يتشابهان في قربهما موقع القرار.. ويلتقيان في تقلد كليهما لنفس المناصب.. لكن مسار كل واحد يختلف عن الآخر، اكديرة كان يناصب العداء لطروحات الأحزاب الوطنية والاتحاد الاشتراكي على الخصوص، الهمة مقتنع بتطوير المغرب وبناء شراكة سياسية مع الأحزاب الوطنية في أفق تشكيل أقطاب سياسية حقيقية، وهذا هو الفرق الجوهري بين الأول والثاني... فؤاد عالي الهمة .. أو غودو السياسي الذي ينتظره المغاربة ..! كأيها الناس.. كان يمرح مع أترابه في بلاد القايد العيادي، ويعود كل مساء إلى بيت أبيه رجل التعليم العادي ليعانق فراشه و يستسلم لنوم البراءة والطفولة البئيسة التي يعيشها أطفال المغرب غير النافع والرحامنة إحدى تفاصيل هذا المغرب المقصي من خريطة التنمية . لم يكن الفتى كأقرانه في التحصيل الدراسي ، بل لمع و تفوق و استحق بأن يفتح له الحظ الطريق السالكة نحو المدرسة المولوية ، حيث جاور ولي العهد آنذاك الأمير سيدي محمد أو سمية سيدي كما ينادونه داخل أسوار تواركة. هناك ترعرع فؤاد عالي الهمة و أخذ له مكانا تحت شمس السلطة. انتقل مع ولي العهد إلى التحصيل في الجامعة و حاز على دبلوم في القانون العام . و منها إلى «الخدمة المدنية» في وزارة الداخلية على عهد البصري .. حيث فتح عينيه على الملفات ذات الطابع السري و طرائق الاشتغال على حقل سياسي و مجتمعي يؤطره الهاجس الأمني . كانت الدروس الأولى لسّي فؤاد على يد عراب الداخلية آنذاك ورجلها القوي و كاتم أسرار الملك الراحل . فيما بعد احتل منصب مدير ديوان ولي العهد الذي بقي قريبا منه إلى حدود توليته العرش سنة 99 . بعد إقالة ادريس البصري يوم عيد ميلاده المصادف ل 9 نونبر ، جاء الميداوي الصارم و بعده «الساهل» وهنا كان الهمة الرجل الحقيقي للداخلية في الظل ، حيث تمكن يومها من الإمساك بجميع مداخل و خيوط المشهد السياسي والأمني والاستخباراتي .. يمد يده تارة للإعلام «المشاكس» مغازلا أو مدعما.. و تارة أخرى يفتح النقاش مع يسار «جذري» قادر على التماهي مع مرحلة العهد الجديد و لديه كامل القدرة - أي نفس هذا اليسار - على التخلي عن أحلامه الثورية و الانخراط في مشروع صناع القرار في العشرية الأخيرة ، و من ضمنهم الصانع القوي والصديق المقرب للملك و الأمني الصامت عالي الهمة . طيلة مساره في المسؤوليات لم ينبس الرجل ببنت شفة .. إلا عندما تحدث ليومية مغربية أو عندما جاء إلى القناة الثانية ليقول ما قال و سارت بذكره الركبان. قدم استقالته من الوزارة ، و طرح في بيان صغير أن هذه الاستقالة غير مرتبطة بأية أجندة سياسية، و مرّ ماء قليل تحت جسر السياسة ، ليصل الجميع إلى محطة الانتخابات التشريعية ، و ليفاجئ الهمة نفس هذا الجميع بترشيحه في مسقط رأسه مصطحبا معه في لائحته حفيدة القايد العيادي و خاله. و لتفوز لائحته بأعلى الأصوات و من هناك إلى قبة البرلمان حيث البقية معروفة. الهمة مع بعض «التشاش» السياسي قرر تأسيس حركة لكل الديمقراطيين و استقطب فيها بعض مناضلي اليسار وبعض رجالات الدولة و الغاضبين من الأحزاب و الانتهازيين بطبيعة الحال دائما .. و بدأت التصريحات ، مرة يقول هو وصحبه .. إننا جمعية سياسية أقل من حزب و أكبر من حركة ! .. ولم يمر وقت طويل .. حتى فاجأ الكل بتأسيس حزب الأصالة والمعاصرة و بدأ مرة ثانية يتحدث عن ضرورة هيكلة الحقل السياسي و تنقيته من الشوائب ، و في مرة تالية ينسب أسباب نزول حزبه إلى الرغبة في التسريع بتنزيل المشروع الملكي و أجرأته عبر جهات البلاد، لأن الطبقة السياسية شاخت و القيادات التاريخية انتهى دورها ، و الشعارات ملّ منها الشعب و الإيقاع الذي يتحرك به السياسيون لا يتوازى مع السرعة التي تشتغل بها المؤسسة الملكية كما ذكر بن عدي الأمين العام الانتقالي إن صح التعبير. مْزْيان ... كل هذا يناقش و قد يقع فيه اختلاف .. لكن الهمة رفض أن يقول إنني بصدد تأسيس حزب أغلبي كما في التجارب السابقة ، لأن سلوك حزب الأصالة يفضح و يعري خلفية وزير الداخلية الأسبق . اليوم الهمة و رفاقه يسابقون الزمن ولا يعرف المغرب السياسي ما الذي يدبره الرجل لمستقبل الأيام. هو في تصرفه السياسي يذكر الجميع بظاهرة الرجل القوي وبمسار اكديرة قرب الملك الراحل رغم اختلاف السياقات وتباعد المراحل . لكن الخيط الناظم هو القرب