يعكف مساعدو الرئيس الأمريكي باراك أوباما على بلورة مبادرة سلام جديدة للصراع العربي الإسرائيلي، من المتوقع إماطة اللثام عنها أثناء انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في الثلث الأخير من شهر سبتمبر المقبل. السيناتور جورج ميتشل، المهندس الحقيقي لهذه المبادرة، يفضل العمل بسرية مطلقة، بعيداً عن وسائل الإعلام، لكن ما تسرب عن هذه المبادرة حتى الآن من تقارير يوحي بأنها سترتكز، في معظم بنودها، على مبادرة السلام العربية مع بعض التعديلات الجوهرية، أي إسقاط حق العودة وإيجاد صيغة «ملتبسة» لوضع القدسالمحتلة بجعلها عاصمة للدولتين، أي إبقاء وضعها الحالي مع تغييرات تجميلية طفيفة. التدرج في التطبيق سيكون سمة المرحلة المقبلة، حيث من المتوقع أن يتم قلب المبادرة العربية، بحيث يصبح التطبيع مقدمة للانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة، تلبية لشروط بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي. وهذا ما يفسر الضغوط الأمريكية المكثفة على الدول العربية، خاصة في منطقة الخليج والمغرب العربي، من أجل الإقدام على خطوات تطبيعية «أولية» مقابل تجميد نتنياهو لتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية وليس القدسالمحتلة، مثل فتح مكاتب تجارية والسماح لطائرات «العال» الإسرائيلية بعبور الأجواء العربية بكل حرية. ضغوط إدارة أوباما هذه يمكن أن تعطي ثمارها في الأسابيع المقبلة، ومن غير المستبعد أن نرى مصافحات واجتماعات وتبادل ابتسامات بين مسؤولين وزعماء عرب ونتنياهو على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، لكسر الجليد، تتلوها خطوات عملية دبلوماسية. التحضيرات في الجانب الفلسطيني تسير على قدم وساق في هذا الإطار، وبطريقة مدروسة بعناية فائقة، ووفق توجيهات أمريكية أوربية، بمباركة إسرائيلية غير مباشرة، بحيث يكون البيت الفلسطيني الداخلي مهيأً للمبادرة الجديدة بشكل جدي ومتكامل. ويمكن تلخيص هذه التحضيرات في مجموعة من النقاط، جرى استقراؤها من تطورات الأشهر القليلة الماضية: أولاً: أقدم السيد محمود عباس، رئيس السلطة في رام الله، على عقد المؤتمر العام لحركة «فتح» و»انتخاب» لجنة مركزية جديدة تضم أربعة من القادة الأمنيين السابقين، وتستبعد معظم رموز الحرس القديم المعارض لنهج أوسلو، بطريقة أو بأخرى، مع الإقرار بأن بعض الأعضاء الجدد يتمتعون بسمعة وطنية جيدة واستقلالية في الرأي، ولكنهم يظلون أقلي؛ ثانياً: نجاح السيد عباس في عقد جلسة طارئة للمجلس الوطني الفلسطيني «بمن حضر» من أجل استكمال شرعية اللجنة التنفيذية للمنظمة، بانتخاب ستة أعضاء جدد. واللافت أنه تمت إضافة أبرز شخصيتين مسؤولتين عن ملف المفاوضات إلى عضوية اللجنة، وهما السيدان أحمد قريع (أبو علاء) وصائب عريقات. وهذا يعني أنهما سيتفاوضان في المستقبل على أساس خطة السلام الجديدة، ليس على أنهما يمثلان حركة «فتح»، وإنما باسم منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني؛ ثالثاً: إعلان السيد سلام فياض، رئيس الوزراء الفلسطيني، عن خطته الجديدة لإنجاز البنى التحتية للدولة الفلسطينية التي توقع قيامها في غضون عامين، وهذه البنى من شقين: الأول أمني يتمثل في بناء قوات أمن فلسطينية وفق المواصفات الأمريكية وبإشراف الجنرال الأمريكي دايتون، ومباركة إسرائيلية أردنية مصرية فلسطينية؛ والثاني اقتصادي يركز على كيفية تحسين الظروف المعيشية لأهل الضفة الغربية، بحيث ينسون الانتفاضة ويبتعدون بالكامل عن المقاومة باعتبارها مصدر عدم استقرار ومعاناة للمواطنين. إن أخطر ما نجح فيه المحيطون بالرئيس الفلسطيني محمود عباس، وبتخطيط من قبل توني بلير، «مبعوث السلام» الأوربي، هو حصر القضية الفلسطينية في «الضفة الغربية» فقط وإسقاط جوهرها الرئيسي، ألا وهو «قضية اللاجئين»، وتحويلها إلى مسألة اقتصادية صرفة محكومة بمعدلات الأحوال المعيشية لسكان