موليم العروسي لقد سطع نجم الفن الحديث بآرت دبي هذا العام. يبدو أن الملاحظات التي وجهت للمنظمين السنة الفارطة قد أتت أكلها. إذ حضرت أسماء وازنة من العالم العربي داخل أروقة قاعات من شمال إفريقيا أو الشرق الأوسط. من تونس عرضت قاعة المرسى حاتم المكي وقاعة الكمان الأزرق فريد بلكاهية. من الدار البيضاء قدمت لوفت آر كاليري محمد المليحي ومحمد الحميدي. كما أن قاعة ميم من دبي عرضت ضياء العزاوي ومروان قصاب باشا. وعرضت القاعة الباريسية كلود لوماند أعمال شفيق عبود... لكن الملاحظ هو حضور أسماء عربية وازنة في الفن الحديث في الجانب المخصص للفن المعاصر. أعتبر هذا الأمر نوعا ما غريبا. فأسماء مثل إلياس زيات السوري، الذي قدمته قاعة أتاسي، ونجا المهداوي، الذي قدمته قاعة المرسى التونسية، والتي توفرت أيضا على رواق في الجانب المعاصر، طرح أكثر من سؤال، خصوصا أن هذين الاسمين المكرسين لم يغيرا شيئا في أعمالهما حتى تتلاءم مع ما يسمى بالفن المعاصر اليوم. وهذا يدل على أن الصرامة التي تعامل بها المنظمون مع القاعات المشاركة في الجانب المودرن لم تكن هي ذاتها التي أخضعت لها القاعات بالمعاصر. ويبدو أن القاعات في هذا الجانب الأخير تعاملت بنوع من اللامبالاة مع المعايير تماما كما حدث السنة الماضية بالنسبة إلى المودرن. يشار إلى أن التنظيم كان، كما في السابق، محكما ولم يخلف الموعد. لكن الغريب في هذا المعرض هو ضعف التمثيل الإفريقي. فبلد مثل نيجيريا، التي تناهز ساكنة عاصمتها لاكوس لوحدها عشرين مليون نسمة، لم تكن ممثلة إلا بقاعتين اثنتين، واحدة بالمودرن وأخرى بالمعاصر (Mydrim Gallery et Art Twenty One). وكذلك الشأن بالنسبة إلى الدار البيضاء، التي حضرت منها قاعة واحدة تماما كما هو الشأن بالنسبة إلى أبيدجان عاصمة ساحل العاج (قاعة سيسل فاخوري). لم تحضر من مصر إلا قاعة جيبسوم كاليري من القاهرة، ومن كاب تاون بإفريقيا الجنوبية قاعة واحدة (Whatifthworld). وحدها تونس كانت ممثلة بثلاث قاعات: المرسى والكمان الأزرق وقاعة سلمى فرياني. في المجموع وداخل كل آرت دبي لم تكن إفريقيا ممثلة إلا بثماني قاعات، في الوقت الذي نجد الفنانين الأفارقة ممثلين بعدد من القاعات العربية أو الأوروبية. وبغض النظر عن إيطو برادة المغربية، التي حازت جائزة أبراج المعروفة، قدمت قاعة إيمان فارس من باريس الفنان المغربي الشاب محسن حراقي، وكذا المغربيين الآخرين محمد الباز ويونس رحمون. من جانبها، عرضت قاعة البارح من البحرين أعمال الفنان السوداني الشهير محمد عمر خليل. كما أن هناك أسماء أخرى أمثال زليخة بوعبد الله، ومصطفى أزروال، والتونسي عبد الله عقار، ومانويل فيجيرا، الذي قدمته قاعة بريفي كاليريا من لشبونة. ولم أذكر هنا إلا عددا قليلا من الفنانين الأفارقة، الذين يمثلون فخرا لهذه القارة. ولا يسعني إلا أن أتساءل: ما الذي ينقص الفن الإفريقي حتى يستحق هذا التمثيل الضعيف وغياب الاحتفال من طرف أهله وذويه؟ غير بعيد عن آرت دبي كانت هناك فعاليات بينالي الشارقة في دورتها الثانية عشرة. لم تقدم هذه البينالي في مجموع ما قدمت سوى ستة أفارقة: مصريان وكنغولي وإثيوبية وجنوب إفريقي واحد. فيما كان هناك غياب تام لشمال إفريقيا من موريتانيا إلى ليبيا، ولا فنان واحد من إفريقيا الغربية. من المسؤول عن هذا الغياب للفن الأفريقي عن الساحة العالمية؟ هل هم الفنانون؟ هل هي القاعات؟ هل هم تجار الفن؟ يجب أن نعلم أن سلاح الديبلوماسية الثقافية والفنية أصبح ذا فعالية قوية. إن الرأسمال اللامادي والرمزي يلعب دورا هاما في حضور الشعوب والدول على صعيد العالم. لما التقيت رجال أعمال ودبلوماسيين مصريين يجوبون أروقة آرت دبي وبينالي الشارقة فهمت لماذا نجد المصريين في كل مكان. لمست اعتزازا واعتدادا بالنفس عند رجل أعمال مصري عندما بادرني بالقول: «أنا هنا لاقتناء الفن المصري أولا، والعربي والإفريقي ثانيا، ويساعدني في ذلك قيم معارض (curator) شاب من بلدي (مصر)».
لم أكُنْ سوى صورة إلى روح أحمد غيلان أحمد لطف الله وهل الصورة تعني القليل؟ الحياة برمتها ليست سوى صورة، قد تكون باقة من الصور، بعضها يانعٌ عبِقٌ وبعضها ذابلٌ باهت.. لكن حتى باقة الورد تظهر في صورة واحدة تجعلنا نرى الباقة أكثر مما نرى الورود واحدة فواحدة.. في سجل تاريخ البشرية الهائل نجد مرادفات عديدة للحياة، في جميع الثقافات، وبشتى اللغات، بينما في نظره هو لم تكن الحياة سوى صورة. فمنذ مطلع النور، يخرج من بيته حاملا قُمْرَتَهُ التي تختزن العالم في أحشائها، معوِّلا على عينيه، اللتين يداعب بهما أول ما يطالعه من مناظر صباحية وهو يحتسي قهوته في إحدى مقاهي وسط المدينة. في كثير من الأحيان يشعر بنبض الآلة خفّاقا بين جناحيه، وكثيرا ما حاول أن يطرد عنه وساوس هذا اللبس، معتقدا أنها ضربات قلبه تتعالى. وفي كل مرة يقصد التيقن من الأمر، ويضع الآلة العجيبة على كرسي مجاور، يزول الخفقان. لم يرد أن يُحدِّث أحدا من أصدقائه المثقفين والمبدعين بهذا الأمر حتى لا يُتهم بالجنون في عشقه للكاميرا. ما إن يراودها منظر يستهوي لذة الصيد، حتى تضطرب في حقيبتها الصغيرة، وتتنطّط تحاول الخروج لاصطياد اللقطة قبل أن تضيع، قبل أن تسحقها عجلة الزمن، ولعل ذلك الاضطراب كان يتجاوب مع وجيب قلبه، فيتواطأ مع خليلته المُصوِّرة، ويستدرجان اللحظة المنفلتة من التاريخ، ويمسكان بها ويضعانها برفق في إطار الذاكرة، وداخل متحف الفن. في كثير من الأحيان كان يسائل نفسه: ما الذي يعشقه في امتهان حرفة تخليد اللحظات والوقائع؟ هل هي لذاذة اصطياد اللحظة؟ أم هي نشوة تطويع التقنية لصالح الفن؟ أم هو الافتتان بالنتيجة؟ أي بالصورة التي استطاع أن ينفخها من روحه في الغرفة المظلمة، في رحم المُصَوِرة، فتلد قطعة جميلة من التاريخ تشمل الوجوه والأمكنة والأزمنة والأحداث. لم يكن يجيب عن هذه الأسئلة، لأنه يُدرك مسبقا أن في الجواب اغتيالا للفرحة التي يشعر بها وهو يُصور، لذلك كان يحلو له أن يترك مشاعره عصية على التجلي والانكشاف. قرأ بعض النصوص في جرائد متنوعة، ثم فرك يديه، وأخذ آلته يتفقدها، ويمسح نافذة زجاجتها بلطف، ويُدوزِنُها لتتهيّأ لهذا اليوم الجميل، حيث ستستقبل العدسةُ وجوه الأحبة وهم يقرأون قصائدهم، أو وهم ينثرون أفكارهم ويبثونها في أرجاء القاعة. توجه بعد مغادرته للمقهى رأسا لمحطة القطار، متبخترا في أناقته التي كانت تطال حقيبة المصورة أيضا، ففي قرارة إحساسه يؤمن أن الصورة أناقة قبل كل شيء، وأناقة الشكل ليست سوى تمثُل لأناقة الروح. وخلال هذه الرحلة القصيرة غاص في صمته المعهود يتذكر ما قرأه أمس عن تجارب ابن الهيثم عالم البصريات حول ما كان يدعوه «البيت المظلم»، ويشعر بالامتنان أمام هذا العالم الجليل، الذي قدم أول التوصيفات عن هذا الصندوق الصغير الرائع. يسبح بعدها في تأمل الصور التي تلهث متلاحقة أمامه ولا يمنحه إطار نافذة القطار فرصة الإمساك بإحداها. يعرف أن ذلك لن يتأتى له إلا عندما يخفض القطار من سرعته. وببديهته المبدعة يُدرك أن الصور التي تتوالى وتندس خلف النافذة ليست سوى أجزاء من حياة الإنسان، وعندما يُبطِئ قطار الحياة سيره في مراحل متقدمة من العُمر، تتباطأ الصور وتغدو أكثر جلاء، وأكثر نُضجا حتى تتوقف الصورة عند مشهد واحد، وتدعو أنثى القطارات الراغبين في النزول من الحياة والصاعدين إليها أن يفعلوا ذلك. ينزل، يسير متفردا بشموخ لا يخلو من رهبة الطيبوبة التي تلمع في عينيه، ويقود خطاه بحب نحو مكان اللقاء، ويتحرك الزّوم بين جناحيه داخل الحقيبة، فيشعر برغبة المصوِّرة في التحرر من جلدها لترى العالم، فيكبح جموحها بضغطة لينة من مرفقه، وكأنه يُطمئنها باقتراب انبلاج صُبحها، خاصة وأنه بدأ يرى وجوه أصدقائه من بعيد، وبدأت ابتسامته تسبق كعادتها جسده في الوصول إلى الأصدقاء. عاش في ذلك اليوم سعادة غامرة، أضافها لألبوم سعاداته، وارتوت الصورة من رحيق الذاكرة، حيث مارست عشقها للحظات الجميلة والمنفلتة. ما بين الإضاءة والتباين، وما بين تحولات الزّوم، وثبات العدسة كانت تشهق بصوت تقني يرافقه الوميض ثم تزفر زفرة الخلود. أحس بها مغتبطة داخل وكرها، وهو يعود أدراجه ممتطيا صمته ومتأملا في الظلام الذي يغطي كل ما يوجد خارج عربة القطار.. لا يبدو سوى السواد بالخارج.. ليست هناك صورة ولا هم يَفرحون. وصل..جعله التعب يستلقي على الكنبة..المصورة لا تزال على كتفه، استغرب كيف خرس نبضها فجأة، أراد أن يتحسسها ليعرف ما بها، فأخطأها ووضع يده على قلبه.
علاقة التمثيل الدرامي بالوهم والحقيقة كمال فهمي لا يمكن أن نفكر فلسفيا في دلالة التمثيل الدرامي وعلاقته بالمحاكاة والوهم والحقيقة، دون الرجوع إلى أفلاطون وأرسطو باعتبارهما رائدي التفكير الفلسفي في الفن. ومن المفارقات العجيبة في تاريخ الفلسفة موقف أفلاطون السلبي من التمثيل الدرامي، وهو أقرب الفلاسفة إلى لغة المسرح. كيف لشكسبير الفلاسفة، مؤلف المحاورات ولصورة البطل الفيلسوف/ سقراط، أن يطالب بطرد الشعراء من المدينة؟ كيف يمكن فهم هذه العلاقة المزدوجة لأفلاطون بالتراجيديا اليونانية: علاقة التجاور والتقاطع والتنافس والتنافر في نفس الوقت؟ هاجم أفلاطون شعراء التراجيديا لأنهم، في نظره، بسعيهم إلى كسب شعبية بين الجماهير، يرسمون شخصيات تسيطر عليها الأهواء والانفعالات، وبذلك يعرضون العقل ذاته للدمار، فالشاعر الدرامي ليس، في نظره، سوى مقلد يبث في نفس الفرد حكما فاسدا، ويخلق أشباحا، ويقف دائما بعيدا كل البعد عن الحقيقة، بل يعتبر أن الفنان المقلد لا يمتلك أي معرفة تستحق الذكر بما يقلده، ولا يعرف ما يتكلم عنه، ومن ثم يخلص إلى أن المحاكاة الدرامية ليست سوى إنتاج للأوهام. يستخدم أفلاطون لفظ المحاكاة mimésis في محاورة «السوفسطائي» باعتباره إنتاجا لنسخة copie ولسيمولاكر simulacre، وهو يركز على علاقة الصورة بنموذجها انطلاقا من فن الصباغة والنحت. ويبدو ذلك جليا في تمييزه بين صورة الفراش التي يرسمها الفنان، والفراش الذي يصنعه النجار، وفكرة الفراش. وهو يعتبر أن الصورة إما نسخة مطابقة لنموذجها في كل أبعاده وألوانه