أعادنا النقاش المشتعل، اليوم، بين أحزاب المعارضة وأحزاب التشكيل الحكومي حول طلب التحكيم الملكي، بشأن بعض القضايا التي يتهم فيها بنكيران باستثمار اسم الملك، إلى الدور الذي ظل يقوم به المحزن في كل المحطات السياسية التي عرفها المغرب. ويكاد هذا الأمر يعيدنا إلى نفس الموقف القائل بأن القضايا الكبرى والملفات ذات الحساسية الخاصة لا بد أن يكون ليد الدولة، أو لنقل المخزن، فيها نصيب حتى وإن كان ذلك خارج سلطة الحكومة، أية حكومة. فلم يجد وزير الداخلية، وصديق الملك الراحل، أحمد رضا اكديرة من صيغة لوقف المد الشعبي، الذي صنعه حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية قبيل استحقاقات سنة 1963، غير الإعلان عن حزب بديل اختار له اسم «جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية»، هذه الأخيرة التي كان رجل المخزن يرى أنها أضحت مهددة، وبالتالي فهي في حاجة إلى من يحميها. تأسس الحزب بسرعة قياسية، واستقطب أسماء كبيرة من حجم عبد الكريم الخطيب والمحجوبي أحرضان والبكاي والوزاني، واستطاع في ظرف زمني قصير أن يجمع حوله أعدادا من المتخاذلين والخائفين من جبروت اكديرة. وفي أول استحقاقات، فازت الجبهة بأغلبية مقاعد مجلس النواب، وبذلك كانت تلك الجبهة قد ولدت من رحم المخزن إلى درجة أن اكديرة ظل يردد في حملة الحزب الانتخابية أن «الفديك» هو حزب الملك. نفس هذا الشعار سيحمله احمد عصمان في أواسط السبعينيات حينما عادت روح الحياة إلى المشهد السياسي بعد سنوات الاستثناء، حينما قاد الأعيان -الذين قدموا أنفسهم كمستقلين، سرعان ما سيؤسس بهم وزير الداخلية ادريس البصري حزبا جديدا اسمه التجمع الوطني للأحرار- الحزبَ الذي سيفوز بأغلبية مقاعد مجلس النواب، ومقاعد عدد من الجماعات المحلية. سنة بعد ذلك، سيتحرك المخزن ليؤسس حزبا جديدا قال إنه سيعنى بقضايا البادية المغربية، وهو الحزب الوطني الديمقراطي الذي قاده «زعيم» آخر هو أرسلان الجديدي. الوصفة ذاتها، التي هيأها المخزن على نار هادئة، هي التي وضعت لميلاد حزب جديد لم يكن زعيمه غير الوزير الأول وقتها المعطي بوعبيد، الذي اختار له اسم الاتحاد الدستوري، والذي سيفوز هو الآخر مباشرة بعد تأسيسه بأغلبية مقاعد مجلس النواب والجماعات المحلية. لقد كانت يد ادريس البصري، وزير الداخلية، رحيمة بحزب المعطي، حيث ظل يختار له الأطر المؤهلة ويرسم له التوجهات الكبرى في السياسة وفي الاقتصاد؛ لذلك، حينما اختار فؤاد عالي الهمة، صديق الملك محمد السادس، أن يغادر مهامه في وزارة الداخلية ليحقق ذلك الاكتساح بدائرة الرحامنة، كان يعيد نفس الصورة التي رسمها احمد رضا اكديرة في الستينيات وأحمد عصمان في السبعينيات والمعطي بوعبيد في الثمانينيات.. صورة صديق الملك الذي على الجماهير الشعبية أن تختاره لأنه يحمل مشروع الملك، وهو ما ظل أتباع الهمة يرددونه في كل مناسبة، ولذلك استطاع أن يفوز ويكتسح، قبل أن يؤسس هو الآخر حزبا جديدا وصفه الكثيرون بكونه جبهة جديدة تشبه جبهة اكديرة. لم يصنع حزب الأصالة والمعاصرة ما صنعته أحزاب المخزن التي ولدت من رحمه، فقط لأن الظروف لم تكن هي نفس الظروف؛ ولأن المحطة التي راهن عليها «البام» لكي يلعب لعبته السياسية ويواجه المد الإسلامي تزامنت مع هبوب رياح الربيع العربي، التي كان يجب التعامل معها بحكمة وهدوء. لذلك، يتحدث كثيرون، اليوم، على أن تدبير الشأن العام من قبل الإسلاميين لا بد أن يذهب غدا ببعض من رأسمالهم الرمزي، وأن البديل لن يكون غير أصدقاء الهمة، هذا الأخير الذي لايزال قادرا على تحريك الحياة السياسية في الاتجاه الذي سيخدم هذا التوجه، ومن ذلك قدرته على تفكيك الأحزاب التقليدية ممثلة في حزبي الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال. ففي الاتحاد معركة مفتوحة قد تذهب بكل تاريخه النضالي منذ انتخب ادريس لشكر كاتبا أول، وهو «المتهم» بقربه من الهمة وأصدقاء الهمة؛ وحزب الاستقلال يعاني من وجود حميد شباط الذي قيل إن أيادي ربانية هي التي حملته إلى منصب الأمانة العامة لحزب علال الفاسي… أيادٍ قد يكون للهمة نصيب فيها. والحصيلة هي أن المخزن، الذي كان يخشى منذ الستينيات على مؤسساته، لايزال يدبر شأن السياسة بنفس المنطق، وهو منطق قد يجعلنا غدا بدون أحزاب قوية، مما قد يهدد ديمقراطيتنا الفتية، وتلك مصيبة أخرى.