الضفة. فالمقارنة لا تتم حالياً بين أوضاع الشعب الفلسطيني في ذروة انتفاضتيه الأولى والثانية، أو المرحلة التي سبقتهما وتمثلت في إطلاق الرصاصة الأولى عام 1965 عندما كانت الضفة الغربية والقطاع في أيد عربية، وإنما المقارنة الآن بين كيفية تدهور الأوضاع الأمنية والمعيشية في قطاع غزة تحت حكم «حماس»، وازدهارها في الضفة الغربية تحت حكم السلطة. الأوضاع في غزة متدهورة اقتصادياً، منضبطة أمنياً، التدهور الاقتصادي بسبب الحصار الخانق الذي نسيه العالم بطريقة تآمرية متعمدة، والانضباط الأمني جاء بسبب القبضة الحديدية لشرطة «حماس»، وشاهدنا بعض جوانبها في اقتحام مسجد ابن تيمية في مدينة رفح «لاجتثاث» حركة أنصار جند الله، بطريقة دموية غير مسبوقة، ومنع أي عمليات فدائية أو إطلاق صواريخ من القطاع. أما الازدهار الاقتصادي في الضفة فمرده تدفق المليارات على السلطة من أمريكا وأوربا والدول العربية، والأخيرة «تسخو» في العطاء استجابة لتعليمات أمريكية وليس تلبية لنداء الواجب. ولكن هذا الازدهار هو تطبيق حرفي لخطة نتنياهو، ومن قبله توني بلير لما يسمى ب»السلام الاقتصادي»؛ وهو السلام الذي يعني، عملياً، نسيان ثوابت القضية الفلسطينية، ولو بشكل مؤقت. السؤال الذي يرفض أي طرف الإجابة عنه هو كيفية وشكل الدولة الفلسطينية الموعودة في ظل وجود 249 مستوطنة إسرائيلية يقيم فيها نصف مليون مستوطن، علاوة على ستمائة حاجز إسرائيلي تحت ذريعة حفظ الأمن؟ الجدل «البيزنطي» الدائر حالياً ليس حول ما إذا كانت هذه المستوطنات شرعية أو غير شرعية، وإنما حول النمو الطبيعي فيها وما إذا كان هذا النمو شرعياً مقبولاً كلياً أو جزئياً، والثمن الذي يجب أن يدفعه العرب «تطبيعاً» مقابله. التطور الأبرز الآخر الذي يتبلور حالياً هو نجاح «الابتزاز» الإسرائيلي في فرض شروطه، ليس على صعيد إسقاط حق العودة، و»تمييع» قضية القدسالمحتلة فقط، وإنما بربط أي «تجميد مؤقت» للاستيطان بفرض حصار بحري وجوي وأرضي يشل إيران كلياً، تجاوباً مع هذا «التنازل» الإسرائيلي الكبير. أي مثلما جرى استخدام مؤتمر مدريد للسلام للتغطية على ضرب العراق وتدميره وحصاره عام 1991، يريدون ربط المبادرة الأمريكيةالجديدة للسلام بقضية المفاعل النووي الإيراني، أي تفكيك هذا المفاعل بالحصار أو العمل العسكري مقابل وعود، مجرد وعود، بحل أمريكي للقضية الفلسطينية وفق معادلة عدم إغضاب إسرائيل واسترضاء عرب الاعتدال. الربط، هنا، ليس بين مفاعل نووي إسرائيلي ينتج 300 رأس نووي حتى الآن، ومفاعل إيراني ما زال «جنيناً» لم يولد بعد، وإنما بين المفاعل الأخير وحزمة من التنازلات العربية عن ثوابت فلسطينية مقابل وعود بالتسوية، سمعنا الكثير مثلها في السابق، تبخرت تباعاً بعد تحقق الأهداف الأمريكية من جراء إطلاقها. المشكلة الكبرى تكمن حالياً في ضعف معسكر الممانعة العربي وتآكل معسكر الممانعة الفلسطيني، فسورية مشغولة حالياً بكيفية تحييد أمريكا من خلال الانفتاح عليها واستقبال وفودها، والانشغال في ملف تشكيل الحكومة اللبنانية، وكأنه قمة الملفات الإقليمية المصيرية. أما حركة «حماس» فباتت غارقة في «مصيدة» قطاع غزة، وكيفية توفير لقمة العيش لمليون ونصف مليون فلسطيني، وفتح قنوات مع الغرب تحت عنوان إطلاق سراح الأسير الإسرائيلي شاليط. حركة «حماس»، وللأسف الشديد، لم تعد ترفع راية المعارضة بالقوة المتوقعة منها كحركة إسلامية مجاهدة، وأساء اليها كثيرا أحد أجنحتها الذي يسعى إلى اعتراف الغرب، ويجري اتصالات معه، بل ويشارك في مؤتمرات تضم إسرائيليين في جنيف للايحاء بأن الحركة واقعية معتدلة يمكن التعامل معها وتسليمها الحكم. القضية الفلسطينية، بشكلها الذي نعرفه، موضوعة حالياً على مشرحة طبيب «التجميل» الأمريكي، لكي يعيد رسم ملامح جديدة لها، يقوم خبراء التسويق العرب، والفلسطينيين خاصة، ببيعه للمخدوعين بالسلام الاقتصادي والأمن المنضبط والاقتصاد المزدهر في الضفة الغربية.