copie conforme أو سيمولاكر، تأخذ في صياغتها زاوية نظر المشاهد، وتتجاوز مستوى كونها مجرد صورة أو نسخة، لتوهم المشاهد بأنه أمام الشيء نفسه، ومن ثم يحاكمها باعتبارها خداعا، تضليلا، ظاهر الظاهر، ظلالا، أشباحا، وأوهاما. ومن ثم فعمل الفنان مثله مثل السوفسطائي لا يقصد الحقيقة، بل الخداع والتضليل. والواقع أن المحاكاة mimésis، باعتبارها محاكاة الواقع الخارجي بواسطة الصورة، هي المركزي في تفكير أفلاطون، وهو إذ يعمم تصوره لفن الصباغة والنحت على الشعر والفن المسرحي عموما، يحاكم الفن بأنه نشاط فاسد يتعارض مع الفلسفة/ الحكمة، ويجب تنحيته من المدينة. والحقيقة أن موقفه السلبي من الفن، عموما، يقوم على تصوره المثالي للعالم، وعلى موقفه من ديمقراطية أثينا وتصوره للمدينة الفاضلة، حيث يمكن القول إن مشروعه الفني البديل لفن شعراء الدراما الإغريق كان، في الحقيقة، هو تقديم تراجيديا جديدة تشكل بديلا لتراجيدية الشعراء. يقول: «إننا أنفسنا أيها الزائرون المحترمون المؤلفون للتراجيديا. إننا نعرف كيف نصنع أفضل التراجيديات وأجملها… وإذن يجب ألا تنتظروا أننا سوف نسمح لكم، بقلوب هشة، أن تضربوا خيمتكم في ميدان سوقنا ومعها فرق من الممثلين يفوق صوتنا ويتبدد في أصواتهم العذبة الأنغام، ثم نسمح لكم بإلقاء خطبكم ذات القذف العام أمام أولادنا ونسائنا وعامة الناس بوجه عام، وندعكم تخاطبونهم في نفس المسائل كما نفعل، لا بهدف نفس النتيجة، بل عادة في الأغلب بهدف نتيجة مضادة يقينا» (القوانين، أفلاطون، ترجمه من اليونانية إلى الإنجليزية د تيلور، ونقله إلى العربية محمد حسن ظاظا، مطابع الهيئة المصرية للطباعة 1986، ص: 359-360). أما أرسطو في «فن الشعر» فهو يركز على فضاء العرض المسرحي، منطلقه ومرجعه الفني ليس هو الصورة الصباغية، بل العرض المسرحي المعطى أمام النظر والسمع في حضوره الواقعي، من حيث هو «تمثيل حكاية» représentation d'un muthos، والواقع أنه إذا كان ينطلق في مقاربته للمسرح من مفهوم المحاكاة الذي كان مفهوما متداولا في أكاديمية أفلاطون، فإنه يعيد لهذا المفهوم قيمته، إذ يعتبره غريزة إنسانية، وقانونا عاما ينطبق على كل الفنون، وأنها تستمد مصدرها من الطبيعة الإنسانية، وليست كما اعتقد أفلاطون عديمة الجدوى وخداعا وتضليلا، وتبعدنا عن المعرفة والحقيقة، بل إن المتعة التي نجدها في المحاكاة، في نظره، لا يمكن تفسيرها إلا برغبتنا الطبيعية في المعرفة، وبالتالي فهي وثيقة الصلة بآلية الاستدلال والتعرف. والواقع أن فعل المحاكاة، باعتباره تمثيلاreprésentation ، عند أرسطو يتجاوز مستوى إعادة إنتاج الواقع وتقليده أو نسخه، وإذا جاز لنا أن نسميه محاكاة، فيجب، كما يقول بول ريكور، أن نسميه محاكاة مبدعة «خلاقة». ذلك أن المحاكاة الدرامية هي تمثيل لفعل محتمل يبنيه الفنان انطلاقا من الواقع الإنساني. فالشاعر التراجيدي هو صانع حكايات، يستلهم الواقع ويبدع حكاية تتميز بالوحدة والتناسق والقدرة على التأثير في المتفرج وتطهيره من الانفعالات: الخوف والشفقة والسمو به فكريا وأخلاقيا. غير أن الاختلاف بين أرسطو وأفلاطون، في النظر الميميس mimesis المسرحي، يبدو جليا إذا علمنا أن المحاكاة التي يقوم عليها الفن التراجيدي ليست في نظر أرسطو محاكاة المظهر والجزئي كما تصور أفلاطون، بل هي محاكاة للكلي والجوهر. فالشاعر التراجيدي لا يقف عند التعبير عن الجزئيات والواقع اليومي، بل يتجاوز ذلك إلى الممكن والعام، وبالتالي فهو ليس بعيدا عن الحقيقة والفلسفة. وليوضح أرسطو هذه القرابة بين الفلسفة والمسرح يقول: «مهمة الشاعر ليست رواية ما وقع فعلا، بل ما يمكن أن يقع… إن الشعر يكون أكثر فلسفة من التاريخ وأعلى قيمة منه» (فن الشعر، أرسطو، ترجمة وتقديم دكتور إبراهيم حمادة، مكتبة الأنجلو المصرية، ص: 114). وإذا كان الفعل الإنساني هو مادة التراجيديا، وهو ما يميزها عن غيرها من الفنون، فإن هذا الفعل يتم تصوره وتنظيمه عقليا من خلال الحبكة intrigue، فهو ليس فعلا ينتمي إلى الواقع اليومي، ليس فعلا ينتمي إلى التاريخ، بل يدخل في دائرة الممكن والمحتملle possible et le vraisemblable ، وبالتالي فهو ينتمي إلى مستوى الصورة الخاص بالمخيلة والعقل البشري، ولا ينفصل عن شرطي الحقيقة والدلالة. لكن كلية أو عمومية الفن الدرامي تختلف عن كلية الفلسفة من حيث إنها ليست من طبيعة عقلية محضة، بل ترجع إلى الحكاية التي يبنيها الشاعر، وهي لا تتحقق إلا من خلال العرض، وبواسطة ما تثيره من مشاعر عند الجمهور، ومتعة المتفرج تكمن في كونه يتعرف من خلال «أوديب» مثلا على الكلي أو الكوني الذي تعبر عنه الحكاية. وهكذا فإذا كان الشاعر التراجيدي يتجاوز الجزئي إلى الكلي، الخاص إلى العام، الواقع إلى الممكن، فإن إبداعه لا يخلو من معقولية وحقيقة. فبواسطة التمثيل الدرامي، خاصة في التراجيديا، يصل الإنسان إلى المعنى العميق لوجوده، يسمو ويعود إلى ذاته، ليفكر في نفسه.
