هي مدينة أكثر من فاتنة، جمالها خرج من تحت رماد زلزال أرضي عنيف حولها ذات ليل من 29 فبراير من سنة 1960 إلى مقبرة جماعية لحوالي 15 ألف قتيل، فتحولت أكادير من جوهرة ضحوكة إلى مدينة تحمل على كتفيها ما يفوق الأسى والحزن، .... واليوم وبعد قرابة 50 سنة على حادث الزلزال لازالت المدينة تقاوم التنفس تحت رمادها، هي التي تزينت خلال هذه السنين الطويلة لأكثر من سائح وفتنت أكثر من زائر. عبيد الخدمة السياحية ومآل ملايين القطاع العمل في فنادق أكادير يشبه العمل بمعامل السكر التي شيدها السلطان السعدي محمد الشيخ، فالإجهاد وطول ساعات الاشتغال والتعب وهزالة الأجور وضعف التغطية الصحية مع انعدام الترقية، أبرز معالم العمل بقطاع يتوارث العاملون به قساوته أبا عن جد، فالعديد من الشبان والشابات الذين يعملون اليوم بفنادق المدينة يتحدرون من الجيل الأول والثاني الذي اشتغل بنفس الفنادق قبل وبعد الزلزال. «المغاربة والإعلام لا يعرفان ما يقع داخل فنادق أكادير، نتحمل أكثر من شتيمة وأكثر من إهانة طول اليوم، وننتظر آخر الشهر بفارغ الصبر، لنحصل على أجر هزيل لا يغطي حتى مصاريف التنقل، ومع ذلك نُجبر على الابتسامة»، هكذا علقت سميرة العاملة بفندق كبير بأكادير، قبل أن تسرد معاناة عاملات «الميناج» بالغرف بقولها:»نتعرض باستمرار للتحرش الجنسي ولا نستطيع التبليغ عن ذلك، وأكثر من مرة يحاول السائح الأجنبي الانتقام منا كأن ينسج روايات من خياله تتعلق بسرقة أو بنظافة السرير، ومع ذلك تُقبل شكواه ويتم تعويضه مع معاقبتنا». هناك اليوم فنادق بأكادير تابعة لمجموعات سياحية فرنسية وإيطالية وإسبانية كبرى كلها تعتمد مواصفات أوربية في خدمة البيع، ومن ذلك التعويض التام لمصاريف العطلة في حالة ما وجد السائح مواصفات غير تلك التي يتم بيعها له، والأمر هنا يتصل بكل التفاصيل الدقيقة من جودة الأكل ونظافة الغرف ونوعية الخدمات المقدمة له، يكفيه إن لم يكن مقتنعا بشيء ما أن يقدم شكوى كتابية يعرض فيها سبب عدم اقتناعه حتى يتم تعويضه نقدا لدى عودته، وهذه العملية أصبحت عملة رائجة لدى عدد من السياح الذين يجدونها ذريعة ووسيلة من وسائل النصب الحديثة التي يذهب ضحيتها عدد كبير من بسطاء العاملين المغاربة. بأكادير وحده فندق شهير تابع لمجموعة فرنسية كبرى يسجل نسبة ملء أسبوعية تتراوح بين 90 و100 بالمائة، أي ما بين 900 و 1000 سائح فرنسي، يأتون لمدة أسبوع واحد بقرابة 600 أورو تشمل الطائرة ذهابا وإيابا والنقل ما بين المطار والفندق و4 وجبات أكل يومية مع مشروبات غازية وكحولية بالمجان وعلى مدار الساعة من السابعة صباحا حتى منتصف الليل، مع خدمات مجانية أخرى كقاعة الرياضة وعلبة الليل والتنشيط والترفيه وملاعب التنس وشاطئ خاص بجانب فرق تنشيط تتكفل بالأطفال والرضع، كما أن هذه الخدمات بما فيها الأكل تخضع لمواصفات أوربية من حيث الجودة العالية التي تنافس خدمات الفنادق العالمية، خاصة بتونس وتركيا ومصر. الفنادق التابعة للمجموعات السياحية الأجنبية بأكادير اضطرت قبل سنين قليلة إلى الاصطفاف مع التنافسية الدولية التي توحدت خدماتها في بيع منتوج