رقم قياسي .. أول ناد في العالم تتخطى عائداته المالية مليار أورو في موسم واحد    سيفعل كل شيء.. سان جيرمان يريد نجم ليفربول بشدة    بالأسماء.. تعيينات جديدة في مناصب عليا    تضارب في الأرقام حول التسوية الطوعية الضريبية    اتفاق مغربي موريتاني يفتح آفاق التعاون في قطاع الطاقة    رغم تراجع سعر النفط عالميا.. أسعار المحروقات تواصل التحليق بالمغرب    ما هو سر استمتاع الموظفين بالعمل والحياة معا في الدنمارك؟    "جثامين آلاف القتلى" لا تزال مفقودة تحت ركام المنازل في غزة، وذخائر غير منفجرة تمثل خطورة شديدة    ترامب يسعى لفرض "ضغوط قصوى" على إيران، فكيف ستبدو مع وجود الصين والمشهد الجيوسياسي المتغير؟        بسبب "التحرش".. حموشي يوقف شرطيا بالدار البيضاء عن العمل    تألق نهضة بركان يقلق الجزائر    نهضة بركان يسقط في فخ التعادل القاتل أمام أولمبيك آسفي    الأزمي: تصريحات وهبي حول مدونة الأسرة تفتقر للوقار    شرطة فاس تعتقل ثلاثيني بسبب التزوير وانتحال صفة محامي    توقعات مديرية الأرصاد لطقس يوم الجمعة بالمغرب    جوائز "الراتزي": "أوسكار" أسوأ الأفلام    الحكومة تحمل "المعلومات المضللة" مسؤولية انتشار "بوحمرون"    رئيس برلمان المجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط إفريقيا يطلع على الزخم التنموي بجهة العيون    خط بحري كهربائي بالكامل بين طريفة وطنجة    افتتاح السنة القضائية بمحكمة الاستئناف ببني ملال    نكسة جديدة للجزائر ودميتها البوليساريو .. مجلس الشيوخ الشيلي ينتصر لمغربية الصحراء    السكوري: تقوية التمثيليات الاجتماعية غاية.. ومناقشة "الترحال النقابي" قريبة    مفكرون يدرسون متن الجراري .. طلائعيٌّ وسّع مفهوم الأدب المغربي    عبد الصادق: مواجهة طنجة للنسيان    الشركة الوطنية للطرق السيارة توصي بتنظيم التنقلات قبل السفر بمناسبة العطلة المدرسية    الاتحاد الأوربي يدين اعتقال الجزائر للكاتب بوعلام صنصال ويطالب بإطلاقه    شخص يقتل زوجته بسبب رفضها للتعدد    السيمو يحاول تدارك ضجة وصفه في البرلمان الكوفية الفلسطينية