الحرقة اللامعة في النقطة شعر: عبد الغني فوزي قد يتوزع الجسد في الجسد حين يجذبك الزلزال ويتركك على الحائط ممعنا في هذا الخراب الجفن يسع كل موج عطشان والأصابع الأخرى تفرك ماء القرار فيرن في أبعاضه كنغمة بليلة تبعث على المطر في الأفق الموصد أظنه مطر الشفة وهو يسري على سماء خفيضة سماء تثقب في عزلة النظر كأن الكتابة منسحبة والصمت طاو من يحدثنا في المفترق حين تسعى الحروب للفنا لفا في فضلاتها لتتولى فوق سلالة اليتم ؟؟
«لا كالوميض، لا كحُطام الضوء» لمحمد الصَّابِر.. كِتابَةٌ بِأصْواتٍ خافِتَةٍ ! صلاح بوسريف محمد الصابر، بقدر ما جمعتني به صداقة بعيدة، وعميقة، بقدر ما جمعتني به المعرفة الشِّعرية، والحوار الشِّعري، الذي، نادراً، ما يكون بين الشُّعراء، الذين يُشْبِهُون في أوْهامِهِم إيكاروسَ حين قرَّر التَّحليق صَوْبَ الشمس، غير مُدْرِكٍ أنَّ الشَّمْعَ الذي شَدَّ به جناحَيْه، هو ما سيكون الحَتْفَ الذي سيُفْضِي به إلى السُّقوط. هذا الشَّاعر القادم إلى الشِّعر من لُغَة المساطِر والمُرافعاتِ عرفَ، بحس الشَّاعرِ، وبلغته، كيف يُرَوِّضُ صلابة الكلام، وينأى به عن كل التَّرْسيمات التي يقتضيها مقام الخطاب القضائي. فهو لم يأتِ مثلنا من كلية الآداب التي أتاحت لنا، على الأقل، أن نَدْرُسَ تاريخ الشِّعر القديم، ونَطَّلِع على بعض مُتونِه، وعلى مناهج الدراسات النقدية، والفلسفة، أو ما يَتَّصِل بالعلوم الإنسانية، بل ذهب إلى كل هذه العلوم والمعارف، من خلال رغبته في الاتصال بهذا الماضي البعيد، وبالسياق الجمالي للشِّعر، عبر حِقَبِه وعصوره المختلفة، وهذا أمر لا يمكن أن يُخْطِئَه المُنْصِت لِشِعْر محمد الصابر، أو من يَعْقِد معه صَداقَة الحِوار الشِّعري الخالي من وَهْم المعرفة، أو وهْم الصُّعود إلى أعلى قِمَم الشِّعر. ليست المرة الأولى التي أقرأ فيها شِعر هذا الصَّديق الشَّاعر، فهو في سِجِلِّ قراءتي الشِّعرية، واحد من بين الذين أَحْرِصُ على معرفة الأراضي التي يرتادُها، وما يأخُذُ نفسَه إليه من مُنعطفاتٍ. فهو مُقِلٌّ في النشر، مُتَحَفِّظٌ، غير مُتَعَجِّل، يترك ما يكفي من مسافات بين ديوان وآخر، فما بين ديوانه ما قبل الأخير «الجبل ليس عقلانيا» (2007)، وديوانه الأخير «لا كالوميض، لا كحطام الضوء» (2015) الصادر عن دار فضاءات، بعمان، ثماني سنوات، وهذا يكفي لمعرفة طبيعة هذا التَّقْتِير الذي به يكتب الصَّابِر، أو به ينظر إلى الشِّعر، ليس كَتَدْبِيجٍ للكلام، كما اتَّفق، بل كحاجةٍ تقتضيها طبيعة الرؤية والموقف. في هذا الديوان الشِّعري الجديد ثَمَّة تحويل في المعجم الشِّعري، مفردات وألفاظ وتعابير دَخَلَتْ في حياة الصابر الشِّعرية، لم تكن موجودة في شعره من قبل، وهذا، في حدِّ ذاته، تأكيد على تلك الصيرورة التي نادراً ما ينتبه الشُّعراء إليها، باعتبارها الماء الذي لا يتوقَّف عن الذَّوَبان في مجراه، بالمعنى الهيرقليطي الذي كان إيذاناً بضرورة أن يتدخَّل الإنسان في تغيير مجرى لغته، وفي تغيير مجرى رؤيته، وفي الانقلاب على نفسه، إذا ما بدا أنَّ هذه اللغة، وهذه الرؤية، وهذه النَّفْس، هي نفسُها، لا شيء فيها يجري مجرى الشَّمس وهي تتجدَّد في كل يوم. تخَفَّفَتْ تجربة الصابر في هذا الديوان من التعبيرات البلاغية، التي هي تعبير عن جمالية شعرية قديمة، وأصبحت الصورة الشِّعرية شفَّافةً، بقدر ما تُتِيح نفسَها لِقارِئِها، بقدر ما تخذلُه، وتلعبُ بفكره وخياله معاً. فالسخرية التي هي من سمات هذا الديوان، حتَّى في حالة نظر الشَّاعر في موته، هي سخرية لا تكترثُ بالمواقف، بقدر ما تذهب إلى السُّلوكات، وإلى طبيعة القِيَم التي تحوَّل عبرها الإنسان إلى غابَة، أو إلى ذلك النَّمِر الذي تحوَّل إلى تُحْفَة، أو شيء نادر، «يحجُب اهتزاز الكلمات»، وينأى بنفسه عن التَّحْديقِ في العدم. لا يمكن في عَمَلٍ شِعْري كهذا أن نضع اليد على تيمة مُحدَّدة، رغم أنَّ الديوان ليس نصّاً واحداً متواصلاً، كما يحدث في العمل الشِّعري L'œuvre poétique الذي هو من سمات الكتابة، لا الشَّفاهَة، لكن مُواكَبَة النصوص، بعناوينها الفارقة بين نص وآخر، والتِّكرار المعجمي لحقول بذاتها، وتوظيف السّخرية، والغرابة، في ما يُشبه الكتابة الأتوماتيكية عند السورياليين، تكشف عن المعنى المُتَشَظِّي الذي يحرص الصابر على وضعه في ثنيات النص، كنوع من الخبيئة التي تفرض على القارئ أن يقرأ الديوان كاملاً، لا أن يختزله في نص دون آخر، وهذا تعبير صريح عن هذه الشِّعرية التي لم يُرَوِّض النقد نفسَه بعد على اسْتِكْشاف انقلاباتِها، وما تقترحه من اختراقاتٍ Transgressions هي انفلاتٌ، أو رغبة في الانفلات من النص الجاهز، المُتشابِه، الذي هو اسْتِنْساخ واستعادة باردةٌ لنفس الرَّواسِم والكليشيهات التعبيرية، في ما يُكْتَب اليوم، عند أكثر من واحد من «الشُّعراء» باسم «قصيدة النثر». محمد الصابر، في ما يشي به ديوانه هذا، ودواوينه السابقة، الأخيرة منها، بشكل خاص، يَكْتُب الشِّعر بلغةِ الشِّعر، التي هي نَحْت للمفردات، وتركيبُها بصورة تَجْلُوها، وتُنَقِّيها من شوائب المُشْترَكَات التي باتَتْ في كثير من «شعر» القادمين