إن المعرفة هي محرك التقدم، ووعاء المعرفة الكتاب وسبيلها القراءة، والحد الفاصل بين التاريخ وما قبله هو نفسه الحد الفاصل بين الحضارة والبداوة. صدق جورج صوايا حينما قال في الكتاب: إناء الرشاد بين البرايا يا غداء تقتات منه النفوس ونحن إذ نتحدث عن الكتاب فإننا نخص بالذكر الكتاب المدرسي الذي يعتبر الدعامة التربوية الأساسية ونبراس القراءة الأول الموجه لجمهور معين، هم التلاميذ، حيث يحوي بين دفتيه البرنامج الدراسي المقرر بدعاماته وأنشطته وأشكال التقويم التي تهدف الى تحفيز المتعلم وإثارة جاهزيته للتعلم، وهو بذلك تجسيد لبرنامج الدولة ومشروعها المجتمعي وأهدافها وقيمها وخصائصها وأولوياتها الثقافية والفكرية لتنشئة جيل على أسس رسمها المجتمع، دون أن يعني ذلك بالمطلق أن كل ما يحتاج اليه المتعلم من المعرفة قد سجل في كتاب واحد، وأنه لا يتغير وأنه صحيح ونهائي. هذا على الأقل ما يقوله المنطق السليم. إلا أن الكتاب المدرسي قد خضع في الآونة الأخيرة (بعد أجرأة الميثاق الوطني للتربية والتكوين) لعملية تسليع واضحة تفوح منها رائحة النفس التجاري ومكر الاقتصاد، كما تتراءى منها بصمات أيادي التغريب الثقافي، كل ذلك تحت مسوغات عديدة منها الحاجة لِلَبْرلَة (من الليبرالية) الكتاب المدرسي وتجاوز «الجمود» الذي طبع فترة طغيان الكتاب المدرسي «الوحيد» على الممارسة الديداكتيكية في المدرسة المغربية، وكذا إنتاج كتب ذات «جودة» بيداغوجية و«فنية» و«تقنية» عالية. وهكذا وصل عدد الكتب المدرسية الى حوالي 300 كتاب مدرسي وما يقارب 170 دليلا، تهم المستويات الستة من أسلاك التعليم المختلفة والجذوع المشتركة الأربعة ومسالك السنة الأولى من سلك الباكالوريا. لقد نادت الوزارة بضرورة إحداث كتب مدرسية وفق مبادئ معينة: أولها التشجيع على إخراجها في حلة جميلة وبمحتويات محفزة، ثانيها إحداث قطيعة جذرية مع سياسة الاعتماد على فرق تربوية فريدة وخاصة، ثالثها الأخذ بسياسة التعدد كأداة لأجرأة فلسفة القطيعة مع «الكتاب الوحيد»، بغية تمكين المدرس من «سلطة اختيار»، من بين الكتب المصادق عليها، ما يتوافق مع إمكانياته وإمكانيات تلامذته وآخرها جعل القدرة الشرائية «حجر الزاوية» التي تدور حولها عملية تحديد أثمنة الكتب المدرسية بهدف تعميم التمدرس. نستهل الحديث عن المبدأ الأول بأننا لسنا ضد الاهتمام بالكتاب المدرسي وتطويره، ولكننا ضد أن تكون الكتب الجديدة مليئة بالأخطاء المطبعية واللغوية مع «لي ذراع» الحقائق المعرفية التاريخية، بالخصوص، والتي تظهر الثقافة العربية برموزها ومكانتها بمظهر الثقافة الهزيلة وضعيفة الإنتاج، رغم غزارة إبداعاتها وتعدد مبدعيها وتفوق المنتسبين إليها، وضد ملء هذه الكتب بالإحالة على مراجع ووسائط غير عربية في أغلبها وكأن الثقافة العربية أصبحت جثة هامدة محنطة وجزءا من الماضي وثراثا عالميا!.. والغريب أن يرد ذلك في كتب التاريخ واللغة العربية التي أضحت تكرس بعد المتعلم عن ثقافته الأم وانبهاره بثقافة الغرب. أما الجمالية والتحفيز فلم نلاحظ – في ما تيسر لنا الاطلاع عليه من هذه الكتب – إلا إعادة إنتاج مقررات عادية تعتمد أساسا الوثائق بدل المحتوى الذي ميز الكتب القديمة، وفي ذلك استجابة للبيداغوجيا الجديدة وليس تجميلا أو زيادة تحفيز كما أريد لنا أن نفهم. أما المبدأ الثاني فيثير كثيرا من الاستغراب، فكيف يمكن إحداث قطيعة «جذرية» مع الفرق التربوية القديمة والاستعاضة عنها بلجان أخرى (قد تضم نفس الافراد) «تتنافس»، اعتمادا على مدى احترام «دفتر التحملات». ألم تتقدم لجان لم يتنافس معها أحد وقُبلت إنتاجاتها بحذافيرها؟ فما الفرق بينها وبين الفرق الخاصة إذن؟ أليس هذا تضييعا للإمكانات وإهدارا للأموال العمومية؟ كم لجنة عقدت؟ ماذا أنتجت مقارنة بما سبق؟ ما الجديد الذي أضافته إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تهافت الناس اللافت على الكتب القديمة (رغم «لا جماليتها») رغبة منهم في النهل من محتوياتها الأدبية والفكرية والعلمية الرفيعة والأكثر تحفيزا؟ ألم يصل ثمن مقرر الفلسفة لباكالوريا الثمانينيات أزيد من 90 درهما؟ فلماذا القطيعة الجذرية إذن؟ أم إن مصلحة وكلاء الثقافة الغربية تصر على إبقائنا ومنظومتنا التربوية في خدمة دورة الرأسمالية العالمية والثقافة الاستهلاكية، خدمة لأسيادهم وأولياء نعمهم؟ لقد نادوا في المبدأ الثالث بالتعددية، فهل هي فعلا استجابة للمدرس (الذي ليس له الحق بالمناسبة في اختيار المقرر الذي يناسبه وإنما هو ملزم باعتماد النسخة المعتمدة في منطقة عمله) أم استجابة «لضرورة دعم مختلف دور النشر المشاركة، حفاظا على توازن المقاولة الوطنية «كشريك» أساسي في تطوير الكتاب المدرسي»، كما تفضلت زكية العراقي مديرة المناهج بالوزارة وقالت في أحد حواراتها الصحافية؟ ولماذا لم تتقدم -في حينها- (ويا للعار) ولو واحدة من هذه الدور من أجل تأليف وإنتاج كتب الفقه والأصول والتفسير والحديث للسنة الأولى من سلك الباكالوريا تعليم أصيل؟ الإجابة، بكل بساطة، لأن عدد التلاميذ في هذه الشعبة قليل مما سينعكس سلبا على هامش ربح هؤلاء «الشركاء»، فأين وطنية هذه المقاولات وغيرتهاعلى المنظومة التربوية؟ ولماذا هذه البراغماتية المتناهية في التعامل مع مستويات بل والتسابق «للظفر» بها، وفي المقابل رفض أخرى؟ أليس من حقنا أن نستنتج أن الحديث عن الاهتمام بالقدرة الشرائية لآباء وأولياء الأمور هو محض كلام وذر للرماد في العيون وقلب للحقائق وممارسة فاضحة للديماغوجية وتمثيلية رديئة لم تعد تنطلي على أحد؟ ألم يحن الوقت لكي تستوعب الوزارة الدرس لتحرر الكتاب من المحتكرين وأصحاب المصالح الضيقة ؟