مرة كتب الراحل عبد الكبير الخطيبي «لمغاربة ينظرون إلى الفرنسيين، والفرنسيون ينظرون إلى الأمريكيين، والأمريكيون ينظرون إلى بعضهم البعض». كانت تلك جملة قصيرة لخصت علاقات التبعية الثقافية المتسلسلة التي تنتهي آخر حلقة فيها عند الولاياتالمتحدة. وكما قال إغناسيو رامونيه مرة فإن العالم يتنفس الهواء الأمريكي، وكل هذا المنتوج الثقافي في العالم اليوم يرتهن إلى النمط الثقافي الأمريكي الذي يمتدح العنف والسرعة والفائدة والتركيز، عناصر ربما اجتمعت كلها في ثقافة الماكدونالدز. هذه السيطرة الثقافية الأمريكية على العالم لم تأت اعتباطا أو بمحض المصادفة، وإنما كان وراءها مشروع متكامل أطلق عليه مصطلح «السلام الأمريكي». دخلت الولاياتالمتحدة إلى الحرب العالمية الثانية عام 1941 بإعلانها الحرب على اليابان وفي أجندتها توسيع هيمنتها إلى ما وراء الانتصار العسكري، حيث تصبح الثقافة الأمريكية متغلغلة في كل تفاصيل الحياة اليومية في العالم، بصرف النظر عن الأديان أو الإيديولوجيات الحاكمة. ولم يكن مشروع مارشال، الذي قدمت فيه أمريكا المساعدات المالية السخية لأوربا الغربية لإعادة بناء ما هدمته الحرب، سوى جبهة أخرى من الغزو الأمريكي الذي انطلق بداية من أوربا قبل أن يعم في ما بعد باقي أنحاء العالم. كلما وصلت أوربا إلى مكان ما إلا ووصلت معها الثقافة الأمريكية، بهذا الشكل أصبحت أمريكا مسؤولة عن كل شيء وعن لا شيء في وقت واحد. هذا هو مضمون الكتاب المثير للجدل الذي أصدرته الكاتبة والصحافية الأمريكية فرانسيس ستونر سوندرز «من الذي دفع للزمار؟: المخابرات المركزية الأمريكية وعالم الفنون والآداب». اشتغلت الكاتبة على تأليف عملها طيلة سنوات عدة قضتها في التحقيقات وإجراء المقابلات والاطلاع على الأرشيفات السرية، وكشفت عن حقائق مذهلة بشأن الدور الذي قامت به المخابرات المركزية الأمريكية والبنتاغون والمؤسسات الرسمية الأخرى في رعاية مشاريع ثقافية جديدة والترويج لأنماط من الكتابة الأدبية مزدوجة الاهداف: تحصين العالم ضد الشيوعية، ممثلة آنذاك في الاتحاد السوفياتي، والتبشير بعالم جديد تقوده الولاياتالمتحدة، عنوانه الحرية والديمقراطية، أو تدشين عصر تنوير جديد، بتعبير المؤلفة، يقوم على أساس حاجة العالم إلى سلام أمريكي (باكس أميريكانا). وتقول الكاتبة إن وكالة المخابرات الأمريكية (سيا) أنشأت ما سمي ب «منظمة الحرية الثقافية»، التي كانت بمثابة «وزارة غير رسمية للثقافة» بالنسبة إلى أمريكا، وكان لها وجود في أزيد من 35 بلدا، يعمل فيها عشرات الموظفين وتصدر 20 مجلة ذات نفوذ واسع في مختلف أنحاء العالم، هدفها الدعاية للثقافة الأمريكيةالجديدة، حتى من دون علم أعضائها العاملين فيها أحيانا. وكان يكتب في هذه المجلات العديد من من بينهم أندريه مالرو صاحب رواية «الأمل» الذي كان وزيرا للثقافة في عهد الجنرال دوغول ثم مستشاره السياسي. وكانت المنظمة تشرف على المئات من المعارض الفنية والمؤتمرات الدولية وتخصص جوائز كبرى للكتاب والفنانين. وقد كان ذلك يجري من دون أن تظهر الأصابع الأمريكية أو الأموال الأمريكية في الواجهة، حيث كانت تلك الدعاية ترتكز، حسب ما تقول الكاتبة، على فكرة أن يتحرك الشخص ضمن المجال المرغوب فيه «لأسباب يعتقد أنها أسبابه». وبهذه الطريقة وجد الكثير من الكتاب الكبار في أوربا أنفسهم يعملون لصالح المخابرات الأمريكية من دون أن يدركوا ذلك، أمثال الروائي البريطاني جورج أورويل صاحب رواية «1984» التي ينتقد فيها النظام الشيوعي. وتكشف الكاتبة أن منظمة الحرية الثقافية كانت تنظم بين الحين والآخر لقاءات بين مختلف المثقفين أو حفلات كوكتيل لتجميعهم في مكان واحد، وأن بعض المثقفين الفرنسيين، أمثال جان بول سارتر صاحب رواية «الغثيان»، كان يتبرم من حضورها، إلى جانب سيمون دو بوفوار. تشير المؤلفة إلى أن كل تلك السياسات السرية التي كانت تقوم بها المخابرات الأمريكية ووزارة الدفاع كانت تسوق على أنها موجهة لمحاربة الشيوعية والتصدي لخطر الثقافة الشيوعية الحمراء، بينما هي في العمق موجهة نحو تكريس المزيد من السيطرة الأمريكية على العالم.