بعد الصابر، نوعاً من المارش العسكري، الذي لا يخرج عن نفس الزَّيّ، ونفس الصور، والتعابير، وربما بنوع من الترجمة الفَجَّة التي تفتقر إلى فَرْقِ المسافة بين الأصل والنُّسْخَة المُصَوَّرة، أو ما يُسَمِّيه الصابر نفسه ب»الكلمات التي ماتتْ من فرط الإدمان»، بدل الاستعمال، لأنَّ السِّياق الشِّعري اقْتَضَى لفظةَ الإدمان، وهي صائِبَة في موضعها. كنتُ أودُّ لو أنَّ عنوان الديوان كان «ليكن ما كان ليكن ما لم يكن»، وهي عبارة واردة في الديوان نفسه، لِما تختزنه هذه العبارة من إيحاءاتٍ، هي في جوهرها، الخيط الرفيع الذي يشدُّ نصوص الديوان إلى بعضها، وأنا، كما قد يُلاحظ القارئ اليَقِظ والمُنْتَبِه، تفادَيْتُ استعمال «قصيدة»، كون الديوان هو انتقال إلى الكتابة، وفق ما أشرتُ إليه من قبل، من سِمات، هي بين الدَّوال التي بها تَبْتَنِي تجربة الصابر شعريتها، أو ما يُسَمِّيه الشّاعر ب «الهَمْس» الذي يزحف في اللَّحْم، أو «الكتابة من غير صوت». لا يمكن، طبعاً، إلغاء الصَّوت، أو الشَّفاهَة من الشِّعر، فقط، في وضع الكتابة، الصوت يتراجع إلى الوراء، ويصبح دالاًّ ثانوياً، وليس مُهَيْمِناً، وهذا ما نجح الصابر في إنجازه، في ديوانه هذا، كانتقال لِلَحْظَة «الوعي الكِتابِيّ»، في مقابل «الوعي الشَّفاهيّ» الذي هو من سمات «القصيدة»، ومن سمات نَصٍّ، كان يخرج من اللِّسان، وليس نصّاً ابْتَكر دَوَالَّه الجديدة، في انتقاله إلى هذا الوعي الجديد، المرتبط بالحداثة، وباعتبار الصفحة المفردة، أو المزدوجة، دَالاًّ من دوالِّ الشِّعر، التي لا يمكن تجاهُلُها إبَّان القراءة.
أربعة أيام في الجزائر صدوق نورالدين اغتسال مدينة بين عنفه الجارف ودعته الحميمة، تركنا كازابلانكا تغتسل بالمطر، ونحن نغادر باتجاه مطار محمد الخامس، وقد تناهبنا فضول التعرف على الجزائر العاصمة. لم أكن عرفته من قبل، إلا أن بسمته، حسه الألوف، ودقة ملاحظاته على الاجتماعي، إلى تحليلاته السياسية كما خبر ذات زمن، وكما يرى الراهن، جعلتني أحس بأن عبد الفتاح الزين خير جليس ومؤنس في سفرة هي وليدة الصدفة. إذ بدأت ترتيباتها بهاتف، وانتهت بهاتف، إلى أن أودعنا الأمتعة وجالسنا صمتنا على بُن ساخن، بانتظار لحظة الإقلاع. في البداية كنت شبه خائف، لأني على أعتاب أرض أميل إلى الحساسية. ولا أعرف بالضبط إن كنت سأجد أمامي بابا مفتوحا، أم أني سأعيد ترديد أغنية مصر التي وقع إيقاعاتها سائق مصري اخترت أن أتظاهر أمامه بالبلادة والغباء والكسل، وهو يلف بسيارة الأجرة الشوارع بحثا عن «خمسة أورو» إضافية. حينها كان الرئيس حسني مبارك يمسك تقاليد الحكم. إلا أن ضباب الخوف تبدد وأنا برفقته. أنهينا الإجراءات الروتينية بالتباطؤ المعهود. وكانت أذناي استرقتا غضبة امرأة يبدو من سحنتها كونها مهاجرة، بأنها والعديد من المسافرين أمس (تقصد الأحد، فيما كان اليوم الاثنين)، عوملوا كالقطيع، ليتم إجبارهم على تغيير موعد بطاقة السفر. على بوابة الطائرة فرضوا علينا لون الجريدة الوحيدة التي علينا قراءتها، باللغتين الفرنسية والعربية. الجريدة التي أعتقد بأن لا أحد يقرأها في المغرب اليوم، بعد أن غابت «يد الوزير» (عنوان رواية للمغربي محمد صوف) التي دأبت على اللمسة الأخيرة، قبل التربيت على مؤخرة زوجة أمام عيني زوجها كما ورد في الرواية. كان الأندلسي، والصوت الإلكتروني الذكوري أحيانا، والأنثوي أخرى، يقطع الوصلات في غضب، مرددا تعليمات جمعت بين الخدمات والتحذيرات. حين نبهتني المضيفة التي صاح أحمر شفتيها إلى ضرورة ربط الحزام، تأكدت بأن مطار الهواري بومدين وجهتنا. التفت لأرى من النافذة كازابلانكا تغتسل، بحثا عن رومانسية لا تخطئ خيال جبران خليل جبران. مطار الهواري بومدين طوى الهواء على ساعة ونصف، ذهابا وإيابا. إذ حطت الطائرة تمام الوقت المحدد في البطاقة، ولا أثر لسماء يسقط، كما ند عن شاعر قديم. وفي فضاء مطار الهواري بومدين حيث الحركة قليلة، سابقت أسماءنا خطونا. فما كدنا نودع الدرج الإلكتروني خلف الظهر حتى ألفينا الرجل القصير يردد في الهواء اسمينا، وكأنه قرأ من الخطو دبيب الثقافة ورائحتها. رحب قائلا: إن الذين في السماء هم كذلك.. وأما نحن فحوارنا مفتوح على الأرض. ومن كلامه فهمنا أن السياسة سياسة والثقافة ثقافة. وسألنا عما إن كنا أقدمنا على تعبئة البطاقة الأمنية، ليسحب جوازينا ويتولى المهمة. وفي أقل من عشر دقائق كان السائق عادل يطوي الطريق فاتحا أبواب الجزائر. كان يدخن بنهم، ويتحدث عن كأس إفريقيا والإيبولا والزحمة القاسية والحنين الجزائري الحارق إلى حدود مفتوحة على الحياة. وفي لحظة، وأنا أتتبع الصور تقتلع تباعا، خيل لي كأني لم أغادر كازابلانكا، حتى أني قرأت في بعض اللوحات مطار الدار البيضاء، ثم اتجاه يقود إلى المحمدية (لاحقا سألني سائق التاكسي إن كنت زرت شارع محمد الخامس). وارتسمت في شموخ بنايات كولونيالية تتفرد برموز وأيقونات تحيل على ركبة الفرنسي وقد أعياها أو لم، الصعود إلى الجزائر المتربعة على رأس جبل. سيارات، سيارات ولاشيء غيرها. لولا