عبد القادر طرفاي قررت الحكومة خلال صيف 2014 إحالة مقترحاتها، بمراجعة احتساب المعاشات المدنية بالصندوق المغربي للتقاعد، على المجلس الاقتصادي والاجتماعي من أجل إبداء الرأي في غضون ستين يوما.ونظرا إلى حساسية هذا الإجراء، فإنه لا بد من مناقشة الحكومة في مبادرتها هاته. للتذكير فقط، فإن ملف التقاعد مطروح في شموليته للنقاش منذ نهاية 2003، تاريخ انعقاد الندوة الوطنية حول التقاعد بالمغرب، والتي تلاها تأسيس اللجنة الوطنية لإصلاح أنظمة التقاعد التي واصلت أشغالها من خلال لجنة تقنية ظلت تشتغل إلى حدود سنة 2012. وخلال هذه الفترة، عملت اللجنة التقنية على تتبع أحوال كل الصناديق التي تتولى تدبير المعاشات لصالح الأجراء والموظفين الذين تمنحهم القوانين الحالية الحق في الحصول على معاش، وكذا متابعة الدراسة التي قام بها مكتب دولي مختص والتي انتهت صيف 2010 لتتم إحالتها بطلب من النقابات الخمس الأعضاء في اللجنة على مكتب العمل الدولي قصد إبداء الرأي من منظور منظمة العمل الدولية نظرا إلى مقاربتها الاجتماعية في تناول قضايا العمال والأجراء بحكم تركيبته الثلاثية الفريدة (العمال والمشغلون والحكومات). هذه المرحلة من الدراسات والتحاليل تعد معقولة من حيث الحيز الزمني الذي استغرقته، ومنطقية من حيث المقاربة التي اعتمدتها اللجنة في معالجة مسألة المعاشات بالمغرب، حيث كان الاشتغال يصب في اتجاه إعداد مقترح إصلاح شامل وموضوعية في مناقشة وتحليل المعطيات والمقترحات. بعد هذه المرحلة، كان من المفروض وضع الخلاصات وطرح المقترحات للمفاوضة من أجل وضع خريطة الإصلاح الشامل الذي من المفترض أن ينزل على مراحل. هذه السيرورة، التي عرفها ملف المعاشات حتى الآن، تم توقيفها من طرف الحكومة، ولا أقول إن الحكومة أجهضتها لأن الوضع لازال يحتمل الاستدراك.. الحكومة، اليوم، تحجم عن العمل على الإصلاح وتكتفي باقتراح تدابير مقياسية تهدف إلى تسديد بعض ديون الصندوق المغربي للتقاعد، علما بأن ما جاءت به (الحكومة) اليوم هو مجرد ما ظلت وزارة المالية تلوح به في كل مناسبة يتم فيها الحديث عن التوازنات المالية للصندوق المغربي للتقاعد؛ وبذلك فإن المراجعات المقياسية المتعلقة برفع السن والزيادة في المساهمات وتقليص المردودية، أي تخفيض المعاشات المدنية التي يدبرها الصندوق المغربي للتقاعد، بالمقارنة مع ما هو معمول به حتى اليوم، لا تعد إصلاحا ولا ابتكارا ولا تحمل أيا منهما. - لماذا لجنة وطنية لإصلاح أنظمة التقاعد؟ في سنة 2003، أقدمت حكومة ادريس جطو على مراجعة نسبة المساهمات في الصندوق المغربي للتقاعد لكي تصبح 20 % مناصفة بين الموظف والدولة بصفتها مشغلا، بعدما كانت هذه المساهمة في حدود 14 %. هذه المراجعة المقياسية، التي همت آنذاك نسبة المساهمات فقط، جاءت تبعا لدراسة اكتوارية حول وضعية الصندوق المغربي للتقاعد، خلصت إلى أن هذا الصندوق سيعرف عجزا ماليا ابتداء من سنة 2009 ونفاد احتياطيه في أفق سنة 2011. فكانت تلك المراجعة التي كان من المفروض أن تؤخر ظهور العجز ونفاد الاحتياطي لسنتين. بالمقابل، وافقت حكومة ادريس جطو على تنظيم الندوة الوطنية حول أنظمة التقاعد بالمغرب، كما تبنت أهم توصية صدرت عن هذه الندوة، ألا وهي تأسيس لجنة وطنية