لأول مرة في حياته، جلس، يوم الثلاثاء الماضي، القاضي الإسباني الشهير بالثزار غارسون في كرسي الاتهام عوض الجلوس في مكانه المعتاد الخاص بهيئة الدفاع. القاضي، الذي حرك المتابعات القضائية ضد دكتاتوريي الأرجنتين والشيلي وغواتيمالا بسبب جرائمهم ضد البشرية، وجد نفسه يدفع ثمن جرأته على فعل الشيء نفسه مع بقايا فرانكو في إسبانيا. وهكذا بمجرد ما طالب القاضي غارسون بتكسير «قانون الصمت» الذي تم الاتفاق حوله سياسيا مع إقرار الديمقراطية سنة 1978، ومتابعة المتورطين في التصفيات الجسدية التي أمر بها فرانكو، ثارت ضده نقابة القضاة المعروفة باسم «الأيادي النظيفة»، وطالبت بفصله من مهنة القضاء بعد أن وجهت إليه تهمة فتح ملفات الماضي بسوء نية. ما هو الدرس الذي نستخلصه من هذا الخبر؟ الدرس بسيط جدا، وهو أنه في دولة ديمقراطية ليس هناك شخص فوق القانون، حتى ولو كان قاضي القضاة نفسه. قرأت هذا الخبر وأنا أتابع الحملة العدوانية والشرسة التي يخوضها بعض المحسوبين على الجسم الصحافي ضد شخصي المتواضع في المنتديات والمواقع الإلكترونية المشبوهة وصحافة «الخرقوم» المتخصصة أسبوعيا في صبغ أغلفتها بالدماء وأحمر شفاه العاهرات. جريمتي الكبرى هي أنني لم أرفع شعار «أنصر أخاك ظالما أو مظلوما» للوقوف إلى جانب الزملاء الصحافيين المتابعين على خلفية ما نشروه حول «صحة الملك» من أخبار مصدرها الوحيد هو الأنترنيت. وعوض أن يكون النقاش هو ما مدى الخطأ المهني الذي وقع فيه بعض هؤلاء الزملاء بنشرهم لأخبار لا تستند إلى مصدر حقيقي، أصبح النقاش هو لماذا لم يساند رشيد نيني زملاءه في هذه المحنة. أولا، يجب أن تكون الأمور واضحة.. إن دور الصحافي النزيه والمهني ليس هو مساندة زملائه ضد الدولة أو مساندة الدولة ضد زملائه، وإنما واجبه الأساسي أن يساند الحق ضد الجميع. وعندما يخطئ الصحافي عليه أن يعترف بخطئه وأن يعتذر عنه. ونحن في «المساء» عندما أخطأنا باتهامنا لأحد وكلاء الملك بحضور «عرس الشواذ» بالقصر الكبير، كتبنا اعتذارا ونشرناه في الصفحة الأولى، ورغم ذلك حكموا علينا بستمائة مليون. ومع ذلك فنحن لم نكن ضد محاكمتنا، بل كنا ضد انعدام شروط المحاكمة العادلة في محاكمتنا. اليوم، أصبحنا نرى بعض الصحافيين، بمجرد ما تقرر جهة ما متابعتهم قضائيا، يشرعون في النحيب والصراخ والاستنكار، وكأن الصحافي منزه عن الخطأ وبالتالي لا تجوز متابعته ككل عباد الله. الصحافي مثله مثل القاضي، كلاهما يملك سلطة المحاكمة والمحاسبة، وعندما يخطئ أحدهما فإن المكان الأنسب بالنسبة إليه يكون هو المكان نفسه الذي يقف فيه هذه الأيام القاضي غارسون، أي كرسي الاتهام. وعليه، فإن ما يجب أن يحتج عليه الصحافي هو غياب شروط المحاكمة العادلة في محاكمته، لا أن يحتج على المحاكمة في حد ذاتها، لأن احتجاجه على الوقوف أمام القضاء يجعل منه مواطنا فوق العادة. وسأشرح لكم لماذا أصبح بعض الصحافيين يحسون بأنهم أصبحوا مواطنين «فورست كلاص». والأمثلة التي سآتي على ذكرها سيعرف أصحابها أنفسهم دون أن أذكر أسماءهم، وهم من الصحافيين الذين