أن الغضبات المضرية (بلغة الشاعر القديم) قليلة، وأصوات المنبهات. وحركة رجال ونساء يصعدون قاصدين وجهاتهم بعد أن انفض الدوام المستمر بين الثامنة والنصف والرابعة والنصف. وفي لحظة قال عادل: «هنالك في الأعلى تلوح بناية فندق الأوراسي». لم أعرف كيف كان يجد للوصول، وكيف يفسح ممرا هنا، هنالك ليعبر، فيما انبث رجال الشرطة في كل الزوايا والأماكن الدقيقة غير مبالين بحركة العبور (أخبرني مسؤول كبير بأن الدولة نفذت مطالبهم كاملة عقب الحركة الإضرابية، إلا مطلب إنشاء مكتب نقابي). أمام بوابة فندق الأوراسي توقفت السيارة. اجتزنا الحاجز الأمني لنلفي الذات في فضاء شاسع مفتوح على الحركة، الحوار والتأمل الصامت. استقبلنا السيد الرحموني عن وزارة الثقافة، موضحا بأنه سبق وتعامل مع الكاتب المسرحي عبد الكريم برشيد في نص قد يكون مثل في الجزائر. استعدنا إيقاع تنفسنا داخل هذا الفضاء لتمطرنا سومية بأسئلتها عن المغرب. جلباب، قفطان وقميص في مواجهتنا كانت تجلس. بدت كأنها استحمت بياضا، إلا من تورد الوجنتين، فيما توت الأصابع ينقر على الأيفون. سألت عبد الفتاح عن المدن التي ننحدر منها. قالت: «زرت كازابلانكا، الرباط ومكناس. وأملك جلبابا مغربيا وقفطانا وقميصا، وأمارس الجذبة بعشق». ابتسمت ولم أعلق، بل تخيلت جسدها يترنح، وخصلات شعرها تبحث عن هواء، والضربات تتصاعد، فيما اللهاث يعلو إلى سقطة الجسد مهدودا وقد ذاعت رائحة العرق. ولاحقا تعرفت على أخيها محيي الدين، الذي قال إنه يزور المغرب سنويا ويدير شركة للأسفار، حيث تبدأ متاعبه اليومية منذ خروجه من البيت، فالزحام يخنق الجزائر العاصمة بقوة، وعليه كي يصل أن يدير ظهره للبيت على السادسة صباحا. كان يقود سيارته بهدوء وصمت وثقة عمياء. قال: «ليس في فندق الأوراسي سوى غرفة شاغرة، ولا يمكن لدكتورين من المغرب الذي نعتز به السكن في غرفة واحدة». وأخذنا إلى فندق الوازيس، وهو فندق حديث بني في 2012. في الطريق استرعت انتباهي ملصقات تمجيد الثورة الجزائرية، ستون سنة على الثورة (1954/2014). كانت الملصقات مبثوثة في كل مكان، إلى صور الرئيس بوتفليقة، وكأني بها تذكر الجزائريين بما لا ينبغي عليهم نسيانه. حين اجتزنا البوابة الأمنية للفندق النابت رأس عقبة، في شارع شبه مهمل، أحسست بأن التحديث لا يمكن أن يكون حداثة. استقبلتنا أمينة المحجبة بطريقة غريبة. الجسد النحيل يعتصره سروال الجينز الممحو، والحذاء ذو الكعب العالي يراقص فتنة أخطأها قاموس العشق. وأما اللمسة الحمراء فدليل التائهين، فيما خيط الكحل رسم على بياض الوجه الرقيق عينين لم تخلقا إلا واندياح البياض. قالت: «أحن إلى زيارة المغرب. أريد أن أرى كازابلانكا وطنجة. قلنا معا: «مرحبا بك». من غرفتي بدت لي العاصمة كأنها بعيدة، غارقة في الأسفل. بضع سفن راسية في الميناء وتمثال الأمير عبد القادر يلوح كلما رميت العين لترى. لحظتها رن إيقاع موسيقى الحنين إلى دمشق. كنت برفقة الشاعر إدريس الملياني، الذي ما فتئ يوزع حبه بالتساوي بين الجميع داخل المغرب وخارجه، وكأنه يعي تماما بأن لا شاعر شيوعيا يتنفس الحياة بعد أن أجهز بوتين على الجميع، صانعا من الساحة الحمراء (بالمعنى الروسي الجميلة) ساحة بلون الدم. وكذلك أبعدنا عن العاصمة دمشق، عن ضجة الحياة وصخبها لتطالعنا الصورة من بعيد، وكأننا نعيد قراءة قصيدة «نكبة دمشق».. ولكأني بهم يعرفون بأن للمثقف عينا ثالثة ترى ما لا يرى. ترى ما يتوقون إلى حجبه، إلى إسدال الستار الأسود عليه، وهي حكاية مسرحية عربية تمثل باستمرار في العواصم ذاتها. كان فندق الوازيس أشبه بالمنفى. وفي ليلتنا الأولى أحسسنا كما لو أننا لم نغادر عزلة بيوتنا. حاولنا سرقة لحظة متعة في العاصمة، إذ سالت بنا الأقدام بعيدا عن شارع ديدوش مراد، حيث بدا ليل الجزائر غريبا، كما لو أن الناس هنالك لا يعرفون معنى لليل. فالمحلات التجارية تقفل أبوابها عند الثامنة ويلبس الظلام الزوايا والأمكنة باكرا، إلا من شباب يحملون كؤوسا بلاستيكية علمت لاحقا بأنهم يطلقون عليها «كوبليت»، وينتقون الزوايا أو يتركون ظهورهم تستريح على الحيطان (الحيطيون)، وهم يمجون سجائر لا أحد يعلم بما تم حشوها، وعلى الحال يظلون إلى أن يتم حرق قسط من الليل ليلوذوا إلى بيوتهم. فيما التراموي يعبر كتحديث وهمي مكسرا الصمت. وأزعم أو أكاد بأن من دأب الاحتفاء بلذة أو متعة الليل لن يظفر بسلامة الجسد وعافيته. والواقع أن هذه الصورة طالعتنا في الليلتين الأولى والثانية، قبل عودتنا إلى الأوراسي للظفر بليلة واحدة تعرفنا فيها على وجوه وأسماء عربية وازنة. اليوم الثاني لم نعرف كيف نبت السائق عادل مع أول رفة جفن. كان في بهو الفندق يدخن بشراهة. لم يكن عاديا، سواء في حركاته أو طريقة سياقته. قال: «سأنقلكما إلى الأوراسي، ومن هنالك إلى المكتبة الوطنية». أمهلنا إلى تناولنا فطورنا، ليسابق الريح طاويا طريقا يصعب على الراجل عبورها. كانت الجزائر تستيقظ ببطء. شمس الخريف الكسلى تبث أشعة باهتة. المحلات التجارية بعضها مغلق، وآخر مفتوح. لا أثر