من القواعد البديهية في المعادلة التنموية ربطُ النمو الاقتصادي بالاستثمار. على أنه بقدرما تبدو هذه العلاقة واضحة وقوية، فإنها تطرح إشكالات عديدة ومعقدة على مستوى تفعيلها وترجمتها إلى سياسات استثمارية إيجابية تدفع بالنمو الاقتصادي والاجتماعي إلى الأمام. ويجد المغرب نفسه من الناحية الاقتصادية، في هذا الإطار، في مرحلة انتقالية، بين نمو ينبني على عوامل إنتاجية (الموارد الطبيعية، الأجور المنخفضة،...) ونمو ينبني على الاستثمار وفق مقاربة تنطلق من متطلبات الاستهلاك والأسواق، سواء الداخلية أو الخارجية. وهو يجد نفسه، أيضا، في إطار العولمة الاقتصادية يتقاسم إشكالات الخروج من البطالة والفقر والتخلف الصناعي مع دول عديدة سائرة في طريق النمو، تطمح، هي أيضا، إلى الدفع بعجلة نموها الاقتصادي من خلال جلب الاستثمارات الأجنبية؛ مما يجعل الطلب مرتفعا أمام العرض الاستثماري الدولي الذي أصبح يعرف ضغطا وتجاذبا إزاء الدول والأسواق التي تستأثر بالاهتمام. ويمكن القول، على هذا المستوى، إن سوق الاستثمار في العالم يعرف منافسة شرسة بين الدول التي تتنافس من أجل جلب رؤوس الأموال والمستثمرين إلى بلدانها كحل لا محيد عنه لمشاكل البطالة والفقر والتخلف. ويجد المغرب نفسه، في هذا السياق، أمام منافسين أقوياء، سواء في ضفة المتوسط وإفريقيا كتونس ومصر والجزائر وتركيا والأردن وإسرائيل وجنوب إفريقيا، أو في المنطقة الآسيوية كالصين وتايلاند وأندونيسيا أو أمام دول كالبرازيل وكولومبيا في مناطق أخرى في العالم... وفي هذا السياق، يمكن الوقوف على إنجازات المغرب في هذا المجال، بالرجوع إلى الحصيلة السنوية لحجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تلقاها والتي ارتفعت حسب مكتب الصرف المغربي، المؤسسة المكلفة بإحصاء التبادل التجاري والاقتصادي للمغرب مع الخارج، بنسبة 2.6 % خلال عام 2014، لتبلغ 28.4 مليار درهم (3 مليارات دولار) مقارنة ب27.7 مليار درهم (2.9 مليار دولار) خلال عام 2013. وبالنظر إلى حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة في العالم، والتي بلغت 1460 مليار دولار سنة 2013 حسب مؤتمر الأممالمتحدة للتجارة والتنمية (CNUCED)، (من المنتظر أن تبلغ هذه الاستثمارات حوالي 1600 م/د سنة 2014 و1800 م/د سنة 2015 دائما حسب نفس المؤتمر)، يمكننا فهم مدى تأخر المغرب في هذه المعركة الدولية، إذ لا يتعدى حجم الاستثمارات الدولية التي يجلبها أكثر من 0.2 %، وهو رقم أكثر من ضعيف، لا يشرف بلدنا ولا يمثل قدراتنا ومؤهلاتنا أمام المجتمع الدولي، خاصة بالنظر إلى طموحات بلدنا في الارتقاء إلى مصاف الدول الصاعدة. وعليه، لا بد لبلدنا من إعلان النفير العام، لما يكتسيه الاستثمار من أهمية قصوى في سلم وسائل تحقيق التنمية والنهضة الاقتصادية: فبدون استثمار، لا تنمية. ولعل الأرقام السالف ذكرها تثبت أن المغرب يعيش معركة شرسة خاسرة في هذا المجال، مما يجعلنا ندعو إلى تبني سياسة طموحة وقوية تهدف إلى جذب الاستثمار الخارجي. ويمكن أن نسطر في هذا الإطار هدف 1 % في أفق 2020، مما سيمكننا من استجلاب ما يقارب 200 مليار درهم، وهو ما ليس مستحيلا، بالنظر إلى ما تحققه بلادنا في شتى المجالات من إنجازات طموحة، كهدف ل20 مليون سائح، وهدف تغطية 40 % من الحاجة