باعتبارهم كتابا مبدعين يستحقون بعض الاعتبار وبعض الوقت لممارستهم الإبداعية، والدليل على ذلك أنها، أي إدارة التحرير، لم تكن تحتسب ما ينشره الصحفي في منابرها من نصوص إبداعية ضمن مردوديته المهنية، كما لو أن تلك الإبداعات بدون قيمة. أستحضر في هذا المقام تجربة الروائي محمد الحسايني، الذي كان من الرواد الأوائل في الصحافة، حيث اشتغل بجريدة «المحرر»، ثم انتقل إلى صحيفة «العلم» قبل أن ينهي تجربته المهنية بجريدة «الميثاق الوطني»، وكان من رواد الروائيين المغاربة، أصدر عددا من الأعمال الروائية في كل من سوريا والمغرب، غير أن عمله في الصحافة اكتسح وقته وانشغالاته وأثر بشكل سلبي على مساره الإبداعي، ولم يتم إنصافه إلى اليوم. وفي المحصلة النهائية يمكن القول إن الإبداع ظل في حالة اعتقال غير محدود في زنازن الممارسة الصحفية ببلادنا. محنة الكاتب بين الإبداع والصحافة محمود عبد الغني عملت في الصحافة منذ 1994 ضمن فريق من الصحفيين المتعاونين، الذين كان جلهم من الطلبة (أنا ورشيد نيني). وكان عبد الجبار السحيمي، رئيس التحرير آنذاك، يرسم لنا طريقا في الصحافة الثقافية. لم أنشر كتابا يومئذ، لكني كنت قد انخرطت ضمن كوكبة من الشعراء: نجمي، بوسريف، الحكماوي، الجماهري، الوزاني، أزغاي، عاهد، بنداوود. وصداقتي بالنقاد والمترجمين وكتاب السرد القصير والطويل لم تتجاوز أسماء معدودة: سعيد يقطين، حسن بحراوي، وإغلان. لكن مع توالي الأيام ومرور السنين بدأت هذه الدوائر تتسع: لقاءات عديدة وحوارات مع كتاب من المغرب والعالم العربي والعالم. لم تجعلني الصحافة أكتفي بصداقات مع دائرة الكتاب، بل حتى مع التشكيليين الذين لم أفهم يوما خلطاتهم وألوانهم: بلعباس، بنسماعيل، البحتوري، بليلي، الزبير، الديباجي، الزكاري، فاتحي… الصحافة إذن عالم لا حدود له، عالم هناك من يجعل فيه الليل يسبق النهار إلى أن ينهار الجسد وتُدمر الخلايا ويضعف القلب. كانت الرباط أيامئذ مدينة جميلة وهادئة، وكبيرة جدا بالنسبة لي أنا القادم من مدينة عمالية صغيرة: خريبكة. وحين ضاقت بي عمارة «العلم»، انتقلت إلى العمل مراجعا للترجمات في دار النشر «عكاظ» ضمن فريق يترأسه عبد القادر وساط. هذا عمل من نوع آخر، لكن حبالي بقيت مشدودة إلى سفينة الصحافة. ومع تحمل حزب الاتحاد الاشتراكي مسؤولية قيادة الحكم في ما عرف ب»حكومة التناوب التوافقي»، انتقلت للعمل في جريدة «الاتحاد الاشتراكي» بمكتب الرباط، الذي تحمل مسؤولية إدارته وتسييره أحمد المديني، الذي حين علم بأنني أهيئ دبلوم الدراسات العليا بكلية الآداب بالرباط، خفف من إيقاع عملي. وجدت في مكتب الجريدة إدريس الخوري، صاحب الكلام المثير، والطرق والأساليب المدهشة. ها أنا، إذن، عدت من جديد إلى حزبي، عبر جريدته، أنا الذي كنت سنوات طوال ضمن شبيبته بمدينة خريبكة، وضمن مناضليه ضمن الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، والذي من أجل أهدافه وإيديولوجيته ورجاله قضيت عقوبة سجنية. فمن سجن خريبكة كنت أكتب وأنشر بالملحق الثقافي لجريدة «أنوال». من هنا، حين نتأمل علاقة الكاتب بالصحافة، لا نستطيع أن نحلل العلاقة ضمن ذهاب-إياب، بل هي شبكة تُربط خيوطها في الدماغ والقلب والدماء. فإذا زرت معرضا للوحات، وقرأت قصائد، وأجريت حوارا، وشاهدت فيلما أو مسرحية، وأنجزت ريبورتاجا صحفيا، وقرأت رواية… ألا تكتب قصيدة شبكية عميقة وممتدة؟ وحتى عندما انتقلت إلى مهنة التدريس بقيت أعامل الطلبة كقراء: جماعة من المتعاطفين والمتلقين والمتربصين بما تقول، كما كان القارئ يتلقى ويتعاطف ويتربص بما أكتب. التقيت صحفيين في كل مكان من العالم، كما التقيت كتابا وشعراء يمارسون هذه المهنة الصعبة و»الغدّارة». امتلأت ذاكرتي ومفكرتي ودفاتري. ترى كم من دفتر حررت فيه مقالاتي وتغطياتي وقراءاتي؟ كم من قلم؟ العدد لا يحصى. أما قائمة العلاقات فممتدة، من كل الشرائح والأعمار والجنسيات والمدن، وأنا منذ سنوات أعمل على تقليصها، لكنها ترفض أن تتقلص. فتحية اعتراف لصاحبة الجلالة. الصحافة بين اليومي والإبداعي ليلى بارع العلاقة بين الإعلام والإبداع هي علاقة وثيقة وغامضة، أداتها المشتركة هي اللغة بطبيعة الحال، ولعل التاريخ الأدبي العالمي يقدم لنا نماذج كثيرة لهذا الزواج الصعب واللذيذ بين الكاتب ومهنة الصحافة، ولا يمكن الحديث عن هذه العلاقة دون أن يقفز أمامنا مثال الكاتب الأمريكي العملاق إرنست همنغواي أو غارسيا ماركيز وكذا الشاعر أنسي الحاج وغسان كنفاني وناجي العلي وغيرهم كثر. في المغرب أيضا هناك نماذج كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر المبدع عبد الحميد الغرباوي والشاعر نجيب خداري وعبد الكريم غلاب وغيرهم من الأسماء، بل حتى من لا يشتغل اليوم، من المبدعين، صحافيا، يحرص على الحضور ككاتب عمود أو مقالة، وهو ما يؤكد عمق هذه العلاقة وضرورتها أحيانا للكاتب… أن تشتغل بالصحافة والإبداع يعني أنك شخص في ورطة جميلة لكنها قاسية، فضغط الإعلام اليومي يجعل الكفة تميل لصالح الصحافة، خاصة بالنسبة للمشتغلين في الإعلام اليومي بكل تحدياته ببلد مثل المغرب، والذي يعد طاحونة يومية والتزاما كامل تجاه وظيفتك، حيث لا مجال للصحافي المبدع والمشاغب والمتغيب عن العمل، لأسباب إبداعية ما، داخل هيئة تحرير إعلامية مغربية. ومن شأن عدم الوعي بهذه الحقيقة أن يدفع المبدع إلى التراجع والذوبان داخل الصحافي، لذلك يقل الإنتاج الإبداعي للإعلامي المرتبط بأجندة يومية إعلامية قارة، وقد يتخلى عن إبداعه إن لم تساعده الظروف أو كان في بداياته. طبعا هناك مقاولات صحفية أسبوعية أو شهرية تمنح مرونة أكثر للمبدع الكاتب، خاصة حين يكون رؤساء التحرير أو مدراء الجريدة ينتمون إلى محيط ثقافي معين، لكن الواقع أن هذه المقاولات قليلة شأنها شأن المؤسسات الصحافية عامة بالمغرب. ينبغي أن يكون للشخص تصميم كبير على المضي قدما في طريقه ككاتب إن كانت الصحافة هي مهنته الأساسية… لكن ربما كان من حظ الإعلاميين المبدعين أن أغلبهم يشتغل في القسم الثقافي، وهو ما يمنحهم ميزة البقاء داخل دائرة معينة تمكنهم من متابعة قريبة لما يحدث في المجال الثقافي. تصور أن يكون من سوء حظ المبدع أن يكون مكلفا بصفحة خاصة بالأخبار الوطنية أو الوفيات أو الاقتصاد، من شأن ذلك إصابته باكتئاب سريع… ودفعه إلى الانزواء، لكن اشتغال أغلبية المبدعين الإعلاميين بمسؤوليات داخل القسم الثقافي يجعل الأمر أكثر مرونة، ويجعلهم على صلة بعالم الثقافة والأدب، وفي ذلك بعض العزاء المعنوي… هل يمكن أن يخنق الإعلامي المبدع ويقلص مساحته؟ قد يحدث ذلك إن كان المبدع في بداياته كما أشرت، لكن الكتابة هي حاجة ملحة بالنسبة للمبدع، حاجة تشبه الهواء، وليس ذلك من قبيل المجاز. هناك إحساس بالاختناق قد يصيب المبدع حين يمتنع عن الكتابة، لذلك لا أعتقد أن الصحافة تحول دون الإبداع، وسأتحدث قليلا عن تجربتي الأخيرة في جريدة «الخبر» اليومية، حيث كنت مكلفة بإنجاز صفحة يومية ثقافية وملف ثقافي من صفحتين في نهاية الأسبوع، بالإضافة إلى صفحة موضة وصفحة أسرة. استمر الأمر أكثر من سنة قبل أن يصبح المجموع صفحتين في اليوم الواحد.. من شأن أمر كهذا أن يدفع بك إلى الجنون وإلى فقدان أي إحساس بالإبداع، لكن الأمور تتحسن بشكل ما، ويجد الإبداع، قصة كان أو قصيدة أم رواية..، مكانا وسط كل هذه الفوضى الخلاقة، إنه قانون الحياة، أن نكون قادرين على الإبداع في كل الظروف، جيدة كانت أم سيئة… الجميل في مهنة الصحافة أنها تضع الإعلامي بشكل مباشر في مواجهة العالم الخارجي بكل قبحه وجنونه وحروبه ومآسيه. إنها تشحذ عملية الإبداع بشكل خفي. طبعا، العملية الإبداعية في حد ذاتها معقدة، فكيف يمكنك أن تكتب قصيدة أو رواية أو قصة قصيرة أو ترسم لوحة تشكيلية بعد انتهائك من عملك الإعلامي على الساعة الرابعة والنصف زوالا وحضور ندوة على الساعة السابعة والعودة إلى البيت على الساعة الحادية عشرة؟ شيء يصعب الحديث عنه، لكن ما أنا أكيدة منه مائة في المائة أن قلم الإعلامي يشحذ قلم المبدع داخل نفس الشخص… خاصة إن عرف المبدع كيف يستغل الأمر ويوظفه لصالحه، والأمر كله منوط بقوة إبداعه وتمكنه من أدواته ووعيه بحقيقة الوضع الذي يوجد فيه. ينبغي على المبدع استغلال كل النقاط الإيجابية لصالحه دون استسلام لظروف العمل الصحافي التي قد تختلف من منبر إلى آخر… رياض شاهين : لانستطيع العمل بانتظام لقلة الكهرباء، ونحن لانراه في غزة إلا قليلا قال ل: المساء زادني المغرب حب العروبة عندما رأيت الجماهير المغربية تخرج في مسيرات كبيرة جدا تندد بالهجمة الصهيونية علىالمسجد الأقصى رياض خالد شاهين مخرج فلسطيني من مواليد قطاع غزة عام 1967م، يعمل مخرجا في قناة «فلسطين» الفضائية منذ عام 2004م، وهو رئيس شركة «السلام» للإنتاج الفني والإعلامي بفلسطين. كما يعمل وكيلا لشركة «شالنج بردكشن» للإنتاج السمعي البصري بتونس، ومديرا لمهرجان الشباب والحرية الدولي للأفلام التسجيلية، له عدة أفلام وثائقية من بينها: «نهار معتم» و»هديل»، وهما الفيلمان الوثائقيان، اللذان تم عرضهما مؤخرا بالمركب الثقافي سيدي بليوط بمناسبة مهرجان الدارالبيضاء الأول للفنون والثقافات، الذي نظمته جمعية الزاوي للمسرح والتنشيط الثقافي والفني يسيدي بليوط، حيث يجسد الفيلم الأول معاناة الصحفيين في فلسطين، وخاصة في قطاع غزة، مما يرونه من أحداث خطيرة وصور مرعبة، عبر عنها المخرج رياض شاهين رمزيا، بعدما استشهد مصور صحفي وهو يقوم بتصوير الأحداث وتغطيتها في غزة، وتم في آخر الشريط دفن كاميرا المستشهد في قبر من طرف زميل له تعبيرا عن نهاية حياته اليومية والعملية. بينما عبر الشريط الثاني «هديل» عن محنة الأطفال الفلسطينيين داخل قطاع غزة، من خلال استشهاد طفلة داخل البيت بعدما سقطت على هذا البيت قذيفة إسرائيلية، وإصابة أفراد عائلتها، كما جسد الصدمة والمعاناة التي واجهت الأسرة والجيران وزميلاتها في المدرسة. وبهذه المناسبة كان لنا معه هذا الحوار حاوره – شفيق الزكاري – كيف كان اختيارك مجال التصوير السينمائي؟ وما هي الأسباب التي دعت إلى ذلك؟. في صغري، كنت أغطس في أعماق البحار وأساعد المصور تحت الماء حين كان يغطي تدريب الغواصين. كنت أشعر بمتعة كبيرة حينما كنت أغطس وأمسك بالكاميرا وأصور المشاهد الخلابة تحت سطح الماء، ومنذ ذلك الوقت وأنا أحب التصوير داخل وخارج الماء، وبعد فترة أحسست بأن الصورة هي فن وإبداع. وأكملت المسيرة في تغطية الأحداث في قطاع غزة عندما يجتاح العدو الصهيوني القطاع فيدمر ويقتل ويجرف ويأسر، فكان لزاما على كل الصحفيين والمصورين تغطية هذه الغطرسة الصهيونية، فكنت واحدا من بين هؤلاء الزملاء. - ما هي القضايا التي توليها الاهتمام والأولوية في مجال إبداعك؟. الأولوية هي إنتاج البرامج والأفلام الوثائقية والأغاني والأناشيد الوطنية التي تحمل همّ الشعب الفلسطيني وقضيته. - وما هي الأسباب التي جعلتك تركز على الفيلم الوثائقي عوض الأفلام السينمائية القصيرة أو الطويلة؟. كان الدافع الأساسي هو تجربتي الناجحة في إنتاج الفيلم الأول بالنسبة إلي، حيث إن إنتاجه كان بسيطا جدا، إذ أن تصوير الفيلم كان بكاميرا «هاند كام» رخيصة الثمن، وقد كتبت السيناريو الأخت الزميلة لنا حجازي في وقت قصير، وقمت بالمونتاج على جهاز حاسوب عادي، وبعض الزملاء ساعدوني في التصوير. أستطيع القول إن الفيلم لم يكن مكلفا على الإطلاق، وحاز عدة جوائز دولية، فكان لإنتاج الفيلم، وأصدقائي من حولي، الفضل على نهوضي في صناعة مثل هذه الأفلام رخيصة الثمن والغالية بمحتواها وقدرها الذي يترجم الحياة الفلسطينية إلى واقع فني وإبداعي. كما أن وجود الاحتلال الصهيوني وحروبه وغطرسته على جميع الأراضي الفلسطينية جعل العديد من القصص والروايات الواقعية المؤلمة تصلح لعمل مئات، بل آلاف الأفلام الوثائقية. - كيف يمكنك أن تبلغ الفكرة كقضية من خلال أفلامك الوثائقية عن الشعب الفلسطيني إلى الضمائر الحية في المجتمع الإسرائيلي؟. نحن نقوم بصناعة الأفلام الوثائقية المختلفة عن العديد من القضايا، التي تخص شعبنا الفلسطيني بطريقة فنية وسلسة، ونقوم بعرضها في مختلف القنوات الفضائية ونشرها على مواقع الإنترنيت، بالإضافة إلى مشاركاتنا في الكثير من المهرجانات الدولية للأفلام. وتكون هذه الأفلام مترجمة كي تصل إلى أكبر عدد من دول العالم، ويتقبل هذه الأفلام كل من له ضمير في هذا العالم، لكن للأسف لا توجد ضمائر حية عند الصهاينة. - ما هي الصعوبات والعراقيل التي يمكن أن تؤثر في ظروف إنتاجك الإبداعي كفلسطيني مقيم بقطاع غزة؟. لإنتاج الأفلام الوثائقية في قطاع غزة تسهيلات شتى من قبل المواطنين والأسر الغزية ومعاملتهم النبيلة مع طواقم التصوير والصحفيين... وغيرهم، وأيضا هناك عطاء كبير وروح معنوية عالية لدى شباب المقاومة والقادة والمناضلين وشتى الفصائل الوطنية. أما العراقيل التي تواجهنا في عملنا فهي عديدة، على رأسها الحصار الخانق على قطاع غزة بأكمله، حيث لا نستطيع العمل بانتظام بسبب قلة الكهرباء، فجميع الأجهزة والمعدات تحتاج إلى كهرباء، فنحن لا نرى الكهرباء في غزة