سياحي باسم «تو كومبري»، أي الكل محسوب في الثمن الذي تدفعه، وهي العملية التي ساهمت في جلب أعداد ضخمة من السياح، لكن أضرت بالاقتصاد المحلي وبالسياحة المغربية، حيث إن كل الأموال المتحصلة من هذه الخدمة لا تدخل التراب الوطني، فيما قطاعات واسعة من البازارات والمطاعم ووسائل النقل السياحي أصبحت في شبه عطالة جراء ذلك. سياحة «توكومبري» «وزارة السياحة المغربية لا يهمها ما يصرفه السائح الأجنبي فوق ترابنا الوطني، همها الأساسي هي الأرقام التي تسجل سنويا ارتفاع عدد السياح الوافدين على مملكتنا»، هكذا علق أكثر من صاحب مطعم للأكل بمدينة أكادير التي كانت في السابق تعرف بجودة مطاعمها وبطبخها الذي ينهل من أكبر مدارس الطبخ عالميا، وخلال السنوات السابقة كان الطلب كبيرا على قطاع المطاعم مما أفرز موجة استثمار قياسية من حيث العدد والقيمة. يقول نادل بأحد مطاعم المدينة: «انظروا إلى صفوف المطاعم، في السابق لم يكن بمستطاعك حتى إيجاد كرسي فارغ بشرفاتها وبصالوناتها، كما أن الفرق الموسيقية كانت تنشط على الدوام: عشاء وغداء الزبائن، أما اليوم فبالكاد نشتغل الليل كله مع طاولة أو اثنتين لا غير». بأكادير صعب على غير المتتبع للقطاع السياحي أن يفهم معادلة امتلاء الفنادق وفراغ المطاعم والبازارات، فالطائرات التي تأتي محملة بالسياح قبل أن تقلهم حافلات النقل السياحي نحو فنادقهم، هي نفس الحافلات ونفس الطائرات التي ترافقهم عند انتهاء عطلتهم، والقلة القليلة فقط تحزج إلى الشارع، فيما نسبة ضعيفة من هذه القلة من يشتري تذكارا أو قنينة ماء من الشارع. يقول أحد العاملين بأحد بازارات أكادير: «قبل سنين قليلة كان السياح بأكادير يشترون الألبسة الجلدية وملابس الصناعة التقليدية الأمازيغية و حتى قطاع المجوهرات انتعش مع فئة الميسورين، أما اليوم فنشهد زحف فئات اجتماعية أوربية من الطبقات المتوسطة وما دون المتوسطة، أغلبهم يشتغلون في قطاع البناء والمعامل، يأتون إلى أكادير ببساطة لأنها أرخص من تونس ومصر وتركيا وأحسن منها في الخدمات السياحية المرتبطة أساسا بالأكل وجودة التنشيط وروعة المناظر الطبيعية». قبل العمل بسياسة «تو كومبري»، أي الكل محسوب من الأكل والشرب والنوم وما جاورها، كان السياح بأكادير يتوفرون فقط على وجبتي فطور وعشاء، مما كان يضطرهم إلى الخروج للشارع وتجريب مطاعم المدينة, كل حسب ذوقه، كما أن المشروبات الكحولية والغازية كانت تضطرهم إلى أن يقصدوا المقاهي والبارات، فيما آخرون كانوا يدفعون مقابل هذه الخدمات داخل الفنادق التي كان صندوقها المالي ينتعش بالموارد المالية والعملة الصعبة، فيما العاملون في الفنادق كانوا يتحصلون نصيبا من خدماتهم عن طريق «البور بوار»أي البقشيش. يقول حسن نادل بفندق تابع لمجموعة فرنسية تعمل بسياسة «تو كومبري»:«في السابق كان البقشيش يساعدني على الأقل في أداء واجبات التنقل من بيتي نحو الفندق وشراء بعض الفاكهة والحليب لدى عودتي للأطفال، أما اليوم فأجرتي لا تساعدني حتى على استكمال 10 أيام في الشهر، نشتغل حتى 12 ساعة يوميا بلا توقف في خدمة السياح وملء كؤوسهم وصحونهم بالمجان مع واجب