يحترفون إعطاء الدروس في الأخلاق وضرورة تطبيق القانون ويخوضون حملة شرسة ضد الشطط في استعمال السلطة والتدخلات العليا لطي الملفات. أعرف مدير مجلة مشهورا، يتفنن في فضح قضايا الفساد ويطالب بمتابعة المتورطين فيها، تورط هو الآخر في قضية فساد مع تعاطي المخدرات والخمور في جلسة صاخبة مع بنت صحافي آخر مشهور هو الآخر. وعندما تم ضبط الاثنين في حالة تلبس وأنجز لهما محضر يتضمن التهم الموجة إليهما، اتصل الصحافي والد الفتاة بأحد الجنرالات، الذي تربطه به صداقة انطلقت مع بداية السبعينيات عندما كان هذا الأخير يشتغل في الزايير، وتم طي الملف وأقبر إلى اليوم. وأعرف صحافيا مشهورا بأعمدته المثيرة للجدل، يغير الجرائد مثلما يغير جواربه، اشتهر بالدفاع عن حقوق المظلومين والبسطاء، لكنه في خضم انشغالاته بتحرير أعمدته حول حقوق الخادمات نسي وتسبب في حمل خادمته. ولولا تدخل مسؤول كبير في الداخلية لطي هذه الفضيحة، لوجد صاحبنا نفسه أمام القضاء في مواجهة خادمته التي تحمل نسله. ومن غرائب الصدف أن صديقنا الصحافي عندما خرج سالما من هذه الفضيحة، أول شيء قام به هو تصفية حسابه مع المسؤول الذي انتشله من الوحل الذي كان سيجرجر فيه. وأعرف صحافيا يدير أسبوعية، لعبت الخمرة برأسه في أحد الفنادق التي كانت تتبادل مع جريدته الإشهار بالغرف المجانية في الصويرة، وحاول استدراج فتاة إلى غرفته بالفندق عن طريق القوة. فحضرت الشرطة وعاينت الصحافي المخمور وسجلت محضرا من أجل المتابعة. لكن تلفونا عاجلا جاء من مكان ما لينقذ الصحافي من الورطة وتم «ضمص» القضية. وأعرف صحافيا مشهورا بالدفاع عن حرية التعبير، ضاقت زوجته ذرعا بخياناته المتكررة، وقررت أن تفضحه. فترصدت خطواته إلى أن عرفت مكان تواجده مع خليلته، فاتصلت بالشرطة وضبطته في حالة تلبس. وبقدرة قادر، تحركت الهواتف من جديد وتم تخليص الصحافي الهمام من تهمة الخيانة الزوجية. وهكذا، انتزعت الزوجة الطلاق و«سمحت» في زوجها للعشيقة وتم طي الملف حرصا على سمعة الصحافي وسمعة المؤسسة الإعلامية التي يديرها. وأعرف صحافيا مشهورا تعود الكتابة حول منتجع سياحي في عين الذياب بالدار البيضاء، إلى درجة أن صاحب المنتجع خصص له غرفة مجانية بأكلها وشرابها. المشكلة بدأت عندما اكتشف الصحافي أن صاحب المنتجع يتحرش بزوجته، فطلقها وأصبح يأتي إلى المنتجع ليشرب ويسب مديره. وذات يوم، طلب الصحافي وهو في قمة نشوته إحضار المدير لأنه يريد تصفية الحساب معه، فتدخل رجال الحراسة لإخراجه، فانتفض الصحافي وأخذ صحنا وقذف به، غير أن الصحن عوض أن يصيب المدير أصاب أحد القضاة كان جالسا مع زملائه في الطاولة المجاورة، وأصاب معه أحد الحراس بجروح في رأسه. فقامت القيامة وتحركت التلفونات من جديد، وتنازل القاضي عن حقه، غير أن مدير المطعم وضع شكاية يتهم فيها الصحافي بمحاولة قتل حارسه. وإلى اليوم، لم تتحرك الشكاية؛ وبالمقابل، رأينا كيف أصبحت جريدة الصحافي تغازل جهاز الأمن وجهاز القضاء بمناسبة وبدونها. وأعرف مدير أسبوعية متخصصة في نشر الأخبار الخاصة للسياسيين والمسؤولين