ب"شرويطة"    شركة "باليراريا" تطلق أول خط بحري كهربائي بين إسبانيا والمغرب    طنجة المتوسط يعزز ريادته في المتوسط ويتخطى حاجز 10 ملايين حاوية خلال سنة 2024    الارتفاع ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    ترويج مؤهلات جهة طنجة في معرض "فيتور 2025" بمدريد    "الكوديم" يفرض التعادل على الجيش    الحكومة تكشف حصيلة "مخالفات السوق" وتطمئن المغاربة بشأن التموين في رمضان    الديون العامة المغربية: هل هي مستدامة؟    الجزائر تسلم 36 مغربيا عبر معبر "زوج بغال" بينهم شباب من الناظور    المغرب يستعد لاستضافة قرعة كأس أمم إفريقيا 2025 وسط أجواء احتفالية    المغرب يتألق في اليونسكو خلال مشاركته باليوم العالمي للثقافة الإفريقية    حركة "حماس" تنشر أهم النقاط التالية من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة    هناء الإدريسي تطرح "مكملة بالنية" من ألحان رضوان الديري -فيديو-    مصرع طفل مغربي في هجوم نفذه أفغاني بألمانيا    الدوحة..انطلاق النسخة الرابعة لمهرجان (كتارا) لآلة العود بمشاركة مغربية    تفشي فيروس الحصبة يطلق مطالبة بإعلان "الطوارئ الصحية" في المغرب    مانشستر سيتي يتعاقد مع المصري عمر مرموش حتى 2029    هل فبركت المخابرات الجزائرية عملية اختطاف السائح الإسباني؟    مدارس طنجة تتعافى من بوحمرون وسط دعوات بالإقبال على التلقيح    تعرف على فيروس داء الحصبة "بوحمرون" الذي ينتشر في المغرب    ترامب يعيد تصنيف الحوثيين منظمة إرهابية أجنبية    أخطار صحية بالجملة تتربص بالمشتغلين في الفترة الليلية    إوجين يُونيسكُو ومسرح اللاّمَعقُول هل كان كاتباً عبثيّاً حقّاً ؟    الأشعري يدعو إلى "المصالحة اللغوية" عند التنصيب عضواً بالأكاديمية    حادثة مروعة بمسنانة: مصرع شاب وإيقاف سائق سيارة حاول الفرار    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الموضة
نشر في المساء يوم 07 - 12 - 2014


‬سعد ‬سرحان