الابتسامة لهم حتى في آخر دقائق عملك اليومي العرق يتصبب من جبينك». يضيف حسن بصوت غالبه العياء بقوله:«البقشيش انتهى من قاموس السياح بعد أن أدوا مصاريف عطلتهم في أكادير ببلدانهم الأصلية، كل شيء في اعتقادهم بالمجان حتى تعبنا اليومي في خدمتهم، هناك سياح على قلتهم يتصدقون علينا بالقطع النقدية الصفراء كبقشيش، ومع ذلك نبتسم لهم رغم الإهانة والمذلة، فالكثير منهم يسجلون شكاوى مكتوبة ضد عاملين بسبب أنهم لم يوجهوا لهم التحية والابتسامة». سياحة الثراء والمشاهير بأكادير هناك اليوم أوراش مفتوحة لتهيئة وتزيين المدينة، فقد تم استحداث كورنيش على طول ساحل الشاطئ يربط مخارج الفنادق المطلة على البحر بشكل أفقي، كما يتم تحسين وتطوير شبكة التطهير السائل مع عمليات تبليط للشوارع السياحية وإحداث مقرات نظيفة للشرطة السياحية جانب خلق مدارات حضرية بنافورات تحمل بصمات التشكيل والإبداع. تهيئة الشوارع والمدارات الحضرية بأكادير قضت على أكشاك بيع الجرائد ومحتها من الوجود، كما تم خنق عملية السير والجولان نظرا لضيق المدارات الجديدة، وأمام هذه الأوراش الجديدة والمكلفة يتساءل مهنيو القطاع :لمن تتزين المدينة؟، فهذه الأوراش يجب أن يواكبها تصور شمولي لإنقاذ قطاع السياحة الذي هو أوكسجين حياة أغلب المهن الحرة والتجارة والخدمات بأكادير، فلا يكفي أن تكون لدينا مدينة نظيفة ومهيكلة ومنظمة بالتوازي مع ركود في حركية التجارة المرتبطة بالسياحة العالمية، على رأي أغلب التجار. بأكادير هناك إقامات وقصور لأكبر وأشهر العائلات الملكية والأميرية الخليجية، فبالمدينة ذاتها يختار الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود، ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع والطيران والمفتش العام في المملكة العربية السعودية، قضاء معظم أوقات السنة بها لظروف تتعلق أساسا بحالته الصحية، حيث ينصحه الأطباء بالمكوث بها نظرا لجوها المعتدل على مر السنة، ويرافقه في إقاماته الطويلة بها عدد كبير من مقربيه ومستشاريه وخدمه في قصر فاخر تحت حراسة عسكرية وأمنية مغربية جد مشددة. كما يفضل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح أمير دولة الكويت المكوث بأكادير في زيارات خاصة برفقة عائلته ومقربيه، كما أن عددا كبيرا من أثرياء الخليج العربي وكبار رجال الأعمال يأتون إليها في زيارات سياحية تقتصر على الإقامات الفخمة الخاصة أو فنادق الخمسة نجوم، في وقت تبقى المدينة قبلة ومنطلق سياحة الصيد التي تقل هؤلاء الأثرياء إلى الجنوب المغربي في رحلات صيد بالصقور العربية. فئة أخرى من الأثرياء يحجون إلى أكادير، كانوا في السابق من المغاربة الذين كانوا ينزوون في أركان فاخرة من فنادق الخمسة نجوم، يقضون النهار في الغولف والتنس وصالات التدليك، والليل في الكازينو والمطاعم الفاخرة، لكن هذه الفئة برأي المهنيين قلت أعدادها بالمقارنة مع السنوات السابقة، والسبب هو أن منطقة الشمال المغربي استقطبت هذه الفئة التي أصبحت توزع أوقاتها الصيفية بين طنجة وتطوان والجنوب الإسباني. ينتقد العديد من زوار المدينة التهيئة الحضرية