بدأت الحكاية بطريقة عادية: كلب في الشارع هاجم أحد المارة فعضه وجرح إصبعه.. صرخ الرجل من شدة الألم فتجمهر الناس حوله، وتصادف مرور رجل الشرطة الذي حقق في الواقعة وقرر أن يقبض على صاحب الكلب ويقدمه إلى المحاكمة بتهمة إطلاق كلبه بدون كمامة وتعريض حياة المواطنين إلى الخطر، سأل الشرطي عن صاحب الكلب، فأجابه أحد الواقفين: - إنه كلب مملوك للجنرال (حاكم المدينة): هنا.. بدا الارتباك على الشرطي وسرعان ما تغير موقفه من النقيض إلى النقيض، وبدلا من القبض على صاحب الكلب توجه إلى المجني عليه، المصاب، وراح يوبخه بصوت عال قائلا: - إسمع.. إن كلب صاحب السعادة، الجنرال، مخلوق رقيق في غاية الذوق والأدب.. أنت الذي استفززته، أنت الذي نفخت دخان سيجارتك في وجهه الكريم، مما اضطر الكلب المسكين إلى عض إصبعك دفاعا عن نفسه.. سوف أقبض عليك بتهمة استفزاز الكلب. هذا ملخص قصة رائعة للكاتب الروسي الكبير أنطون تشيكوف (18601904) كتبها بعنوان «الحرباء».. والمعنى وراء القصة أن بعض الناس، من أجل مصالحهم الضيقة الصغيرة، يتلونون كالحرباء فيغيرون مواقفهم بلا خجل من النقيض إلى النقيض. تذكرت هذه القصة وأنا أتابع الحملة الضارية التي يشنها كتبة النظام هذه الأيام على الدكتور محمد البرادعي، فقد ظل هذا الرجل لسنوات محل الحفاوة الرسمية حتى إن الدولة المصرية أنعمت عليه بقلادة النيل، وهي أرفع وسام في مصر.. وكان كتبة النظام آنذاك يتنافسون في ذكر مزاياه وإنجازاته (وكلها حقيقية)، ولكن ما إن ارتفعت أصوات المصريين تطالب البرادعي بالترشح لرئاسة الجمهورية حتى انقلب كتبة النظام، مثل الشرطي في قصة تشيكوف، من النقيض إلى النقيض.. فأمطروا الدكتور البرادعي باللعنات وحاولوا أن يقللوا من شأنه وأن يلصقوا به كل ما يسيء إليه.. وبغض النظر عن سقوطهم المهني والأخلاقي، فإن ذعر كتبة النظام المصري من محمد البرادعي يرجع إلى الأسباب التالية: أولا: من الصعب أن يجد المصريون الآن مرشحا لرئاسة مصر أفضل من الدكتور محمد البرادعي.. فهو حاصل على درجة رفيعة من التعليم (دكتوراه في القانون الدولي من جامعة نيويورك) ولديه من الخبرة الدولية والسياسية ما لم يكن متوفرا عند الرئيس مبارك نفسه عندما تولى الحكم. وهو يتمتع بعلاقات دولية واسعة واحترام في العالم كله.. وهو حاصل على جوائز دولية عديدة كبرى، بالإضافة إلى جائزة نوبل للسلام.. الأهم من ذلك كله أن البرادعي لم يعتمد في نجاحه الكبير على وساطة أو قرابة وإنما أثبت نفسه باجتهاده ونبوغه وإخلاصه في العمل، الأمر الذي يجعله قدوة حقيقية لملايين الشبان في مصر. ثانيا: أثبت البرادعي، في مواقفه جميعا، أنه يقول ما يعتقده ويفعل ما يقوله.. وقد وقف وحده ضد الضغوط الأمريكية الهائلة وأصدر تقريرا عام 2003 أكد فيه أمام مجلس الأمن أن الوكالة الدولية للطاقة النووية التي يرأسها لم تجد في العراق أثرا لأسلحة الدمار الشامل، مما نزع غطاء الشرعية عن العدوان الأمريكي على العراق، وقد أثار فضيحة أخرى للولايات المتحدة عندما تساءل عن مصير 377 طنا من المتفجرات اختفت من العراق بعد الاحتلال الأمريكي، ثم اتخذ بعد ذلك نفس الموقف الأمين الشجاع ضد الحرب على إيران.. كل ذلك جعل الإدارة الأمريكية تعارض بشدة إعادة ترشيحه لمنصبه عام 2005، أما إسرائيل فهي تتهمه علانية بموالاة الدول العربية والإسلامية. ثالثا: بعد أن وصل البرادعي إلى قمة إنجازه المهني، كان بمقدوره أن يخلد إلى تقاعد مريح ويعيش معززا مكرما في مصر أو خارجها.. كان بمقدوره أن يجامل الرئيس مبارك ببضع كلمات كما يفعل كثيرون سواه.. عندئذ كان النظام سيحبه ويقربه وقد يمنحه منصبا رفيعا في الدولة.. لكن البرادعي أثبت أن حبه لبلاده