ذات ‬مرة، ‬دخلت ‬إحدى ‬تلميذاتي ‬إلى ‬الفصل ‬وهي ‬ترتدي ‬أسمالا ‬حقيقية. ‬الفتاة ‬من ‬أسرة ‬ميسورة، ‬بدليل ‬ملابسها ‬السابقة، ‬وهو ‬الأمر ‬الذي ‬لم ‬يفاقم ‬من ‬دهشتي ‬بقدرما ‬فعل ‬عدم ‬استغراب ‬أي ‬من ‬زملائها ‬ما ‬آلت ‬إليه. ‬قلت ‬مع ‬نفسي: ‬لا ‬بد ‬أن ‬حدثا ‬جللا، ‬لا ‬بد ‬أن ‬طارئا ‬رهيبا، ‬أو ‬لا ‬بد ‬أن ‬ارحموا ‬عزيز ‬قوم ‬ذل. ‬ثم ‬قررت ‬أن ‬أتحاشى ‬النظر ‬إليها ‬طيلة ‬الحصة، ‬وهو ‬القرار ‬الذي ‬نقضته ‬مع ‬أول ‬التفاتة. ‬كانت ‬تلميذتي، ‬رغم ‬مصابها، ‬تتصرف ‬بشكل ‬عادي ‬طيلة ‬أطوار ‬الدرس. ‬ولقد ‬أبدت ‬رباطة ‬جأش ‬تحسد ‬عليها ‬حين ‬طلبت ‬أن ‬تقوم ‬إلى ‬السبورة ‬لإنجاز ‬أحد ‬التمارين ‬التطبيقية. ‬ولكي ‬لا ‬أجعل ‬منها ‬عارضة ‬أسمال ‬فوق ‬مصطبة ‬الفصل، ‬اخترت ‬تلميذا ‬آخر. ‬حين ‬دق ‬الجرس، ‬أشرت ‬إليها ‬أن ‬انتظري ‬قليلا، ‬حتى ‬إذا ‬خلا ‬الفصل ‬تقدمت ‬نحوها ‬وجعلت ‬أسرد ‬عليها ‬كل ‬العبارات ‬التي ‬كنت ‬قد ‬أعددتها ‬فيما ‬كان ‬التلاميذ ‬ينقلون ‬الدرس ‬في ‬دفاترهم، ‬فقلت ‬لها ‬مثلا: ‬سبحان ‬مبدل ‬الأحوال، ‬ومن ‬لم ‬يخرج ‬من ‬الدنيا ‬لم ‬يخرج ‬من ‬عواقبها، ‬ودوام ‬الحال ‬من ‬المحال.. ‬و.. ‬و.. ‬ومع ‬مطلع ‬رثاء ‬الأندلس ‬لأبي ‬البقاء ‬الرندي ‬كانت ‬ديباجتي ‬قد ‬وصلت ‬إلى ‬ذروة ‬السخافة، ‬وهو ‬ما ‬أحسست ‬به ‬حين ‬تعمدت ‬تلميذتي ‬النظر ‬إلى ‬ساعتها. ‬ساعتها، ‬لملمت ‬ارتباكي ‬وقلت ‬بما ‬يكفي ‬من ‬الجد:‬ ‬اسمعي، ‬باختصار ‬أنا ‬مستعد ‬لاصطحابك ‬إلى ‬أي ‬محل ‬تشائين ‬لأشتري ‬لك ‬ملابس ‬أخرى ‬تغنيك ‬عن ‬هذه ‬الأسمال، ‬فقاطعتني ‬ضاحكة: ‬هذه ‬ليست ‬أسمالا، ‬هذي ‬حوايج ‬لاموض ‬آمسيو... ‬هكذا ‬أسقط ‬في ‬يد ‬مسيو، ‬مسيو ‬الذي ‬هو ‬أنا ‬طبعا. ‬وكان ‬أن ‬نظر ‬مسيو ‬إلى ‬ملابسه، ‬فإذا ‬هي ‬ركيكة ‬جدا ‬إذ ‬لا ‬أثر ‬فيها ‬لبلاغة ‬الموضة.‬
وفي ‬مرة ‬أخرى، ‬جاء ‬أحد ‬تلامذتي ‬بملابس ‬ملطخة ‬بالصباغة ‬من ‬كل ‬لون. ‬ولكم ‬أشفقت ‬لحاله ‬ولعنت ‬في ‬نفسي ‬ضيق ‬ذات ‬اليد ‬وهذا ‬الزمن ‬الذي ‬لا ‬يرحم، ‬فكيف ‬سيوِّفق ‬الولد ‬بين ‬الدراسة ‬وورشة ‬الصباغة ‬حيث ‬يعمل؟ ‬وهل ‬يعقل ‬أن ‬يكون ‬والداه، ‬في ‬حالة ‬عدم ‬عوزهما، ‬قد ‬اقتنعا ‬بأن ‬المدرسة ‬لم ‬تعد ‬طريقا ‬سالكا ‬إلى ‬المستقبل ‬فعبّدا ‬أمام ‬الابن ‬طريقا ‬موازيا؟ ‬مهما ‬يكن ‬من ‬أمر، ‬فقد ‬قررت ‬أن ‬أساعد ‬الولد ‬بأن ‬أعطيه ‬ما ‬يتقاضاه ‬من ‬مشغله ‬حتى ‬نهاية ‬السنة ‬الدراسية ‬على ‬الأقل. ‬ولهذه ‬الغاية ‬استبقيته ‬في ‬آخر ‬الحصة. ‬لكن، ‬ما ‬إن ‬فاتحته ‬في ‬الموضوع، ‬أنا ‬الذي ‬لا ‬أرعوي، ‬حتى ‬لدغت ‬من ‬نفس ‬الجحر.‬
وفي ‬مرة ‬ثالثة، ‬حضر ‬أحد ‬تلاميذي ‬من ‬ذوي ‬البنية ‬المحترمة ‬وقد ‬حلق ‬رأسه ‬حلاقة ‬خفيفة ‬جدّا ‬أسفرت ‬عن ‬ندبة ‬مقوسة ‬في ‬مقدمة ‬رأسه ‬جعلته ‬يبدو ‬شرسا. ‬وحين ‬سألته ‬عن ‬الأمر، ‬طمأنني ‬بأنها ‬ندبة ‬اصطناعية ‬وأن ‬الهدف ‬منها ‬هو ‬ما ‬حدث ‬معي ‬بالضبط. ‬وتجميل ‬القبح ‬هذا ‬يذكرني ‬ببعض ‬زعران ‬حومتنا ‬القديمة، ‬فقد ‬كانوا ‬يسمون ‬الندبة ‬على ‬الخد "‬حفرة ‬الزين" ‬كما ‬كانوا ‬يستقبلون ‬الخارج ‬للتو ‬من ‬السجن ‬على ‬أنه "‬عائد ‬من ‬هولندا"‬؛ ‬فشكرا ‬للغة، ‬شكرا ‬لمَكْرها ‬تحديدا.‬
في ‬حينا ‬القديم، ‬كانت ‬إحدى ‬المتسولات ‬تمر ‬كل ‬صباح ‬لتستجدي ‬الخبز ‬اليابس (‬كان ‬ذلك ‬تخصصها). ‬لقد ‬حاولت ‬مرارا ‬أن ‬أفهم ‬لماذا، ‬كما ‬حاولت ‬تكرارا ‬أن ‬أسألها، ‬سوى ‬أني ‬لم ‬أستطع ‬أبدا. ‬ولقد ‬علمت ‬بعد ‬ذلك ‬بكثير ‬أن ‬ساعية ‬حومتنا ‬إنما ‬هي ‬واحدة ‬من ‬سعاة ‬كثيرين ‬يجمعون ‬الخبز ‬اليابس ‬لفائدة ‬شركات ‬ذكية ‬تخضعه ‬لعمليات ‬تجميل ‬دقيقة (‬من ‬الدقيق ‬طبعا) ‬يخرج ‬بعدها ‬في ‬طبعة ‬مزيدة ‬ومنقحة ‬فإذا ‬هو ‬بسكويت. ‬وللإنصاف، ‬فما ‬تقوم ‬به ‬هذه ‬الشركات ‬هو ‬عمل ‬بيداغوجي ‬يمتح ‬مباشرة ‬من ‬نظرية ‬التغذية ‬الراجعة (‬Feedback)‬؛ ‬فالأولاد ‬الذين ‬يزهدون ‬في ‬خبز ‬البيت ‬هم ‬أنفسهم ‬الذين ‬يحرنون ‬أمام ‬واجهات ‬الدكاكين ‬حيث ‬الخبز ‬إياه ‬وقد ‬تنكر ‬في ‬اسمه ‬الجديد. ‬إن ‬عملية ‬البَسْكَتة (‬لاحظوا ‬الاسم ‬Bis ‬وcuit) ‬أشبه ‬ما ‬تكون ‬بالسحر، ‬والقائمون ‬عليها ‬هم ‬حواة ‬حقيقيون؛ ‬فبفضلها ‬صار ‬خبز ‬أمي ‬ينتهي ‬نهاية ‬سعيدة، ‬إذ ‬بدل ‬أن ‬يبلل ‬وينثر ‬للدجاج ‬فوق ‬سطح ‬البيت، ‬أصبح ‬يحظى ‬برفوف ‬أنيقة ‬في ‬المتاجر ‬الكبرى ‬بعد ‬أن ‬تم ‬تلفيفه (‬تلفيفه ‬أم ‬تلفيقه؟) ‬في ‬بريق ‬حقيقي، ‬كما ‬أصبح ‬الكثير ‬من ‬الأولاد ‬يشهرونه ‬في ‬وجه ‬جوعهم ‬مع ‬كل ‬استراحة ‬مدرسية.‬
