لقد اعتبر المجلس الدستوري في قراره سالف الذكر أن "تصويت مجلس المستشارين على مشروع قانون المالية ككل لا يلغي تصويته بقبول التعديلات المقدمة بشأن بعض مواد هذا القانون". وبناء عليه، فإن لجوء مجلس النواب -في إطار القراءة الثانية- إلى مناقشة مشروع قانون المالية لسنة 2014 بالصيغة التي أحيل بها عليه من طرف مجلس المستشارين، تم اعتبارُه إجراءً مطابقا لمقتضيات الدستور. من جهة ثانية، صرح المجلس الدستوري بأنه يحق للحكومة تقديم تعديلات جديدة في مرحلة مناقشة مشروع قانون المالية أمام مجلس المستشارين، معتبرا أن ذلك ليس فيه ما يمس بحقوق مجلس النواب الذي تعود إليه مناقشة هذا التعديل، المقدم في صورة تنقيح أو تغيير أو تصحيح أو حذف أو إضافة، والبت فيه بصفة نهائية. وأمام هذا الموقف، أصبح من حق الحكومة نقل جميع التعديلات التي تقدمت بها أمام مجلس المستشارين إلى مجلس النواب بغض النظر عن نتيجة التصويت عليها من طرف مستشاري الغرفة الثانية. رغم هذا القرار غير المسبوق في تاريخ الاجتهاد الدستوري ببلادنا وما حمله من تفصيل للمسطرة التشريعية بين مجلسي البرلمان، خاصة ما يتعلق بتفسير قاعدة التداول بين هذين المجلسين المنصوص عليها في الفصل 84 من الدستور، فإن صياغة الفقرة الأخيرة من المادة 52 من القانون التنظيمي الجديد للمالية المعدلة من لدن مجلس النواب جاءت مناقضة لتصريح المجلس الدستوري، حيث نصت على أنه "إذا وقع رفض المشروع من قبل مجلس المستشارين تحيل الحكومة على مجلس النواب المشروع الذي صادق عليه في القراءة الأولى مدخلة عليه التعديلات التي قدمتها الحكومة أو التي قبلتها بمجلس المستشارين". ويتبين من هذه الصيغة أن المشرع ذهب عكس المقترح الذي تبناه مجلس النواب أثناء دراسته لمشروع قانون المالية برسم سنة 2014 في إطار القراءة الثانية، والمتمثل في مناقشة المشروع كما أحاله مجلس المستشارين، وعكس ما قرره المجلس الدستوري بمطابقة هذه المسطرة للدستور. لهذا واستنادا إلى أن القوانين التنظيمية، قبل إصدار الأمر بتنفيذها، يجب أن تحال على المجلس الدستوري من أجل البت في مطابقتها للدستور، فقد صرح المجلس الدستوري في قراره رقم 950.14 المتعلق بالقانون التنظيمي رقم 130.13 لقانون المالية بأن الفقرة الأخيرة من المادة 52 من هذا القانون غير مطابقة للدستور. وقد بنى تصريحه هذا على مؤاخذتين: - تتعلق المؤاخذة الأولى بأنه إذا وقع رفض مشروع قانون المالية من طرف مجلس المستشارين، فإن النص الذي يجب إحالته على مجلس النواب في إطار القراءة الثانية هو الصيغة التي صوت عليها مجلس المستشارين بالرفض وليس المشروع الذي صادق عليه مجلس النواب في القراءة الأولى. وأجد في هذه المؤاخذة انسجاما مع ما سبق أن صرح به المجلس الدستوري في قراره رقم 931.13؛ - أما المؤاخذة الثانية فهي ترتبط بمدى أحقية الحكومة في نقل التعديلات التي قدمتها أو قبلتها بمجلس المستشارين إلى مجلس النواب في إطار القراءة الثانية. وقد اعتبر المجلس الدستوري في قراره أن الصيغة التي صوت عليها مجلس المستشارين بالرفض هي التي تحال على مجلس النواب دون أن تدخل عليها الحكومة في هذا المستوى أي تعديلات. وفي نظري، فإن الصيغة التي ورد بها رأي المجلس الدستوري فيها نوع من الغموض جعله في تناقض صريح مع ما سبق له (أي المجلس ذاته) أن قضى به في قراره رقم 931.13، حيث منح الحكومة الحقَّ في نقل جميع التعديلات التي تقدمت بها أمام مجلس المستشارين إلى مجلس النواب بغض النظر عن نتيجة التصويت عليها من طرف مستشاري الغرفة الثانية. ونظرا إلى أن قرارات المجلس الدستوري تعتبر نهائية وغير قابلة للطعن فيها من أي جهة كانت، فإنه يجب انتظار القرار القادم الذي سيصرح بمقتضاه المجلس بدستورية القانون التنظيمي لقانون المالية الذي سيحال عليه من جديد بعدما سيعمل المشرع على تعديل المواد المصرح بأنها غير مطابقة للدستور، وذلك من أجل توضيح هذا اللبس وإعادة الانسجام بين قرارات المجلس الدستوري. محمد المساوي * طالب باحث في سلك الدكتوراه/تخصص الاقتصاد الكلي والمالية العمومية - خريج السلك العالي للمدرسة الوطنية للإدارة