ورجال الإعلام، بدون ذكر الأسماء أو المصادر، كتب ذات يوم خبرا حول مسؤول أمني في الداخلية، فقرر هذا الأخير الانتقام من الصحافي، وبدأ يتربص به الدوائر. وعندما جاءه خبر وجود صاحبنا مع عشيقته في منزلها، أخذ رجاله وداهموا المنزل واعتقلوا الصحافي وعشيقته وحجزوا المشروبات الروحية التي كانت فوق الطاولة واقتادوهما إلى مخفر الأمن. ولم يكتفوا باعتقالهما بل اتصلوا بزوجة الصحافي التي كانت مسافرة خارج المغرب لإخبارها بالفضيحة. وكما هي العادة، عادت الحرارة إلى الهواتف السرية وتم إخراج الصحافي من القضية كما تخرج الشعرة من العجين واختفى الملف من رفوف المحكمة بالرباط، وعاد الصحافي إلى جريدته «يفضح» أسبوعيا فساد النخبة والمسؤولين. سيقول قائل إن الجميع من حقه أن يفعل ما يشاء بحياته الخاصة، وسأقول له آمين. لكن الذي ليس من حق هؤلاء هو إعطاء الدروس للآخرين في افتتاحيات جرائدهم حول النزاهة وتطبيق القانون، لأنهم يعرفون قبل غيرهم أنهم استغلوا نفوذهم كصحافيين للإفلات من المتابعة التي كان سيخضع لها أي مواطن بسيط آخر. وهؤلاء الصحافيون يعرفون أنفسهم جيدا ويعرفون أيضا المسؤولين الذين حموهم ووقفوا إلى جانبهم، ونحن أيضا نعرفهم. فالإشكال الذي يطرح نفسه في هذه الأمثلة التي ذكرتها ليس هو «الفضائح» الأخلاقية التي تورط فيها هؤلاء، وإنما كونهم استفادوا من تدخلات جهات في السلطة للتغطية عليهم. وهذا في الأنظمة الديمقراطية، التي يطالب هؤلاء الصحافيون بتطبيقها في المغرب، لديه اسم، إنه استغلال النفوذ. واستغلال النفوذ لا يوجد فقط في السياسة أو الاقتصاد وإنما أيضا في مجال الإعلام، بل إن أخطر نوع من أنواع استغلال النفوذ هو استغلال النفوذ الإعلامي. فعندما يقبل الصحافي بأن يستعمل شهرته وسلطته للتغطية على أخطائه وفضائحه، فكيف تحق لنا محاسبة الآخرين عندما يمارسون الشطط في استعمال السلطة السياسية أو الأمنية أو القضائية. ربما حان الوقت لكي يعرف بعض الصحافيين المغاربة أنهم ليسوا ملائكة ولا أنبياء معصومين من الخطأ. كما أنهم ليسوا مقدسين، ومن حق الصحافة أن تنتقدهم عندما يكتبون فيخطئون. كما أن الوقت قد حان لفتح نقاش صريح حول العلاقة بين الصحافة والمؤسسة الملكية، وأن نطرح جميعا سؤالا واضحا هو التالي: «هل لكي تكون صحافيا في المغرب يجب أن تكون أولا ضد الملك». لماذا هذا السؤال؟ لأن ملك المغرب هو الوحيد في العالم الذي اتهمته صحافة بلاده بتقاضي الرشوة، مثلما صنعت المرحومة «الصحيفة» وحكمت على نفسها بالإعدام؛ وملك المغرب هو الوحيد في العالم الذي كتبت صحافة بلاده عن أمه بشكل مخجل، كما صنعت «الأيام» واعتذرت برسالة إلى الديوان الملكي؛ وملك المغرب هو الوحيد في العالم الذي نشرت عنه صحافة بلاده إشاعات في شكل أخبار حول حالته الصحية، وقدمته كملك يخفي عن شعبه مرضا خطيرا، كما صنع جل الصحافيين المتابعين اليوم أمام القضاء. أعطوني ملكا واحدا في العالم اتهمته صحافة بلاده بكل هذه التهم الثقيلة، ومع ذلك استمر في السماح بصدور هذه الصحافة. سؤال جدير بالتأمل، أليس كذلك؟