لمقهى يوقظ بُنّه نوما تأخر. موظفون يسابقون الوقت نحو بنايات كولونيالية تركت على حالها دونما تبليط. النوافذ مكسرة، والغبار يسيل من بعضها على شكل خيوط، وكأن لا عين ترى، ورجال الشرطة منثورون في كل مكان، بعيدا عن أن يحركوا ساكنا. في الأوراسي جالسنا مكاننا. لم يسألنا أحد في رغبة جرعة بُن. حتى أن عبد الفتاح وهو يطلبه، لاحقه النادل بفاتورة الأداء. كان بهو الفندق مكتظا بالأفارقة وبعض الوجوه العربية. إلا أن المفارقة المحيرة كوننا لم نر سحنات هندية في لقاء عربي هندي. فالمطبوعات التي قدمت إلينا، والتسطير شبه الدقيق للبرنامج تترد فيه أنشطة هندية عبارة عن موسيقى ورقص وأفلام. لا أثر للثقافة سوى في الرقعة المحددة بالمغرب العربي، مع استثناء ليبيا لظرفها السياسي العصيب. لم نكن مدرجين بين أسماء المحاضرين، إذ علل أحد المنظمين ذلك بكون وزارة الثقافة المغربية لم تحدد الأسماء المشاركة إلا في آخر لحظة. في المكتبة الوطنية الفسيحة ضج المكان بالطلبة والطالبات، الذين يترددون على صالات القراءة لإعداد البحوث والدراسات. وفي قاعة صغيرة شبه فارغة انتظمنا لحضور لقاء ثقافي فكري دار حول العلاقات الثنائية بين موريطانيا والجزائر، ثم تونس والجزائر، إلى مداخلة تجلو دور فلسطين في الحياة الثقافية العربية. على أنه باستثناء المداخلة الأخيرة التي كنا نعرف أغلب تفاصيلها إلى الحد الذي جعلنا ننبه المتدخل لما نسيه أو تناساه، فإننا كنا أمام خطاب تأسس على اجترار التقليد والتكرار الممل، إلى إقصاء المغرب عن وعي أو جهل بالدور الثقافي والحضاري الذي لعبه، وهو ما حرصنا على تأكيده، بخصوص العرضين المقدمين، ولا تفوتني الإشارة إلى شهادة تشكيلي عراقي بصدد تجربته. ولم ننج من هذه الرتابة، إذا حق ونجونا، مادامت المسؤولة عن تحركنا رغبت في معرفة الوجهة التي نقصد، إلا بالدعوة الكريمة من القنصل العام للمغرب في الجزائر الأستاذ عبد الواحد العاصمي، وكان بالفعل نموذجا للمثقف والسياسي الرصين في إبداء الرأي وحرص الدفاع عن ثوابت المغرب، إلى السلوك الرفيع حيث الإنصات الهادئ فاتحة النقاش. وفي مطعم فندق «صوفيتيل» بدا العالم غير العالم، والحياة غير الحياة، والخدمة غير الخدمة. وهنالك استحضرنا مغربنا بقوة، واستعدنا أنفاسنا لمساء رتبنا إيقاعاته على التجوال في شارع ديدوش مراد (ولربما هو شارع العاصمة اليتيم)، حيث يبدو في الطرف القصي تمثال الأمير عبد القادر، الذي يذكرنا برواية «الأمير» للروائي واسيني الأعرج. كان الشارع يفيض حركة ذهابا وإيابا، حيث بحثنا عن تبديد همومنا الثقافية والأدبية في مكتبات يهيمن عليها المنزع الفرانكفوني، إلى إلإبداعات الجزائرية في الرواية والدراسات النقدية، إذ لا أثر لكتاب عربي قادم من المغرب أو مصر أو بيروت، وحده مولود فرعون، كاتب ياسين، محمد ديب، أحلام مستغانمي، بشير مفتي وغيرهم كثير ممن يؤثثون مكتبة «العالم الثالث» المعروفة أدبيا. وأما بخصوص الجانب الإعلامي، فيمكن القول بأن الصحافة الجزائرية المكتوبة باللغة العربية ضعيفة جدا، سواء على مستوى الإخراج، أو التبويب أو إبداء الرأي وجرأته، وأستغرب إلى اليوم أهمية مبيعاتها التي سبق للأستاذ والوزير السابق محمد العربي المساري أن نوه بها، علما بأن لا صحف عربية منافسة في السوق الإعلامي الجزائري. أما والأضواء الصفراء الباهتة تعلن عن ليل فقير، وبلا متعة، فخفت الحركة وتضاءل الإقبال، وبدا أن علينا تلبية النداء الأخير لفندق الوازيس. اليوم الثالث في يومنا الثالث عادت أمينة لترتب لحظة خروجنا. توقعنا حضور السائق عادل لولا أنه لم يكن في الموعد. وفي الحافلة الصغيرة المتهالكة تحقق نقلنا إلى الأوراسي. بدا السائق الطاعن أشبه بصياد يجذف عابرا من ضفة إلى ثانية. لم يكن مساعده أحسن حالا، الجسد ناي، والشعيرات البيضاء تفضح عظام الصدر، فيما نخر السوس ما تبقى من أسنان. كانا في أوج الغضب، إذ يكفي انبثاق السؤال لتسيل جراحات المعاناة وفظاعة قسوة الحياة. قال السائق: «إن حكايتنا نحن الجزائريين الكادحين ترتبط بالحدود. فحياتنا وعيشنا لا يمكنهما أن ينفصلا عن المغرب، ومنذ إغلاق الحدود انتهت الحياة بالنسبة لي، وإلى اليوم الأمل في حدود مفتوحة، وفي تواصل وأشقاءنا المغاربة». وانتفض المساعد: «لسنا سياسيين، نحن طبقة كادحة ترغب في العيش». في فندق الأوراسي حجزنا ليلتنا الأخيرة. وفيه تعرفنا عليها. قالت إني مندورة لخدمتكما، وحكت حكاية كونها تحترف المسرح الفردي، وتعرف المسرحي المغربي عبد الكريم برشيد، وسبق وشاركت في لجنة لتقييم الأعمال المسرحية إلى جانب المغربية بديعة الراضي. وسالت جبال الكلام عن الثقافة في الجزائر، والأمية في الجزائر، وعلاقتها المباشرة بوزيرة الثقافة. وفي لحظة رن هاتفها لترد بعنف: «أخرج (الكلبة) من بيتك أيها الخائن..». وكان أن حكت المجنونة سونيا حكاية انفصالها عن زوجها، ومطالبتها إياه بأداء المستحقات قانونيا. أما ونحن نلج باب المكتبة الوطنية، فاختفت كأن لم تكن، أو كأنها أرسلت فقط لترسم صورة وردية عن جزائر نعرفها. قدمنا