ما الذي تغير فينا اليوم حتى فقد حلمنا كل عجلاته ولم يعد يقوى على أن يطلق العنان لمخيلتنا لكي تبدع واقعا جديدا عوض أن نكتفي بالتطلع بذهول وحيرة إلى عقارب ساعة زمننا وقد توقفت دورتها تماما. ما الذي تغيّر إذن إنْ لم تكن لغة التداول التي ألبسوا مفرداتها حمولات مقرصنة من مذاهب شتى إلى درجة تساءل معها الناس في الداخل والخارج: هل أصبح ذوو المحال ثواراً بلا ثورة، بعد أن حولوا المكاتب الشاسعة الفاخرة مكيفة الهواء إلى مختبرات لتخصيب اللغة بمفاهيم تدر الرماد في الأعين وترخي ستائر الدخان حتى لا نرى ما يجثم وراءها من أزمنة سحيقة موغلة في التخلف وواقع مسحوق. لكن اللغة تظل وعاء أجوف إذا لم يواكبها الفعل وردّ الفعل كما ذكر أحد الحكماء: «أسمع جَعْجَعَةً ولا أرى طحينا» (الصداع على والو)؛ لكن ما يهم هو تلك الأحلام التي في الصدور، فلكل الأحلام أجنحة تتسلل بها خارج أسوار السجون، وما يفيد رمي الحُرّ داخل زنزانة باردة إذا ما كانت الأوطان من أقصاها إلى أقصاها سجونا كبيرة. والأدهى من ذلك أن نصاب بداء فقدان القدرة على الحلم، وأن نتحول إلى مجرد دِيّكة يتصارعون في الحلبة في حين يراهن الآخرون على انتصاراتنا الوهمية وهزائمنا الحقيقية، فسواء انتصر الديك أو انهزم فهناك مقامرون يجنون الأرباح غير عابئين بالريش المنفوش أو الدم المراق، (من نهار عقلنا وهوما كيريشو فينا)، لكن الحرّ يأبى أن يعتبر نفسه ديكا يخوض معركة خاسرة في كل الأحوال، بل يرى في نفسه عصفورا طليقا لم تعد تفزعه الفزاعات المبثوثة في الحقول، المزروعة قيودا وألغاما، مادام الفزع والخوف والترهيب سيغيّر موقعه وينتقل إلى المعسكر الآخر إذا ما فطنت العصافير إلى حقيقة الفزاعات المملوءة بطونها بالأقمشة البالية «الشراوطْ» التي تتقاذفها الرياح في كل الاتجاهات. فكم من أقوام بنوا سؤدَدَهُمْ وثرواتهم برأسمال الخوف والتّخويفْ فشيدوا هذه الثروات الملتبسة والتي لا حدود ولا نهاية لها، وهدموا الوطن، لكن مفعول التخويف والترهيب، مثله مثل الأقراص المنومة، سرعان ما يزول بعد نوم محدود يدوم فترات معدودة لكنه لا يتحول إلى بَيَاتٍ شتوي يدوم لعدة فصول وعقود. واهمون هم، إذن، أولئك الذين وضعوا كل بيضهم في سلة الخوف الواحدة. واهمون هم، إذن، من راهنوا على أننا سننسُج علاقات حميمية مع الخوف، نتأوه شوقاً إليه ونطالب بجرعات إضافية منه ونستجدي، كالعاشق الولهان، القُرب والوصال معه، ونستلذ بالإدمان عليه. وها نحن نرى كل يوم كيف يتخذ الرهان على التخويف أشكالا مدهشة، يجد فيها ذوو المحال ضالتهم المنشودة، فحين «يغضبون» يزايد البعض على غضبهم و«يجهلون فوق جهل الجاهلينا» ويمارسون التنكيل بكل أنواعه على المغضوب عليهم. إنه غضب بالوكالة تُتْقِنُه فرقة «الوُصولية» المتطرفة والحداثية جداً وتستثمِرُ فيه من أجل الديمومة في مناصب وحقائب آيلةٍ للزوال مهما طال أو قَصُر الزمان، لو دامت لغيرهم لما آلت إليهم، فتطلق عيارات ألسنتها في قصف عشوائي تَعتقده مُمِيتاً على من يجرؤ على الحلم بصوتٍ مرتفع. ومهما يكن فلا ينبغي أن ننسى أنَّ الحلم يدق على أبوابنا بقوة، ونحن نحبُّ الحلم المِلحاح العنيد الذي لا يستسلم أمام الأبواب المغلقة أو بِفِعْلِ الآذان الصمَّاء. فهناك دائما من سيتقن الإنصات إلى دقاته، ويملك القدرة على إزالة المِزْلاَجْ «الزّكرُوم» من الباب حتى يتمكن الهواء النقي من التسرّب إلى الأمكنة الملوثة والفاسدة. إنها دقات ملحّة على بابِنا تقول إن الخطر داهِمٌ وإنّ الوحشَ الذي قالوا لنا إنه اختفى وانقرض ولم يعد يهدد أحدا إنما هو مستغرق في قيلولة تتبعها يقظة فدمار و«هلاك» مبين. ولم يبق أمامنا سوى التشّبث بقشة حلمنا الذي حوله البعض إلى يأس وواقع لا يرتفع، لكن كم من قشَّةٍ قصمت ظهر التسلط، وكم من بذرة أخصبت أرحاماً اعتقدوها عقيمة، وكم من عصافير حالمة صَنَعَتِ الرّبيع.