أثناء زيارتي لمنطقة تنالت، التي تبعد عن مدينة أكادير بما يعادل 180 كيلومترا، لم تفتني زيارة المدرسة العتيقة «فوكرض» بدوار أودخس التابع لقبيلة آيت يحيى. زيارتي للمدرسة لم تكن بمحض الصدفة، فصيتها الذائع يزيد شغفك باقتحام أسوارها، كيفلا ومن أقسامها تخرج علماء كبار من مختلف الدول العربية والإسلامية، تتلمذوا على يد العلامة الحاج الحبيب البوشواري، الذي التقيت بأحد طلبته الأكفاء الذين نهلوا أصول العلم والفقه على يديه، هو الحاج عيسى طالب. لم يكن يجول ببالي حين اقتحمت الباب الرئيسي للمدرسة العتيقة في اتجاه غرفة العلامة، التي توجد في ركن مستقل عن غرف الطلبة، وقريبة من المسجد، أني سألتقي رجلا بتلك الهيبة والوقار والتواضع. أصر الحاج عيسى طالب وهو يستقبلني، رفقة شباب من القبيلة، أن يقوم بنفسه بإعداد الشاي بالزعفران الحر، وأن يقدم إلينا أطباقا كبيرة، تشبه «الجبانيات المزلجة»، مملوءة بالعسل الحر وآملو وأودي (السمن البلدي). بعد ذلك، حكى لي كيف قضى بمدرسة «فوكرض» ما يزيد على 48 سنة، قادما إليها من مسقط رأسه تارودانت، وكيف تتلمذ على يدي الحاج الحبيب البوشواري لما يزيد على 11 سنة، قبل أن يجعله خلفا له. بعد أن استلم الحاج عيسى طالب مقاليد المدرسة، صار هدفه، كما يحكي، هو مواصلة السير على نهج السلف وتوريثه للخلف، وإن أصبحت المدرسة تعاني كثيرا من قلة إقبال الطلبة على التعليم العتيق، إذ لم يعد الإقبال -كما يروي الحاج عيسى- كما كان عليه في السابق حين كان يحج إلى المدرسة شباب من دول عربية وإسلامية لدراسة أصول الدين والشريعة الإسلامية. سألت الحاج عيسى طالب عن الموارد المالية لمدرسته العتيقة، فلم يخف تذمره من السياسة العقابية التي تنتهجها الوزارة الوصية، والتي تقوم على حرمان الطلبة من المنح. وحين سألته عن السبب، أخبرني بأن جل المدارس العتيقة بالمغرب رفضت إدراج تعليم اللغات الأجنبية ضمن المواد الدراسية التي تدرس بها، على اعتبار أن هذه المدارس تمارس التعليم العتيق، وبالتالي فقد أراد الرجل، شأنه شأن باقي القيمين على هذه المدارس، الحفاظ على موروث الأجداد في التدريس، لكن الوزارة الوصية لم تتفهم مبرراتهم، وصارت تحرم الطلبة من المنح. طبعا، في مثل هذه الوضعية لم يكن أمام القائمين على المدرسة سوى استجداء جود وكرم القبائل المجاورة، فكانت كل قبيلة تخصص قسطا من المال للمشرف على المدرسة، فيما تكفل العديد من المحسنين بمؤونة الطلبةِ، القادمِ أغلبُهم من مدن أخرى. قمت بإطلالة بسيطة على غرف هؤلاء الطلبة، فكانت كافية لمعرفة المشاكل التي يعانونها، إذ كانت كل الغرف تفتقر إلى لأبسط شروط الإيواء، فأبوابها الخشبية متآكلة، ولا يوجد هناك ماء ولا أي شيء ييسر على الطلبة عملية التعلم. لا أعرف بالضبط الملابسات الحقيقية التي تجعل الوزارة الوصية تحرم الطلبة من المنح لمساعدتهم على إتمام تعليمهم العتيق. لكن أن تُترك مدرسة عتيقة للإهمال بهذا الشكل، وأن يعتمد هؤلاء الطلبة في دراستهم على ما يجود به المحسنون فقط، وأن يعيشوا في ظروف صعبة… كل هذا لن تكون له سوى نتيجة واحدة: عزوف الطلبة عن هذا النوع من التعليم. وطبعا، حين يحدث العزوف لا يتبقى لشبيهات مدرسة «فوكرض» سوى إغلاق الأبواب. وحين ستغلق أبواب هذه المدارس، فإن الموت السريري سيكون مصير التعليم العتيق بالمغرب. لا أعرف ما إن كانت هناك جهات معينة تسعى إلى قتل التعليم العتيق، لكن من يريد ذلك ينسى أن التاريخ الديني لهذا البلد صنعه علماء كبار تخرجوا من مدارس عتيقة تشبه مدرسة «فوكرض».