أصبح الاهتمام بما بعد الحداثة في المغرب أشبه بالهوس الثقافي الجماعي، من الفلسفة والفكر، مرورا بالفنون التعبيرية المختلفة، وصولا إلى التزيين واللباس والديكور المنزلي، فكل ذي صيحة في فرنسا، المشبعة بالقيم الحديثة، يجد له شيعة بين ظهرانينا نحن المشبعين في المقابل بقيم ما قبل الحداثة، يحملون صيحته على شاكلتهم ويقولون في هذه الصيحة أو يتقولون، على الأصح، ما لم يخطر ببال أصحابها، وإن هم إلا يظنون. هكذا، نجد من يعتبر خربشاته بالخطوط والألوان «تجريدا أو سوريالية»؛ وفي الشعر أيضا، نجد من يعتبر المفرقعات اللغوية والرجم بالكلمات على عواهنها « قصيدة نثرية أو أدونيسية»؛ الأمر نفسه في الرواية، إذ نجد كَتَبة من نوع «طيابات الحمام»، لا يترددون في تبرير البذاءة والسوقية بكونها «رواية جديدة»، وهكذا دواليك في الأشكال التعبيرية الأخرى.. أما في مجال الفكر والفلسفة، فإن ما بعد الحداثة أصاب في قلوب أغلب مثقفينا هوى، يسهل إيجاد مرجعية له في أوربا المتجددة باستمرار، لكن يصعب أن نجد له الأرضية التاريخية التي قد تحتضنه عندنا، ليمارس فيها تأثيره النقدي والتفكيكي، لسبب بسيط نصوغه استنكاريا كما يلي: هل يحق لنا أن ندافع عن قيم تنتقد الحداثة كانتقاد الأوربيين لها، وهم الذين عاشوا في أحضانها منذ ما يزيد على ثلاثة قرون؟ هل يحق لنا أن نغمض أعيننا على ظواهر اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية تنتمي إلى ما قبل الحداثة في أكثر التصنيفات تفاؤلا، وندعي وصلا بما بعد الحداثة؟ أليست هذه سكيزوفرينيا؟ إنه لأمر محير.. بل وسمج أيضا، نلوك أطروحة هربريت ماركيوز «الإنسان ذو البعد الواحد»، المستلب بالعقل الأداتي، ونحن لازلنا نستورد الأداة بل ولازلنا على دهشة آبائنا تجاهها، فننتقد إنسانا لم يتحقق قط في بلادنا، لندافع عن آدميته المتنوعة والمختلفة، بل إن منا من ينعى إلينا «الإنسان» مع أن ولادته عندنا مؤجلة إلى حين، وننتقد مع «ألان تورين» الحداثة، ونُطعم أطروحاته بفسيفساء من أطروحات أخرى لشبنغلر وهايدغر وهوسرل وهوركهايمر.. مع أن مظاهر ما قبل الحداثة تلُفنا أينما ولينا وجوهنا، ومنا أيضا من يردد مع «فيرابند» عنوان كتابه «وداعا ياعقل»، ونحن لم نجرب بعد فضيلة أن نفكر به بشكل منهجي سليم.. إنها أزمة مثقفين وثقافة وأزمة مجتمع في المحصلة، مجتمع تتحسس نخبته طريق الكونية عبر التهجية، إلا أنها تتهجى دون تمييز، ودون إدراك أن الفكر مسؤولية، وليس موضة تتغير بتغير نسق الفكر الغربي، فمادام مجتمعنا غير عقلاني في عموم ظواهره، فالدعوة إلى العقلنة والتحديث تبقى ذات مغزى، هذا هو درس الأستاذ عبد الله العروي. هكذا يعيش المثقف والباحث و الأكاديمي المغربي هواجس عالمين منفصلين، هواجس التخلف واللامعقول في مناحي حياته اليومية، وهواجس تفكيك الحداثة وتقويضها وتجاوزها إلى غير ذلك من المرويات والمقروءات، فينفعل بالثاني كما لو كان يعيش فعليا في مجتمع حداثي. يتعلق الأمر، هنا، بنخبتين من مثقفي هذا البلد: نخبة محافظة ترى في مراجعة مفاهيم العقلانية والتقدم والموضوعية والواقع وغيرها، انتصارا لعقائد تراثية تمتح من الأصالة والخصوصية والهوية، لذلك يستهويها جدا أن تشرح وتفسر وتلخص أطروحات فلاسفة ومفكري ما بعد الحداثة، بمنطق «شهد شاهد من أهلها»، شهود غربيون يقرون بفشل مشروع الحداثة، مع أن «ألفباء» الحداثة، كما تظهرها مثلا رواية أمبرتوإيكو «اسم الوردة»، تبين بوضوح شديد أن الغرب في القرون السالفة كان ينظر إلى ثقافة المسلمين على أنها ثقافة كفار، تماما كما نحن عليه اليوم، لكنه عندما ميز بين الكافر وثقافة الكافر، وترك الأول وأخذ الثانية، بدأت نهضته.. ألم يكن هذا هو الدرس نفسه الذي برع فيه ابن رشد؟ ونخبة أخرى، ترى العصرنة الفكرية من خلال القفز من موقف إلى نقيضه، فقط لتظهر بمظهر المعاصرة، فتعتبر ديكارت وكانظ وهيغل... فلاسفة ميتافزيقا، وترمي تراثا كونيا لا يزال سبر أغواره تحديا للغرب نفسه، فكيف بنا ونحن نقرر في أمر هؤلاء ونحن لم نجرب أن نفكر ببداهة ديكارت وعقلانية كانط وجدلية هيغل..، مع أن مشروع ما بعد الحداثة هو مشروع في الحداثة نفسها، هو سؤال عن الحداثة، فعبر السؤال عنها ونقدها تتشكل رؤية أخرى ذات صلة.. يخطىء من لم يرَ هذه الصلة بين الحداثة وما بعدها، هذا في الغرب المشبع بالقيم الحديثة، أما عندنا فقصة وحكاية تختزن فصولها خيباتنا ونكساتنا ونحن نتهجى الحداثة.