وفي ‬حينا ‬القديم ‬أيضا، ‬كان ‬يمر ‬بين ‬الفينة ‬والأخرى ‬أحد ‬المشترين ‬المتجولين ‬طالبا ‬من ‬السكان ‬أن ‬يبيعوه ‬ملابسهم ‬البالية. ‬ومع ‬أن ‬الكثير ‬من ‬الناس ‬كانوا ‬يعرضون ‬عليه ‬خرقا ‬حقيقية، ‬فإنه ‬ما ‬كان ‬يعترض ‬أو ‬يتذمر، ‬بل ‬كان ‬يقدر ‬ثمنا ‬لكل ‬قطعة، ‬وهو ‬الثمن ‬الذي ‬يرتفع ‬كلما ‬كانت ‬آثار ‬الزمن ‬ظاهرة؛ ‬فالرجل ‬كان ‬يهوى ‬الملابس ‬العتيقة ‬مثلما ‬يهوى ‬غيره ‬الخمور ‬المعتقة. ‬وللتاريخ ‬فقط، ‬فقد ‬كان ‬يجد ‬ضالته ‬في ‬دربنا ‬بالذات ‬حيث ‬لا ‬يعرضون ‬عليه ‬القميص ‬إلا ‬بعد ‬أن ‬يكون ‬قد ‬نشر ‬على ‬معظم ‬أغصان ‬شجرة ‬العائلة. ‬لقد ‬كنت ‬أقل ‬جرأة ‬من ‬أن ‬أسأل ‬الرجل ‬إلى ‬أين ‬يذهب ‬بتلك ‬الملابس (‬هل ‬هي ‬ملابس؟) ‬ومع ‬ذلك ‬فلم ‬أنتظر ‬الجواب ‬طويلا، ‬إذ ‬خلال ‬تلك ‬السنوات ‬بدأ ‬يتوافد ‬على ‬بلادنا ‬قوم ‬يقال ‬لهم ‬الهيبِّي، ‬قدَّرت، ‬ما ‬إن ‬رأيت ‬أول ‬أفواجهم، ‬أن ‬أسمالنا ‬تنتهي ‬عندهم. ‬ولكم ‬لُمت، ‬بيني ‬وبين ‬نفسي، ‬جيراننا ‬شديدي ‬الإملاق ‬على ‬تقاضيهم ‬ثمنا ‬لخِرَقهم، ‬فهي ‬أقل ‬من ‬صدقة ‬وأولئك ‬أقل ‬من ‬متسولين. ‬وإليهم ‬يرجع ‬الفضل ‬في ‬إقناع ‬الكثيرين ‬بأن ‬التخلف ‬هو ‬منتهى ‬الحضارة، ‬وهي ‬القناعة ‬التي ‬انبرى ‬لترويجها ‬الآن ‬شباب ‬الموضة ‬الذين ‬لا ‬يدرك ‬معظمهم ‬أن ‬بلاده ‬أسمال ‬حقيقية ‬إذا ‬ما ‬قورنت ‬ببعض ‬البلدان ‬التي ‬تشبه ‬ملابس ‬السهرات.‬
تكاد ‬الموضة ‬تكون ‬العطار ‬الذي ‬يصلح ‬ما ‬أفسده ‬الدهر، ‬خبزا ‬كان، ‬ملابس، ‬موسيقى... ‬أو ‬بشرا ‬حتى. ‬وإليها ‬يرجع ‬الفضل ‬في ‬امّحاء ‬الخطوط ‬الفاصلة ‬بين ‬الغنى ‬والفقر، ‬بين ‬الشباب ‬والشيخوخة، ‬بين ‬العافية ‬والسقم، ‬بين ‬الجمال ‬والقبح، ‬بين ‬العز ‬والذل.. ‬وليس ‬أخيرا ‬بين ‬الفطنة ‬والسذاجة: ‬فكلما ‬اجتهدت ‬في ‬الأولى ‬نجحت ‬في ‬الثانية، ‬فمن ‬كانت ‬في ‬أسمال ‬مهلهلة ‬اتضح ‬أنها ‬أحد ‬الأبناء ‬البررة ‬للموضة، ‬ومن ‬كان ‬يرتدي ‬ملابس ‬ملطخة ‬بالصباغة ‬تبين ‬أنه ‬ابن ‬عصره، ‬عصر ‬الصباغة ‬أعني، ‬وما ‬حسبته ‬تمزقا ‬عند ‬الركبة ‬أو ‬لطخة ‬كان ‬توقيع ‬مصمم ‬الأسمال. ‬وعند ‬هذه ‬النقطة ‬تحديدا، ‬أدعوك ‬أيها ‬القارئ ‬الكريم ‬إلى ‬الوقوف ‬دقيقة ‬صمت ‬ترحما ‬على ‬مّي ‬زهرة، ‬فقد ‬ماتت ‬مغمورة (‬والأصح ‬مغمومة) ‬مع ‬أن ‬أبناءها ‬كانوا ‬يرتدون ‬ملابس ‬تحمل ‬توقيعات ‬في ‬منتهى ‬الموضة. ‬تلك ‬الملابس ‬كانت ‬تصفها ‬أمي، ‬أمد ‬الله ‬في ‬عمرها، ‬بكونها "‬كتعقل ‬على ‬جد ‬النمل ‬منين ‬كان ‬عتروس". ‬وهي ‬عبارة ‬ثمينة ‬قد ‬ترفعها ‬إحدى ‬دور ‬الأسمال ‬شعارا ‬لها ‬أو ‬توظفها ‬في ‬إشهار ‬منتوجاتها؛ ‬فالمؤكد ‬تاريخيا ‬أن ‬جد ‬النمل ‬كان ‬تيسا، ‬لكن ‬لا ‬أحد ‬يعرف ‬أية ‬ملابس ‬كان ‬الناس ‬يرتدون ‬في ‬ذلك ‬الزمن. ‬ولقد ‬نجحت ‬في ‬السذاجة ‬مرة ‬أخرى ‬حين ‬ظننتها ‬متسولة ‬خبز ‬يابس ‬تلك ‬الممثلة ‬المتنكرة ‬لإحدى ‬شركات ‬البسكويت؛ ‬أما ‬الرجل ‬الذي ‬كان ‬يشتري ‬الخرق ‬في ‬حيّنا ‬فقد ‬أسفر ‬عن ‬أكثر ‬من ‬وجه، ‬فمن ‬قائل ‬إنه ‬كان ‬عميلا ‬للهيبيين ‬وأضرابهم ‬يبيعهم ‬أسرارنا ‬الكالحة، ‬ومن ‬قائل ‬إن ‬الرجل ‬ذو ‬نبوءة، ‬فقد ‬كان ‬يعرف ‬أن ‬الملابس ‬المحترمة ‬سيدور ‬عليها ‬الزمان ‬ويطوقها ‬بملابس ‬أكثر ‬احتراما: ‬الأسمال؛ ‬أما ‬بالنسبة ‬إلي، ‬فإنه ‬ليس ‬فقط ‬ذا ‬بعد ‬نظر ‬وإنما ‬صاحب ‬نظرية ‬أيضا، ‬فإذا ‬كانت ‬البسكتة ‬تمتح ‬من ‬Feedback ‬فإن ‬الأسْمَلَة ‬تمتح ‬من ‬توأمها ‬السيامي ‬Wearback ‬وهي ‬نظرية ‬ذات ‬حذافير، ‬لذلك ‬فقد ‬وجدت ‬من ‬يطبقها ‬بحذافيرها.‬
وبسبب ‬امّحاء ‬الخطوط ‬الفاصلة، ‬تعرضت ‬غيرما ‬مرة ‬للحرج ‬أمام ‬نفسي.‬
فذات ‬مرة ‬عرض ‬التلفزيون ‬برنامجا ‬يقطع ‬القلب: ‬على ‬مصطبة ‬طويلة ‬وأمام ‬جمهور ‬يعاني ‬من ‬فائض ‬الشفقة، ‬كانت ‬تمر ‬تباعا ‬فتيات ‬لولا ‬وقع ‬كعوبهن ‬لما ‬كن ‬ليظهرن ‬على ‬الشاشة ‬لفرط ‬نحولهن. ‬ناديت ‬على ‬زوجتي: ‬تعالي ‬نتبرع. ‬كنت ‬قدَّرت ‬أن ‬إحدى ‬الجمعيات ‬الخيرية ‬قد ‬اكترت ‬قليلا ‬من ‬التلفزيون ‬لاستدرار ‬عطف ‬ورحمة ‬المشاهدين ‬بعرض ‬تلك ‬الفتيات ‬المقطوعات ‬من ‬شجرة ‬فعلا ‬لا ‬مجازا، ‬فهن ‬كأغصان ‬ومنهن ‬من ‬ترتدي ‬ورقتي ‬توت. ‬وحسب ‬تقديري، ‬فقد ‬توقعت ‬أن ‬يختم ‬البرنامج ‬بإظهار ‬أرقام ‬الهواتف ‬والعناوين ‬التي ‬على ‬ذوي ‬الأريحية ‬الاتصال ‬بها ‬للتبرع. ‬لكن ‬زوجتي ‬أفهمتني ‬غير ‬ذلك ‬تماما. ‬العجفاوات ‬اللائي ‬أشفقت ‬عليهن ‬وعزوت ‬نحولهن ‬الفادح ‬إلى ‬سوء ‬التغذية ‬والأمراض ‬المزمنة، ‬لم ‬أعدم ‬من ‬يشرح ‬لي ‬أنهن ‬في ‬منتهى ‬الصحة ‬والعافية، ‬بل ‬إنهن ‬نماذج ‬للجمال ‬بكل ‬المقاييس ‬بما ‬فيها ‬مقاييس ‬المسطرة ‬والبركار. ‬ولأن ‬الأمر ‬تكرر ‬معي ‬فقد ‬تقرر، ‬وصدقت ‬على ‬مضض، ‬فأنا ‬وريث ‬سلالة ‬كانت ‬تستوثر ‬فراشها ‬وهاهي ‬الآن، ‬جرَّاء ‬الموضة، ‬تنام ‬ملء ‬جفونها ‬على ‬أسرة ‬من ‬الأسلاك ‬والنوابض. ‬أما ‬الفتيان ‬الذين ‬كانوا ‬يرتادون ‬المقهى ‬مع ‬صديقاتهم ‬الكواعب، ‬يسترقون ‬إليهن ‬اللمس ‬ويتضاحكون ‬حد ‬السعال، ‬فقد ‬بدؤوا ‬يموتون ‬الواحد ‬تلو ‬الآخر. ‬ولما ‬أبديت ‬أسفي ‬على ‬شبابهم ‬قيل ‬لي ‬إنهم ‬لم ‬يكونوا ‬شبانا ‬بل ‬شيوخا ‬في ‬أرذل ‬العمر، ‬وبسبب ‬إكسير ‬الموضة ‬جعلوني ‬مصابا ‬بعمى ‬الأعمار.‬
مرة، ‬وأنا ‬عائد ‬إلى ‬بيتي ‬زوالا، ‬صادفت ‬مجموعة ‬من ‬الشباب، ‬أبناء ‬الذوات ‬كما ‬تشي ‬به ‬ملابسهم، ‬فهم ‬ينتعلون ‬قطعا ‬من ‬الجلد ‬أو ‬البلاستيك، ‬ويعتمرون ‬قبعات ‬كالحة ‬ويرتدون ‬سراويل ‬ممزقة ‬عند ‬الركب، ‬وبعضهم ‬ملطخ ‬بالصباغة ‬من ‬كل ‬لون. ‬قلت ‬مع ‬نفسي: ‬لقد ‬تم ‬استلابهم، ‬فالموضة ‬تتقمصهم (‬أو ‬يتقمصونها) ‬من ‬أعلى ‬الرأس ‬إلى ‬أخمص ‬القدمين. ‬ولقد ‬تكررت ‬مشاهدتي ‬لهم ‬أكثر ‬من ‬مرة ‬قبل ‬أن ‬أعلم ‬بأنهم ‬يعملون ‬في ‬ورشة ‬مجاورة ‬للبناء ‬يغادرونها ‬زوالا ‬لتناول ‬ما ‬يقيمون ‬به ‬أودهم. ‬وإذا ‬صح ‬أنهم ‬أثرياء ‬كما ‬قدرت ‬في ‬البداية ‬فليس ‬بسبب ‬الموضة ‬التي ‬فرضت ‬عليهم ‬فرضا، ‬وإنما ‬بسبب ‬أرصدتهم ‬الهائلة ‬في ‬بنك ‬القناعة ‬التي ‬يفنون ‬أعمارهم ‬في ‬سبيل ‬ألا ‬تفنى.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.