الوطنية إلى الطاقة بطاقة متجددة، وبناء أكبر ميناء متوسطي، وهدف تنظيم كأس العالم، وغيرها من الأهداف الطموحة والكبيرة التي نجحت بلادنا في تحقيقها ... وبلوغ هذا الهدف الطموح يبدأ من العمل على خلق عناصر قوة وجاذبية تميز العرض الوطني للمستثمر الأجنبي. وتتعدد عناصر التميز هذه على قدر نجاحنا في خلق السبق والإبداع في تقنيات التواصل مع المستثمر الأجنبي وتأطيره على طول سلسلة العملية الاستثمارية، والتي يجب التمييز فيها بين ثلاث مراحل زمنية، وهي: مرحلة ما قبل، ومرحلة خلال، ومرحلة ما بعد عملية الاستثمار: - ما قبل عملية الاستثمار: العنصر الأساسي في هذه المرحلة يتلخص في قدرتنا على تحديد واختراق مراكز ومؤسسات الاستثمار في العالم والتواصل مع المستثمرين بشكل فردي أو جماعي ومؤسساتي. ويرتبط النجاح في هذه المرحلة بمدى فاعلية دبلوماسيتنا الاقتصادية والسياسية في صناعة صورة إيجابية وقوية لبلادنا في الأوساط المالية والاقتصادية العالمية، وفي خلق شبكة علاقات خارجية، هدفها التعريف بمؤهلات المغرب وفرص الاستثمار والأعمال التي يوفرها للشركات والمستثمرين. وفي هذا المجال، يجب الخروج من مقاربة سلبية انتظارية إلى أخرى إيجابية اقتراحية، تعنى بتحديد مشاريع وفرص جاهزة للاستثمار (Clé en main) في المجالات التي يود المغرب فيها التقدم صناعيا واقتصاديا، ومن ثم الدخول في مفاوضات مباشرة مع فاعلين ومستثمرين يتم تحديدهم والاتصال بهم وإثارة اهتمامهم. ومن اللازم القول على هذا المستوى إن هذه العملية معقدة وجبارة وتتطلب وسائل ضخمة للدراسة والتواصل، ولكن أثرها بالتأكيد على المديين المتوسط والطويل هو أكثر فاعلية. - خلال عملية الاستثمار: يتعلق الأمر في هذه المرحلة بتأطير المستثمر ومواكبة مشروعه خلال عملية تنزيله على الواقع. ويدخل في ذلك تسهيل المساطر والحصول على التراخيص من المرافق العمومية المعنية وتوفير خدمات الخبرة والمساعدة في العلاقة مع كل الفاعلين المحليين، بما فيها المفاوضات مع البنوك والشركاء... وكل هذه الخدمات يتعلق النجاح فيها بمدى تفعيل الشباك الواحد، الذي صار من بين أهم المعايير الدولية في تقييم جودة مناخ الأعمال والاستثمار. ولعل من أهم التحديات في هذا المجال القضاءُ على الرشوة والمحسوبية والبيروقراطية الإدارية والابتزاز والحماية من الوسطاء المتلبسين... إلى غير ذلك من مختلف المفاجآت السيئة التي تتربص بالمستثمرين في بلادنا. - ما بعد الاستثمار: لعل المرحلة الأكثر خطورة في دورة حياة المقاولة هي تلك التي تبدأ مباشرة بعد تأسيسها، والتي تبدأ معها سلسلة من التبعات المتعددة، بما فيها الأجور وتسديد فوائد البنوك، وقروض الشركاء إلى غير ذلك من التكاليف العديدة... كل هذا في وقت لا تملك فيه المقاولة الجديدة بعد أسواقا تمكنها من تحقيق توازنها المالي. وعليه، فإن تأطير المستثمرين في هذه المرحلة الصعبة، والتي تعرف فيها الشركات أكبر معدل وفياتها، يكتسي أهمية بالغة من شأنها مساعدتهم على تجاوزها. هذا التأطير الذي يجب أن يصب في مساعدتهم على إيجاد اليد العاملة المؤهلة، وعلى النمو والإنتاج والاستيراد والتصدير، مع ضمان شروط العدل والأمن القانوني والضريبي والقضائي لهم. أبوالعراب عبد النبي *أستاذ جامعي، رئيس المركز المغربي للتنمية والديمقراطية