وإخلاصه لمبادئه أكبر من أية حسابات ومن أية مصالح.. وقد سمعت من شهود عيان كيف التقى البرادعى مسؤولين كبارا في النظام المصري فلم يتردد في إخبارهم برأيه في أدائهم البائس واستيائه البالغ من الحضيض الذي انحدرت إليه الأوضاع في بلادنا. وقد أدى هذا الموقف إلى استبعاده بعد ذلك من لقاء كبار المسؤولين.. هذه الأمانة الأخلاقية تضع اسم البرادعي قبل رجال كثيرين في مصر، لا يجرؤون أبدا على معارضة الرئيس مبارك أو أحد من أسرته (حتى في ما يخص كرة القدم). إن ابتعاد البرادعى عن أي منصب رسمي في مصر، لمدة عشرين عاما، يضيف الكثير إلى رصيده، فهو لم يشترك في الفساد ولم تتلوث يداه بالمال الحرام ولم يشارك في تضليل المصريين وتزوير إرادتهم وقمعهم ولم ينافق ولم يسكت عن الحق.. وهو بالرغم من حياته خارج مصر لم ينفصل عنها يوما، وهو يتابع ما يحدث للمصريين ويحس بمعاناتهم ومشاكلهم ويكفي أن نعلم بأن نصيب البرادعي من جائزة نوبل، وهو مبلغ كبير يزيد على خمسة ملايين جنيه مصرى، قد تبرع به بالكامل لصالح دور رعاية الأيتام في مصر. رابعا: شيء ما في شخصية الدكتور محمد البرادعي يجعله مقبولا عند المصريين.. مزيج من التواضع والهدوء والتفكير المنطقي والثقة بالنفس والاعتزاز بالكرامة.. إن البرادعي يحقق في أذهان المصريين صورة الأب التي كانت سببا في حبهم لزعمائهم الكبار: سعد زغلول ومصطفى النحاس وجمال عبد الناصر. خامسا: ظهور البرادعي في المشهد السياسي قد دق المسمار الأخير في مشروع توريث الحكم من الرئيس مبارك إلى ولده جمال.. فقد اعتمد مشروع التوريث على فكرتين تم الترويج لهما بلا توقف على مدى أعوام.. الفكرة الأولى أنه لا بديل لجمال مبارك كرئيس لمصر.. وها هو البرادعي يثبت وجود بدائل أفضل بكثير، بل إن المقارنة بين جمال مبارك ومحمد البرادعي من حيث الخبرة والكفاءة لا تجوز أساسا. والفكرة الثانية التي دأب النظام على تقديمها إلى الدول الغربية أن هناك في مصر اختيارين لا ثالث لهما: إما نظام مبارك أو الإخوان المسلمون.. وقد أثبت البرادعي أيضا تهافت هذه الفكرة.. فها هو رجل يحظى بحب وتقدير المصريين وهو أبعد ما يكون عن النظام وأبعد ما يكون أيضا عن الإخوان المسلمين؟ سادسا: لن يكون محمد البرادعي ضحية سهلة لمؤامرات النظام المصري المعتادة.. لن يستطيع النظام أن يلفق للبرادعي قضية تزوير أو فضيحة نسائية، ولن يستطيع أن يلقي به في السجن بتهمة تشويه سمعة مصر وإثارة البلبلة.. كل هذه الأساليب المنحطة استعملها النظام المصري كثيرا من قبل للتخلص من معارضيه، لكنها لا تنفع مع البرادعي الذي تسبقه سمعته النظيفة ويحميه التقدير الدولي الواسع الذي يتمتع به. أخيرا.. كما يشخص الطبيب الماهر أخطر الأمراض بكلمات قليلة.. استطاع الدكتور البرادعي أن يضع يده على مواطن الخلل في النظام الاستبدادي الجاثم على أنفاسنا.. إن الشروط التي طالب بها البرادعي من أجل انتخابات رئاسية نزيهة ومحترمة هي بالضبط الخطوات التي يجب أن تقطعها بلادنا من أجل ديمقراطية سليمة.. لقد أكد البرادعي أنه لا يقبل أن يكون «كومبارس» في مسرحية انتخابات مزورة، وأعلن أنه سيشترك مع المصريين في نضالهم من أجل العدل والحرية. إن ظهور البرادعي فرصة كبرى للوطنيين المصريين جميعا يجب ألا تضيع. يجب أن ننضم إلى الدكتور محمد البرادعي في دفاعه عن حقوق المصريين المهدرة.. سوف يصل الدكتور البرادعي إلى مصر يوم 15 يناير المقبل بإذن الله.. واجبنا جميعا أن نستقبل هذا الرجل العظيم بما يستحقه من الحفاوة والتقدير.. نريد أن نثبت له أن رسالته النبيلة قد وصلتنا وأننا نحبه ونحترمه وسوف نبذل قصارى جهدنا معه حتى تنهض مصر وتصل إلى المكانة التي تستحقها. الديمقراطية هي الحل.