من موقع القرار، لكن الفرق الكبير بينهما أن الأول كان يسعى لإقصاء ودفن أحزاب الحركة الوطنية، في حين أن الهمة يضع في استراتيجيته إرساء تقاطب حزبي في مشهد سياسي قوي.. هذا بالمجمل البروفايل الظاهر لمسار زعيم الأصالة والمعاصرة، كاتب الدولة الأسبق بوزارة الداخلية ... اكديرة .. مؤسس الحزب الأغلبي بالمغرب في بداية الستينيات بدأ اسمه يتسرب إلى عوالم السياسة المغربية، هو أحد أصدقاء الملك الراحل الحسن الثاني المقربين إليه، وأحد النافذين في صناعة القرار السياسي لمغرب الستينيات. كان مديرا عاما بالديوان الملكي وحائزا على السلطة التنظيمية التي تمكن من ممارسة صلاحيات الوزير الأول آنذاك باحنيني، وهو بذلك كان عمليا الوزير الأول لتلك الحكومة. اسمه أحمد رضا اكديرة .. خص المعارضة اليسارية بكثير من «الود السياسي» وانتبه إلى خطورة طروحاتها على بناء الدولة الفتية التي مازالت تبحث عن نفسها.. !.. هذا الانتباه بلوره الرجل في صناعة حزب أغلبي سماه جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية، ولم يتوقف عند ذلك، بل أنشأ الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وكال لليسار مختلف النعوت من قبيل.. الشعارات الجوفاء والطروحات المتجاوزة لأناس يؤمنون بالثقافة الانقلابية التي كانت موضة ذلك الزمن . كان مساره مرتبطا بظل الملك الراحل، وكانت أفكاره تجد لها تنزيلا في معظم قرارات السلطة السياسية. تكوينه القانوني الغربي جعله متماهيا بشكل كامل مع فكر الحسن الثاني الذي نهل هو الآخر من الثقافة الغربية والجمهورية الخامسة بفرنسا، والإعجاب الشديد بالديغولية. كل هذا أهله لنحت فضائه الحميمي مع الرجل الأول في البلاد، وسمح له بالتصرف في المشهد السياسي بالشكل الذي عاشه المغاربة وأحزاب الحركة الوطنية بالخصوص. قال العروي مرة، أنه عندما أراد الحسن الثاني أن يكون عبد الرحيم بوعبيد معه في الحكم وجد اكديرة أمامه!، وعندما سئل المهدي وبوعبيد عن إنشاء حزب الجبهة ذات سؤال بمجلة «جون أفريك»، رد الزعيم الاتحادي عبد الرحيم بوعبيد: «اكديرة ليس إلا ظل مولاه وليس له وجود سياسي خاص إلا الوجود الذي يجعل منه المعبر الأمين عن وجهات نظر مولاه». الصديق الحميم للحسن الثاني .. لم تكن له علاقات إنسانية موصولة مع المحيط، بل إن بعض مستشاري الملك الراحل اشتكوا من تصرفاته ومن هيمنته على «حقل» القرارات الاستراتيجية. وظل هذا المستشار / الوزير / الصديق الملكي / السياسي صانع اللخبطات الحزبية مثار نقاش في الكواليس والصالونات المغلقة. جر عليه عداوات كثيرة وخصومات امتدت أكثر من مرة إلى علاقته بالملك الراحل، وفي كل غضبة ملكية كان يستكين إلى نفسه وفي بيته دون أن يعرف الملاحظون والمقربون ما الذي يقع بينه وبين الحسن الثاني. وكل ما تسرب من الأحاديث والمذاكرات حول مغرب الستينيات وصناعة الأحزاب الأغلبية، كان يموقع الرجل في خانة المحاربين الأوائل لصوت اليسار وطروحات الوطنيين النزهاء. الغريب أن اكديرة تشرب المرجعية الغربية في علاقتها ببناء الدولة ومفهوم فصل السلط، لكن سلوكه السياسي ظل يمتح من تقليدانية دستورية تنتصر للشرعية الدينية والتاريخية وتدعم تصورا عميقا لحكم فردي متسلط بأحزاب ضعيفة ومصنوعة مع تهميش كامل للأصوات الوطنية الداعية لدمقرطة القرار السياسي. في آخر أيامه حصل على «عطلة سياسية» طويلة الأمد بفعل المتغيرات التي وقعت في الحقل السياسي بين الفاعل المركزي ونعني به الملك والقيادات الوطنية حول التناوب السياسي. مات اكديرة معزولا في فرنسا لا يملك شيئا من متاع الدنيا بعد أن «لهف» صديقه مارسيانو كل ثروته، أحلامه في التأسيس ليمين ليبرالي لم تعد أن تكون أحلاما من قصب. رغبته في هندسة الحقل السياسي كما فعل البصري أيضا لم تجد الأرض الصلبة لتحقيقها، فالعمل السياسي غير المرتبط بالجذور يظل نشازا في الأفكار ولقيطا في السلوك السياسي، الأصل للأصل والنصر للحقيقة. انتهت الجبهة .. انتهى النفوذ السياسي .. انتهت الافتعالات التي أخرت المغرب وصدته عن تطوير دولته وتقدم شعبه .. انتهى الحزب الأغلبي مع صانعه. انتهى اكديرة وبقيت السياسة في المغرب، وبقي الاتحاد الاشتراكي في مكانه يدافع عن دمقرطة الدولة وعن اختيارات أثبت الزمن صوابيتها . فهل من متعظ ؟