إن قرار المجلس الدستوري رقم 950-14 الصادر بتاريخ 23 دجنبر 2014، والمتعلق بفحص مدى مطابقة القانون التنظيمي لقانون المالية للدستور الجديد، يعتبر قرارا غريبا ومفاجئا من حيث بعض مضامينه وخلاصاته، وبخصوص المستنتجات الرئيسية التي جاءت في تصريحه النهائي. وإذا كانت قرارات المجلس الدستوري، الذي يمارس مهام المحكمة الدستورية المنصوص عليها في الدستور الجديد إلى حين تنصيبها، تعتبر نهائية وغير قابلة للطعن فيها من أية جهة كانت، فإن الأمر لا يمنع مناقشتها علميا وأكاديميا ودراسة مضامينها وحيثياتها، خاصة وأنها تعبر عن شكل تطبيق الدستور نفسه وتؤسس للممارسات الدستورية التي تكون، في العادة، أخطر من النص الدستوري نفسه. فبعد أن فصل المجلس الدستوري، خلال السنة الماضية، في المسطرة التشريعية بين مجلسي البرلمان، بمناسبة رفضه لطعن المعارضة في قانون المالية 2014، عاد في قراره الأخير ليتناقض جزئيا مع مواقفه، وليعيد الغموض والتعقيدات إلى المسطرة التشريعية، وذلك بمناسبة إصداره لقراره بخصوص مدى مطابقة القانون التنظيمي للمالية للدستور. فتفسيره للفصل 84 من الدستور لم يتضمن توضيحا للغموض الذي يلف مقتضياته، خاصة بعد تغيير المسطرة التشريعية التي تضمنها دستور 1996، بل إن قراره زاد هذا الفصل غموضا آخر على مستوى العلاقة بين مجلس النواب ومجلس المستشارين، وكذا على مستوى المسطرة التشريعية وحدود حق التعديل المخول للحكومة خلال القراءة الثانية بمجلس النواب، كما أنه لم يفسر معنى التداول البرلماني ولم يضع له أية حدود واضحة. وفي مقابل ذلك، نجد قراره هذا قد تناقض جوهريا، على هذا المستوى، مع قراره السابق رقم 931 بتاريخ 31 دجنبر 2013، وذلك في إطار بته في الطعن الذي قدمته المعارضة ضد قانون المالية 2014، والذي أقر فيه بدستورية جميع مواد القانون المالي المذكور، وبصحة المسطرة التشريعية المعتمدة على مستوى مجلس النواب في إطار قراءته الثانية لهذا المشروع. إعادة الغموض إلى المسطرة التشريعية بين مجلسي البرلمان تعتبر هذه النقطة من بين أهم المحاور المتعلقة بالتطبيق السليم للدستور وممارسة المؤسسة التشريعية لمهامها واختصاصاتها بشكل مطابق لروح ومضمون الفصل 84 من دستور 2011، فمجلس النواب أصبح الغرفة الأساسية المكلفة بالتشريع، وله سلطة البت النهائي في النصوص التشريعية، بما فيها مقترحات أعضاء مجلس المستشارين (باستثناء القانون التنظيمي المتعلق بمجلس المستشارين نفسه، والذي يحتاج إلى اتفاق بين المجلسين على نصه الموحد، وأيضا باستثناء ما ينص عليه نظامه الداخلي صراحة). ففي أواخر سنة 2013 تم التصويت في مجلس المستشارين على مشروع قانون المالية 2014 بشكل غريب وصادم أثار اندهاش جميع المتتبعين، حيث أدخل المجلس عشرات التعديلات على المشروع حتى دون موافقة الحكومة، وصوت على هذه التعديلات بالأغلبية العددية التي تمتلكها المعارضة هناك، وصوت أيضا بالإيجاب على عدد كبير من المواد، ليقوم في نهاية المطاف بالتصويت بالرفض على مشروع القانون المالي برمته؟؟ وعلى إثر ذلك، تمت إحالة المشروع على مجلس النواب من أجل القراءة الثانية، متضمنا جميع التعديلات التي صوت عليها مستشارو الغرفة الثانية، لكنه يتضمن بالمقابل عبارة: "مشروع قانون المالية كما عدَّله ورفضه مجلس المستشارين"، وهي عبارة أثارت استغراب واستهجان الجميع، بمن فيهم فرق المعارضة التي صوتت عليه في الغرفة الثانية للبرلمان. وطرح آنذاك إشكال حول هاته الصيغة ومدى مطابقتها للدستور، وأثير آنذاك نقاش قانوني عميق داخل لجنة المالية بمجلس النواب حول هاته الصيغة التي وردت من مجلس المستشارين وحول النص بمضامينه وبمجموع مقتضياته. وهنا يمكن القول إن قرار المجلس الدستوري رقم 931 لسنة 2013 كان قد حسم الشكل الدستوري للمسطرة التشريعية بين مجلسي البرلمان من جهة، ودقَّق في شكليات التصويت وفَصَل بشكل منهجي بين التصويت الجزئي على المواد والتصويت الإجمالي الذي يقع على النص برُمَّته، وهي قواعد مهمة ستمكّن من تجاوز عدد من الإشكالات المسطرية مستقبلا داخل المؤسسة التشريعية وفي علاقتها بالحكومة. ومن جهة ثانية، أعطى المجلس الدستوري تفسيرات إضافية تتعلق بطريقة التصويت، وميَّز بالتالي، في ما يتعلق بالآثار القانونية، بين التصويت الكلي والإجمالي على مشروع القانون برمته، وبين التصويت الجزئي على مواد المشروع بما يجعل أحكام هذه المواد والتعديلات الواقعة عليها صحيحة وقائمة بذاتها بغض النظر عن نتيجة التصويت على مشروع القانون برمته، وهو اجتهاد جديد بهذا الخصوص وجدير بالدراسة والتحليل. كما اعتبر أن التعديلات التي تمت مناقشتها بمجلس المستشارين تبقى قائمة بغض النظر عن التصويت النهائي الذي تم خلاله رفض مشروع قانون المالية، وفسح المجال خلال القراءة الثانية بمجلس النواب أمام دراستها وتعديلها والتصويت عليها، وسمح للحكومة بنقل جميع التعديلات التي تقدمت بها أو التي قبلتها، إلى مجلس النواب خلال القراءة الثانية، بغض النظر عن نتيجة التصويت عليها. وهنا كانت الأمور واضحة وجلية بخصوص ضبط المسطرة التشريعية بين مجلسي البرلمان، وخاصة على مستوى مشروع قانون المالية السنوي، إلا أن قراره الأخير الذي صدر خلال بته في مطابقة القانون التنظيمي لقانون المالية للدستور أعاد الغموض بشكل كبير إلى هذه المسطرة وإلى طريقة تطبيق أحكام الفصل 84 من الدستور، كما أنه لم يُضمّن قراره أية آثار قانونية واضحة. إعادة غير دستورية للقراءة الثانية لمجلس المستشارين؟؟ إن الحديث عن المسطرة التشريعية بين مجلسي البرلمان يعتبر ذا أهمية كبرى على هذا المستوى، فالدستور الجديد غيَّر بشكل جذري طريقة التداول بين المجلسين، وألغى المسطرة السابقة التي كانت تعيق العملية التشريعية وتطيلها بشكل غير منطقي، وأعاد إلى مجلس النواب سلطة البت النهائي في مشاريع النصوص التشريعية، سواء كانت قوانين عادية أو قوانين تنظيمية. إلا أن قرار المجلس الدستوري الأخير رقم 950 أعاد النقاش حول المسطرة التشريعية من جديد وكأن الدستور الحالي لم يحسمها ضمنيا عبر حذف القراءة الثانية واللجنة