لإصلاح أنظمة التقاعد بالمغرب، وبذلك يتحمل الموظفون حتى اليوم زيادة 3 % في المساهمات في الصندوق المغربي للتقاعد مقابل: - وعد بإصلاح شامل لأنظمة التقاعد؛ - لا تغيير في كل ما يخص نظام المعاشات بالمغرب إلا من خلال اللجنة الوطنية المحدثة. وبالتالي، فإن اللجنة الوطنية لإصلاح أنظمة التقاعد لا تعتبر هدية حكومية، وإنما هي نتيجة التزام مكلف بين حكومة ادريس جطو والنقابات. وفي هذه الحالة، فإن أية مبادرة أحادية الجانب، من طرف الحكومة بطبيعة الحال، في هذا الموضوع تعد خرقا لهذا الالتزام وطعنا في مصداقية الحكومة وتؤدي إلى انهيار الثقة الضرورية لتعامل الطرفين، مما يترتب عنه تهديد للسلم الاجتماعي. - لماذا إجراءات مقياسية خاصة بالصندوق المغربي للتقاعد؟ تبرر الحكومة اقتراحها الذي يقتصر على الصندوق المغربي للتقاعد بحالة الاستعجال التي تفرضها وضعية الصندوق الذي سيعاني من بداية العجز، حسب معطيات وزارة المالية، مع حلول سنة 2019 وسينفد احتياطيه مع نهاية 2021. الملاحظة الأولى هي أن الأزمة التي كانت وزارة المالية تلوح بها في أفق 2013 انتقلت إلى 2021؛ والسؤال الذي لا تريد الحكومة الإجابة عنه هو كيف انتقلت الأزمة من 2013 إلى 2021 دون أن يتم المساس بنظام المعاشات المدنية ودون تغيير أي من المقاييس الثلاثة الحاسمة في النظام (السن القانوني للإحالة على التقاعد ونسبة المساهمات ومردودية النظام)، مما يعني أن هناك إجراءات يمكن القيام بها دون اللجوء إلى الموظفين وتحميلهم أعباء نظام المعاشات المدنية، كما هو وارد في المقترح الحكومي؛ التوضيح الثاني الذي تتجنبه الحكومة هو أن هذه الإجراءات، التي تلقي بكل الثقل على ظهر الموظفين، لن تحل إشكالية نظام المعاشات المدنية ولن تضمن توازن النظام لعشرات السنين بل إنها فقط ستؤجل ظهور الأزمة؛ وهي إجراءات تهدف، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، إلى تغطية نصف ديون الصندوق المتراكمة بسبب تملص الدولة من أداء مستحقاتها كمشغل منذ بداية الاستقلال حتى أواخر تسعينيات القرن الماضي، وكذا بسبب لجوئها إلى الصندوق المغربي للتقاعد لمنح ريع لبعض المحظوظين من ذوي الأجور التي تتجاوز أقصى سلاليم الوظيفة العمومية؛ الملاحظة الثالثة هي أن ما جاءت به الحكومة ليس إصلاحا لأن إجراءاته تضرب في العمق حق الموظفين في المعاش اللائق؛ ولم يتم اتخاذ تدابير من شأنها ضمان توازن اجتماعي أولا داخل صفوف المتقاعدين المحسوبين على الصندوق المغربي للتقاعد من قبيل إعادة تقييم المعاش. المقصود بإعادة تقييم المعاش هو مراجعة ما يحصل عليه المتقاعد مراجعة سنوية حسب نسبة التضخم، مثلا، أو معدل تطور الأجور؛ وهو الأمر المعمول به في صناديق مغربية أخرى مثل (RCAR) النظام الجماعي لمنح رواتب التقاعد، مما يجعل النظام أكثر إنصافا لمتقاعديه. لماذا هذا التراجع من طرف الدولة عن ضمان أحد مكونات الحماية الاجتماعية، أي المعاش، لموظفيها؟ هل يمكن للدولة مواصلة القيام بمهامها دون موظفيها، وهل بإمكانها تفويت مهامها الإدارية والأمنية والاجتماعية إلى جهات خاصة حتى تنسحب من تحملات الحماية الاجتماعية لموظفيها؟ في هذه الحالة، تجب إعادة النظر في قانون الوظيفة العمومية وإلغاء كل المقتضيات التي تجعل من الموظف خادما للدولة ورهن إشارتها، وكذا المقتضيات التي تمنع كل موظف من القيام بأي عمل آخر خارج وظيفته ومن الحصول على أي دخل آخر خارج مرتبه وعلاواته. - لماذا التخلي عن أشغال اللجنة التقنية لإصلاح أنظمة التقاعد بالمغرب؟ أو بعبارة أخرى: لماذا التخلي عن إصلاح أنظمة التقاعد كما صادقت عليها اللجنة الوطنية منذ سنة 2004؟ لقد تضمنت المبادئ الأساسية للإصلاح التي تم التوافق بشأنها بين الحكومة وكل الشركاء الاجتماعيين: ضرورة الإصلاح الشامل والتدرج في تنزيل هذا الإصلاح في أفق الوصول إلى النظام المنشود؛ والأهم في المبادئ الأساسية المتوافق بشأنها هو توسيع الحماية لتشمل الفئات العاملة التي لازالت محرومة منها. فما هو الإصلاح الشامل؟ لا بد، وإن كان المجال لا يتسع للإحاطة بالسؤال بالتفصيل اللازم، من إيراد بعض التوضيحات: أزمة منظومة المعاشات المدنية بالمغرب تتجلى، أولا، في ضعف التغطية، أي نسبة المستفيدين من المعاش من الفئات العاملة، فهذه النسبة لا تتجاوز، في أحسن الظروف، ثلث الطبقة النشيطة؛ وتتقهقر (النسبة المشار إليها) إذا ما أخذنا بعين الاعتبار عدد المسنين الذين تتجاوز أعمارهم الستين عاما، وبالتالي فإن مرحلة الشيخوخة بالمغرب تبقى متميزة بالبؤس والتهميش وفقدان الاستقلالية في الحصول على العيش الكريم، خاصة في زمن تلاشى فيه التكافل الأسري الذي ظل لسنوات عديدة يخفي ضعف منظومة الحماية الاجتماعية. هذا الوضع جعل توسيع التغطية من أهم المبادئ الأساسية للإصلاح التي تبنتها اللجنة الوطنية. والتوسيع يعني أن تستفيد كل القوى العاملة من التغطية الاجتماعية المرتبطة بالمعاشات، وذلك بتعميم الحماية على كل الأجراء، وكذا توسيع هذه الحماية لتشمل غير الأجراء من أصحاب المهن الحرة. وهذا مدخل لمحاربة الفقر والهشاشة من خلال استثمار وتوزيع أفضل للدخل. ويعني الإصلاح الشامل، كذلك، الانكباب على وضعية باقي الصناديق وما تضمنه من معاش لصالح المنتسبين إليها: * الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي: في الإصلاح الشامل، يفترض التصدي لوضعية المعاشات بالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ذلك أن هناك ملايين من الأجراء محرومون من الحق في المعاش بعد تجاوز سن الستين، وهذا يرجع إلى عدة أسباب، أهمها ما يرتبط بالتصريحات، فإما أن تكون علة هذا الحرمان هي عدم التصريح بهم كأجراء، وإما التلاعب في التصريح أي عدم التصريح بأيام العمل الحقيقية، إلى غير ذلك من ممارسات التهرب من الواجبات الاجتماعية التي تعلمها الحكومة أكثر من غيرها، ويحاول الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي التصدي لها دون سند من الجهات التي أوكلت إليها هذه المهمة. إضافة إلى ضعف هذه المعاشات وسوء تدبير احتياطي الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وضعف عائداته من طرف صندوق الإيداع والتدبير، من بين المفارقات الغريبة التي تميز نظام الضمان الاجتماعي بالمغرب، حرمان الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي من تدبير احتياطياته المودعة لدى صندوق الإيداع والتدبير. *عضو اللجنة التقنية لإصلاح أنظمة التقاعد بالمغرب/باحث في قانون الحماية الاجتماعية/قانون الطب والأخلاقيات