عرضينا أمام جمهور نوعي رغم قلة عدده، السفير السوداني الدكتور خالد محمد فرح، والشاعرة السودانية روضة الحاج، والزجال المصري الصاوي، والمستشارة الثقافية حنان خاي، وبعض الحضور ممن صادف وجودهم تلك الصبيحة بالمكتبة الوطنية النشاط. واللافت أن المثقفين الجزائريين، الذين نحرص على تداول أسمائهم، غابوا عن اللقاءات ككل، أو أن الدعوة لم توجه إليهم. تمام الواحدة غادرنا المكتبة الوطنية، لنظل واقفين في الساحة أزيد من ساعة، حيث لم يعثر على حافلة لنقلنا باتجاه الأوراسي، فتقدم أحد الصحافيين طالبا خلاصة عن العرض أمددته بها، وتجاذبنا الحديث عن الوضع الاقتصادي بالجزائر، فأكد بأن الدولة ظلت محافظة على البنى التقليدية في كل المجالات بعيدا عن استحداثها، وهو ما سيؤثر مستقبلا على وضعها الاقتصادي، الذي يفتقر إلى التنويع، كما إلى النموذج المصرفي الحديث. وأوضح بأن أكثر من مجال تجاري واقتصادي يكمن حل مشاكله في الخوصصة، ولئن كانت السلبية تكمن في الفساد المالي والإداري وسوء التدبير المعقلن. وأكد لي في الختام بأن التقارير الدولية تؤكد جميعها على نفس الملاحظات، إلا أن الانخراط في الإصلاح لم يتم بعد. ..وفي اليوم الرابع أما ونحن نركب رياح العودة، فتبدد ضباب المفارقة وقد صاحبنا في الحافلة التي أقلتنا باتجاه مطار الهواري بومدين مبدعون وفنانون وممثلون من الهند كسروا صمتنا بالفكاهة والضحك، ولئن كانت لغة التواصل معطلة. وعلى أرضية المطار كان الرجل القصير بانتظارنا، حيث أوضح لنا مسار خطوات العودة، وهو ما كان بالفعل.. تمام الخامسة مساء رأينا كازابلانكا تغتسل وكأننا لم نغادر أمطارها نهائيا.
حدائق النور واحتفالية اللون في عمل الملاخ شفيق الزكاري سجل المعرض الاستعادي الأخير للفنان التشكيلي عبد الحي الملاخ خلاصة تجربة لثلاثة عقود، اختزل فيها واستحضر من خلالها مساره الإبداعي عبر محطات مختلفة، جعلها شاهدة على تطورها، من خلال عدة عناصر أساسية شكلت من وجهة نظرنا تطور محور تجربته في سياق تاريخي. من بين هذه العناصر يمكن الحديث عن الدلالة بأبعادها المرتبطة بالذاكرة وباللاشعور الجمعي، الذي يتقاطع فيه الفنان باشتغاله على الطائر وما يحمله كموروث إنساني من إحالات بمختلف مشاربها الثقافية والرمزية، بعدد من الفنانين المغاربة والأجانب كبلكاهية، هبولي، حميدي، ماتيس، بيكاسو، براك… ثم العين التي يلتقي فيها بالفنان الأزهر، مع اختلاف في توظيفها لتصبح أيقونة مكملة لكل العناصر المحيطة بها، باعتبارها علامة روحية تحمل دلالة صوفية مرتبطة كذلك بالمكان، الذي حوله الملاخ إلى تكوينات جمعت بين العلامة والطبيعة بنخيلها وأفق مناظرها اللانهائية وحدائقها التي أطلق عليها في معرض له اسم «حدائق النور» انتسابا لمسقط رأسه (مراكش)، معلنا عن جذوره وانتمائه لفضاء ترسخ في ذاكرته فانعكس بتفاصيله على مسار تجربته برمتها. يليه العنصر الكروماتيكي، حيث يتسم في عمل الملاخ باحتفالية لونية، جمعت بين الألوان الباردة كالأزرق والأخضر والبنفسجي..، والألوان الساخنة كالأصفر والأحمر والبرتقالي والترابي أو البني بتدرجاته..، مما يؤكد على حرفية الفنان وتمكنه من هذا الملون palette الحافل بتراتبية كروماتيكية ضمن نسق جمع بين التضاد اللوني في إطار تجانس وتوافق مرئي، بالإضافة إلى اشتغاله على منوكروميات لم يحضر فيها إلا الأسود والأبيض، باعتبارهما ظلالا حددت الشكل وأكدت على قوة حضوره، مستعينا في بعض الأحيان بالتدرجات الرمادية. أما العنصر المكاني فقد اختزله الملاخ في السند الذي جعل منه فضاء غير محدد، من خلال أشكال تطفو على فضاء مجهول لا يمكن تحديد المكان فيه إلا من خلال بعض الأيقونات التي تحيل ذهنيا على هذا المكان. بينما تجلى العنصر الكرافيكي في طريقة معالجته للأشكال، فهو يقوم بصباغتها وتحديدها بخطوط حولت الأعمال في بعض الأحيان من فعل صباغي إلى فعل كرافيكي، من خلال تقنية الكولاج والتلصيق، إيمانا منه بضرورة التجديد في إطار الاشتغال بكل التقنيات كفنان متعدد مفتوح في تجربته على كل الاحتمالات. أما العنصر المفاهيمي والأخير، فيتجلى في هذه التجربة من خلال المعنى بمواضيعه المتعددة المرتبطة بالحياة الاجتماعية والثقافية، كأسئلة جوهرية ظلت تؤرق الفنان الملاخ، استنادا إلى تكوينه الثقافي ومرجعيته المشهدية التي استمدها من الواقع المعيش، متسائلا عن الهوية في علاقتها بالوجود، فكان كل عمل له يحمل رمزا ودلالة إضافية، ويطرح سؤالا كامتداد لسؤال آخر، ليجعل من عمله أيقونة جمالية مع تعدد الرؤى والتأويلات حسب مرجعية المتلقي، وليعطي للعمل التشكيلي وظيفة ثقافية بأسئلة عميقة عوض أن يحصر هذا العمل فيما هو جمالي أو تزييني فقط. لنخلص في الأخير إلى أن الفنان الملاخ استطاع أن يجمع بين اتجاهين (التجريد والتشخيص)، باستحضاره شكلين لا يوجد غيرهما، وهما الشكل الانسيابي والهندسي، استنادا إلى القولة المعروفة للنحات هاجدو، التي تقول: «من يستطيع أن يبتكر شكلا إضافيا للشكل الانسيابي أو الهندسي، سوف يكون قد قام باكتشاف كبير».