المختلطة، بل إن حيثيات القرار أعادت الغموض بشكل أكثر حدة من السابق بخصوص تطبيق أحكام الفصل 84 من الدستور وكذا تطبيق مقتضيات النظام الداخلي لمجلس النواب والذي يعتبر مفصِّلا لأحكام الدستور على مستوى المسطرة التشريعية. فبمقارنة الفصل 84 من الدستور الحالي مع الفصل 58 من الدستور السابق لسنة 1996، يتبين بجلاء الاختلاف الجوهري بين المسطرتين التشريعيتين، كما يتوضح حق مجلس النواب في البت والتصويت النهائي على هذه النصوص دون أي تقييد لهذا الحق، ولم تستثن منه إلا حالة التصويت على مشروع القانون التنظيمي لمجلس المستشارين نفسه، والذي لا يتم البت فيه من قبل مجلس النواب بشكل نهائي، وإنما يحتاج إلى قراءات متعددة من المجلسين حتى يتم التوصل إلى نص موحد بينهما. فالفصل 58 من الدستور السابق لسنة 1996 ينص صراحة على المساواة في السلطة التشريعية بين مجلسي البرلمان، وعلى ضرورة عرض مشاريع ومقترحات القوانين مرتين على كل مجلس بغية التوصل إلى نص موحد بينهما؛ وعند تعذر ذلك بعد قراءتين داخل كل مجلس، يتم تشكيل لجنة مختلطة بين المجلسين لاقتراح نص موحد بخصوص الأحكام المختلف بشأنها بين غرفتي البرلمان. وهي مقتضيات شبيهة إلى حد كبير بأحكام الفصل 45 من الدستور الفرنسي والتي لازالت سارية المفعول إلى حد الآن. أما الدستور المغربي الجديد لسنة 2011 فقد غير هاته المنهجية بشكل كامل، ورتب أحكاما جديدة تتعلق بالأساس بالبت والتصويت النهائي لمجلس النواب على مشاريع ومقترحات القوانين، وتم حذف القراءة الثانية بشكل واضح وصريح لا يحتمل أي تأويل، ونص بالمقابل على التداول بين المجلسين، وهي العبارة التي بقيت غامضة بخصوص مدلولاتها القانونية وحدودها. كما ألغى الدستور الحالي جميع الأحكام المتعلقة بتشكيل اللجنة المختلطة بين المجلسين، والتي كان ينص عليها الدستور السابق، بما يفيد بجلاء بأن القراءة النهائية تكون بشكل مطلق لدى مجلس النواب، باستثناء ما ينص عليه الدستور صراحة، ويتعلق الأمر هنا حصرا بمشروع القانون التنظيمي لمجلس المستشارين. أما ما تضمنه قرار المجلس الدستوري فمناقض لروح ومضمون الفصل 84 من الدستور الحالي؛ وتأكيده على ضرورة إعادة بعض المواد إلى مجلس المستشارين، لكي يبت فيها من خلال قراءة ثانية (أو ثالثة أو أكثر كما يستفاد من مضمون القرار)، يعتبر رجوعا إلى أحكام دستور 1996، وتعقيدا إضافيا للمسطرة التشريعية بشكل مخالف للدستور الحالي نفسه. بل إن قرار المجلس الدستوري لم يلتفت إلى مقتضيات النظامين الداخليين لمجلسي البرلمان، واللذين يفصلان أحكام الدستور، وقد صرح هو نفسه بمطابقة موادهما وأحكامها للدستور خلال قرارات سابقة. فالنظام الداخلي لمجلس النواب لا يسمح بإعادة أي نص إلى مجلس المستشارين من أجل القراءة الثانية، وينص صراحة على البت والتصويت النهائي على جميع مشاريع ومقترحات القوانين العادية والتنظيمية حتى ولو كانت مودعة بالأسبقية لدى مجلس المستشارين. عبد اللطيف بروحو *دكتور في القانون متخصص في العلوم الإدارية والمالية العامة