إلا قليلا، وكأنها شبه معدومة، وحتى الوقود لا نجده إلا قليلا وبصعوبة عندما نحتاج للتنقل بالسيارات أو استعمال المولدات الكهربائية. وكذلك عندما ينوي أحد المنتجين أو المخرجين المشاركة في مهرجانات دولية للأفلام، لا يستطيع السفر إلى الدولة التي تستضيفه، مع أن فيلمه قد يحصل على جائزة، فلا تكتمل فرحته بالمشاركة مع نظائره من الدول الأخرى في الكثير من المهرجانات. وكذلك الوضع الاقتصادي المتدني الذي يواجهه الغزيون. - هل إنتاجك الفني يقتصر فقط على المواضيع المتعلقة بالشعب؟ الفلسطيني، أم هناك تصور آخر في اتجاه تغيير الاهتمام بقضايا أخرى؟. نعم في الفترة الأخيرة كانت هناك بعض الإنتاجات عن مواضيع أخرى بعيدة عن القضية الفلسطينية بسبب تواجدي الثلاث سنوات الأخيرة بعيدا عن أرض الوطن، مثل عمل أفلام وثائقية عن بعض المدن والولايات في دول أخرى، وكذلك عن المساجد الأثرية، سيما في الجمهورية التونسية. - وما هي القيمة المضافة التي حصلت عليها من خلال زيارتك الفنية للمغرب مؤخرا مقارنة بالدول العربية الأخرى؟. بدون مجاملة، زادتني المملكة المغربية في زيارتي لها حب العروبة عندما رأيت الجماهير من شتى المدن المغربية تخرج في مسيرات كبيرة جدا تندد بالهجمة الصهيونية المسعورة على مدينة القدس والمسجد الأقصى، فشعرت بدعم الانتفاضة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، علاوة على الدعم الكبير للشعب الفلسطيني من قبل الملك والحكومة والشعب وكأن البلاد العربية تستعيد قواها وعروبتها ضدد المحتل الصهيوني، مما أعطاني الدافع الكبير بأن أستمر في مسيرتي لإحساسي بأنني في بلدي الثاني. - وما هي مشاريعك المستقبلية؟. الاستمرار في إنتاج الأفلام المتعلقة بالقضية الفلسطينية، سواء كانت وثائقية أو درامية، وإقامة مهرجان كبير للأفلام يحمل اسم فلسطين أو مدينة من مدنها، والمشاركة في المهرجانات والمؤتمرات الفنية والسينمائية والثقافية لخدمة قضيتي الفلسطينية والقضايا العربية عامة. الولوج إلى الصحافة من بوابة الأدب الطاهر الطويل الأدب والصحافة، والواو بينهما ينشئ علاقة فريدة، أهو واو عطف؟ أم يفيد هنا التراتبية والتعاقبية؟ نبادر إلى القول إن العلاقة بينهما علاقة اتصال لا علاقة انفصال، وإن صلة الوصل بينهما هي الكلمة بسلطتها وعنفوانها وتجلياتها وتأثيرها وشحناتها الدلالية. فبينما يُؤسطر (من الأسطورة) الأدب الكلمة، تمنحها الصحافة طاقتها التداولية السريعة. صحيح أن الأدب سابق، والصحافة لاحقة، لكنهما سرعان ما تآلفا وتساكنا ونسجا بينهما زواجا للإمتاع، إمتاع الآخر، سواء كان موضوعا للكتابة أو كان مرسلا إليه. ولئن بَدَا مجال الأدب إيحائياً مجازيا، ومجال الصحافة تعيينياً إخبارياً، فإن الصحافة استعارت من الأدب رداء اللغة البهي، واستعار الأدب من الصحافة قنواتها التواصلية. التقيا عند المتلقي هدفا مشتركا لهما، حتى بعد أن صار للصورة حضورها في الصحافة المكتوبة والمرئية. *** من قبل، كان الأدب ينتقل شفاهة وعن طريق النسخ اليدوي، وكانت له وظيفة التوثيق، فضلا عن الوظائف الإبداعية الجمالية. ولن نغالي بقولنا إنه كان أداة اتصال بين الناس والشعوب. وصار بالتالي سِجِلا للعديد من الوقائع ومن قيم الحياة وأنماط العيش. وبظهور الطباعة