الجديدةلأكادير والفوضى التي استحدثها اعتماد نظام جديد لعلامات المرور، والإكثار مع المبالغة في العمل بإشارات «ممنوع المرور» التي حولت شوارع المدينة إلى صفوف لا منتهية من السيارات، الواحدة تتبع الثانية في ازدحام لا منفذ له، فحتى سيارات الأجرة أصبحت جراء هذا النظام شبه متوقفة عن العمل، والسبب أن الزبائن أصبحوا يتحاشون النداء على سيارات الأجرة الصغيرة لمعرفتهم المسبقة أن الطريق التي سيسلكها السائق لإيصالهم نحو وجهتهم أصبحت 3 أو 5 مرات أطول كما كانت عليه في السابق. على مستوى الاستثمارات السياحية الفندقية، فالمدينة لازالت بها أوراش كبرى لبناء مركبات فندقية جديدة وجد راقية، فيما نفس الاستثمارات تكاد تكون منعدمة في القطاعات السياحية الموازية وأبرزها المطاعم المصنفة التي كانت مفخرة القطاع السياحي الأكاديري خلال الثلاثين سنة الأخيرة، أما كورنيش المدينة فقد استكملت الأشغال به بنسبة 80 بالمائة وربط طول الساحل الغربي لأكادير في خط أفقي جميل تمت تهيئته بكاشفات ضوء عالية التوتر تضيء الشاطئ والرمال ومحيط الفنادق المطلة على البحر خلال الليل. أكادير .. وسؤال استمرارية حلم مدينة كيف سيكون المغرب، افتراضا في يوم من الأيام، بدون أكادير؟فالمدينة نحتت علامتها وهويتها ضمن المغرب المتعدد واستطاعت اللعب في رهان دولي كبير واقتحمت المحافل والمعاقل الكبرى للسياحة العالمية ونجحت في صناعة بصمتها وركنها الحصين ضمن السوق السياحية الدولية. صحيح أن الطبيعة كانت في جانب ترجيح قوة انطلاقة المدينة سياحيا، لكن هناك الآلاف من الأيدي العاملة التي عملت خلال عشرات السنين في ظروف اجتماعية ومهنية قاهرة, وكانت لوحدها تحمل عبء السياحة الوطنية في صمت وتجاهل من أغلب المغاربة الذين كانوا يجهلون كيف أن عمال الفنادق كانوا يشتغلون ليل نهار ويبتسمون رغما عنهم للسائح لأجل هذا البلد فقط. القطاع السياحي الفندقي اليوم بالمغرب تلزمه إصلاحات هيكلية كبرى، تعيد الاعتبار للعنصر البشري وتمحو صورة وتقليد عقلية التشغيل التي لا تفرق بين التشغيل في الضيعات الفلاحية وبين تشغيل عاملات «ميناج» للغرف ونادلين يتم استعبادهم على مر السنة بدون حاجة إلى نظام للترقية الاجتماعية والتغطية الصحية والتأمين والتقاعد. مرة وأنا أعد هذا التحقيق قال لي عامل بأحد فنادق مدينة أكادير:«لو كان هناك عدل لكانت رواتب عمال الفنادق بالمغرب أحسن من رواتب مهندسي الدولة، ببساطة لأن أغلب الفنادق الكبرى كآبار البترول، عليكم أنتم رجال الصحافة أن تبحثوا عن مآل هذه الأموال التي تمر أمام أعيننا على مر السنة دون أن نعرف وجهتها». حاجة أكادير اليوم إلى نظام جديد للعمل السياحي يقطع مع نظرات الماضي ويعيد رسم هوية سياحية مهنية جديدة للمدينة تنهي زمن المطاعم والبازارات بمفهومها القديم، ذلك المفهوم الذي كان يعتمد على السائح الغني والفاتورة الدسمة وانتظار الهمزة، لأن أكثر شيء ينافس اليوم السوق السياحية بأكادير هو شواطئ شرم الشيخ والغردقة والبحر الأسود والبوسفور بتركيا وجزيرة جربة والحمامات بتونس، هناك حيث السياحة كالثعبان تجدد جلدها مرة واحدة في السنة.