أواسط القرن الخامس عشر على يد غوتنبرغ دشنت مرحلة جديدة في تاريخ الكتابة أفادت الأدب والصحافة معاً، من حيث سرعة الانتشار وسعته، وكذلك من حيث الاستنساخ الآلي السريع الذي أخذت جودته في التطور بشكل لافت للانتباه، علماً بأن المطبعة لم تدخل العالم العربي سوى أوائل القرن الثامن عشر (في بلاد الشام عام 1702، وفي مصر عام 1718). وقد ظهرت أول جريدة في الوطن العربي، هي «الوقائع المصرية»، عام 1828. ولن نستغرب إنْ وجدنا كثيرا ممن امتطوا صهوة مهنة المتاعب أدباء قبل أن يكونوا صحافيين بالمعنى الحرفي. كما أن الصحافة قامت وازدهرت بفضل كتاب وليس مهنيين. ويمكن أن نستدل على ذلك بالأسماء التالية: عباس محمود العقاد، طه حسين، أحمد أمين، جرجي زيدان، ميخائيل نعيمة، علال الفاسي، محمد بلحسن الوزاني، سعيد حجي، عبد المجيد بن جلون، عبد الكريم غلاب، عبد الجبار السحيمي، إدريس الخوري، محمد الأشعري، عبد الرفيع الجواهري… وغيرهم. وجد الأدب إذنْ ضالّته في الصحافة، فصار متيسرا تداول الأجناس الأدبية على نطاق واسع، وبأسلوب أكسبته الصحافة السلاسة والبساطة والانسيابية في التعبير، وفي ظرف وجيز من خلال الصحف والمجلات، وبسعر أقل من سعر الكتاب غالبا. وهكذا، تبدو القصة القصيرة الجنس الأكثر استفادة من الصحافة، باعتبار مسايرة حجمها وشكلها لما تتطلبه الصحيفة أو المجلة من اختزال وتكثيف في التعبير. الشعر، أيضاً، مدين للصحافة ببعض التحول، إذ انتقلت القصيدة مما وسمت به من خاصية إنشادية، إلى خاصية تقوم على ما هو بصري، أي: طريقة كتابة الأسطر والأبيات، استعمال البياض، ظهور ما يسمى ب»القصيدة الكاليغرافية»، علاوة على كون جل الحركات التجديدية التي طالت الشعر العربي الحديث والأدب العربي عموما خلال هذا القرن ارتبطت بمجلات عكست رؤى مختلفة يلتقي فيها ما هو إبداعي بما هو فكري ومذهبي، كمجلة «المقطم» لجماعة «الديوان»، «الرسالة» لمحمد حسن الزيات، «الآداب» التي احتضنت شعر التفعيلة وخاصة مع بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور، مجلة «شعر» التي كانت منبرا لقصيدة النثر مع أدونيس وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا ومحمد الماغوط. بالإضافة إلى ذلك، برزت وتطورت مع الصحافة الخاطرة والمقالة الأدبية، وصار متاحا نشر روايات مسلسلة ونصوص مسرحية، كما ساهمت الصحافة في تطور النقد الأدبي، وتحقيق المواكبة الإعلامية المستمرة لما ينشر من إنتاجات أدبية، مواكبة تتراوح بين النقد الصحافي السريع الذي يقوم على التعريف بالإنتاج الأدبي وتقديمه وإعطاء انطباعات حوله، وبين النقد الأكاديمي الرصين القائم على مناهج تحليلية وأدوات نقدية إجرائية. وكما ساهمت في ظهور مجلات ودوريات معينة، كان لها أيضا دور في ظهور سلسلات أدبية ونقدية، وكذلك في ظهور ما ينعت ب»كتاب الجيب». إن زواج الإمتاع بين الأدب والصحافة قائم على إمتاع الذات وإمتاع الآخر، وبناء تصور فكري جمالي للعالم وللأشياء، والسعي إلى تحرير الذهنية الجمْعية من ترسبات الجهل والتخلف والإحساس بالدونية. غير أن هذا الزواج المنحصر ضمن إطار نخبوي ما زال يحتاج (في المغرب كما في دول عربية أخرى) إلى اعترافين: رسمي وشعبي، لتغيير النظرة الاستصغارية إليه وإلى الشأن الثقافي عموما. *** هل صحيح أن الممارسة الصحافية تؤثر سلبا على العطاء الأدبي لدى من يحترفون مهنة المتاعب؟ قد يكون الأمر صحيحا في حالات كثيرة، حيث يقلّ النشاط الأدبي وقد يضمحل، بحكم أن تلك المهنة تأخذ من الإنسان الكثير من وقته وجهده وانشغالاته. ولكن ذلك النشاط لا يغيب لدى أدباء آخرين ممن جعلوا الصحافة شغلهم اليومي. وحتى إنْ توارى العطاء الأدبي، فإنه يُصرّف بشكل آخر في العمل الصحافي، ذلك أن الكتابة الأدبية تُضفي على الصحافة هالة من الجمال والمتعة والجاذبية؛ فليست الصحافة مجرد تقنيات ومناهج، ولكنها أولا وقبل كل شيء أسلوب، والأسلوب مرتبط بالموهبة، والموهبة لا تُمنح أو تدرّس في المعاهد المتخصصة. إنها مَلَكة فطرية، تولد مع الإنسان، وتنمو وتكبر وتتطور مع الاحتكاك بالمحيط الاجتماعي والثقافي والفكري وبالدراسة والقراءة؛ حيث تُصقل التجربة وتخطو خطوات كبيرة نحو الأمام. الصحافة والأدب مرتبطان بالقلم، والقلم لا يكون مُيسّراً لأيّ كان، إنه مخصوص بتلك المَلَكة المشار إليها. ومن هنا، تبدو الكثير من الكتابات الصحافية (سواء كانت قصة خبرية أم تحقيقا أم عمودا أم افتتاحية أم استجوابا… أم غيرها) مجرد نصوص لا روح لها ولا طعم؛ في حين أن اللمسة الأدبية تجعلها شائقة ومفعمة بالحيوية. وهذا ما يميز صحافياً عن آخر، كما يميز كاتباً عن غيره. *** ومن هنا، فأنا مدينٌ للقلم الذي حملته منذ طفولتي ويفاعتي؛ مدينٌ لأصدقائي وأساتذتي الأوائل الذين شجعوني على الكتابة وصفقوا لخربشاتي البكر؛ مدينٌ للصحافيين/ الأدباء ممّن احتضنوا محاولاتي الشعرية والقصصية الأولى التي نشرتها في جريدة «الميثاق الوطني» و»العَلم» وأنا لم أصل بعد إلى العشرين من عمري؛ مدينٌ لأعمال رائعة كنت أقرأها بنهم، وهي لأسماء لامعة من أمثال كامل الكيلاني ونجيب محفوظ وجبران خليل جبران ومصطفى لطفي المنفلوطي وعبد المجيد بنجلون وعبد الكريم غلاب وغيرهم من الأدباء الذين غذّوا مخيالي الأدبي والفكري، بالإضافة إلى كتّاب آخرين من الضفاف الأخرى البعيدة؛ مدينٌ كذلك للمسرح الذي فتح لي آفاقا رحبة، في دار الشباب أولا، ثم في المهرجانات والملتقيات المسرحية ثانيا، حيث صار بإمكاني أن أرى النصوص المسرحية المغربية والعالمية تحيَى حياة جديدة على الخشبات، وأن أرتوي من معين عوالمها الرحبة، وأيضا من النقاشات المفيدة التي كانت تُثار على هامش العروض المسرحية؛ مدينٌ لأساتذتي الأفاضل في الجامعة، نقادا وأدباء وباحثين، ممّن استفدت من تجاربهم ومن رؤيتهم للعالم بالقدر نفسه الذي كانوا لي دليلا إلى مناهج التحليل القديمة والحديثة والمعاصرة في قراءة النصوص وتلقيها، أستحضر هنا على سبيل المثال لا الحصر: محمد بنيس، محمد الدغمومي، إدريس بلمليح، حسن بحراوي، محمد مفتاح، سعيد يقطين، عبد الجليل ناظم، سعيد علوش، أحمد الطريسي، أحمد الإدريسي… وغيرهم؛ وأخيراً أنا مدينٌ للقرّاء الكثيرين الذين كانوا يبدون آراءهم في كتاباتي، إنْ من خلال البريد العادي سابقا، أو من خلال البريد الإلكتروني في ما بعد، أو من خلال الاتصالات الهاتفية واللقاءات المباشرة أحيانا. ذلك أنني أؤمن بأن مَن لا يصغي لآراء الآخرين في كتاباته (تقويماً ونقداً وليست دائما إطراءً) لا يمكن أن يخطو خطوة واحدة نحو الأمام…