عبد الحسين شعبان أنهى ترشيح حيدر العبادي لرئاسة الوزراء في العراق الجدل والنقاش القانوني والسياسي حول ترشّح نوري المالكي لولاية ثالثة. وبعد نحو شهر، تمكّن العبادي من تشكيل الوزارة وحاز على ثقة البرلمان مباشرة، وذلك بعد تجاذبات كثيرة وضغوط مباشرة وغير مباشرة مارستها الولاياتالمتحدة بالدرجة الأساسية وإيران بدرجة ثانية. وكانت واشنطن قد أعلنت أنها لن تدعم الحكومة العراقية في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» بوجود المالكي، الأمر الذي ساعد في تشكيل حكومة من الكتل والجماعات المختلفة، ممثلة جميعها بشخصياتها الأولى أو الأساسية، وهو ما كانت تريده واشنطن التي دعت إلى أوسع تمثيل. وكان أول رد فعل إيجابي من جانب واشنطن هو زيارة وزير الخارجية جون كيري لبغداد ولقاؤه بالعبادي، وبعد ساعات أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن خطة لدعم الجيش العراقي وتدريبه وتسليحه وعن تأسيس تحالف دولي يضم نحو أربعين دولة ضد تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، وكان قد صدر قبل ذلك قرار من مجلس الأمن رقم 2170 في 15 غشت 2014 بملاحقة داعش وتطبيق أقسى العقوبات في حقها وفقا للفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة. وعلى الرغم من أن تغيير الوجوه لا يكفي وحده (وإن كانت بعض الوجوه مكرّرة ومجرّبة ولم تنجح في مهماتها الوزارية) إن لم يرافقه تغيير شامل للبرامج والمناهج والسياسات والوسائل للوصول إلى ما هو مشترك وما هو عراقي، فقد تم الترحيب بالتغيير الأولي وبالوزارة الجديدة عربيا ودوليا وإقليميا. ولنجاح هذا التغيير كمقدمة ضرورية، فإنه يحتاج إلى تلبية بعض الاستحقاقات الأساسية ومعالجة ملفّات ظلّت عالقة طيلة سنوات غير قليلة. وعلى مدى نجاحه في تحقيق ذلك، يكون قد فتح الباب لتغيير مستقبلي ممكن، وإلاّ فإنه سيظلّ يدور في حلقة المحاصة الطائفية الإثنية القديمة. التركة التي وصلت إلى رئيس الوزراء المكلّف العبادي معقدة وقاسية وتحتاج إلى عمل وجهد استثنائيين للفكاك من شرنقتها، خصوصا ما وصلت إليه البلاد من تفكك وتشظ، لعلّ آخرها وأخطرها هجمة داعش «الدولة الإسلامية» التي أعلنت الخلافة وطلبت من الجميع الولاء والبيعة، بمن فيهم المسيحيون والإيزيديون والشبك، الذين قتلوا بدم بارد وهجروا من مناطق سكناهم في الموصل وسنجار، كما هجّر التركمان من مدينة تلعفر وغيرها. ولم يكتف الداعشيون بذلك، بل أجهزوا على الكنائس والأديرة والمساجد والجوامع والمعابد وقاموا بتفجير العديد منها ونسفها عن بكرة أبيها، وهي تراث عراقي وعالمي أصيل لا يقدّر بثمن، خصوصا جامع النبي سليمان ومسجد النبي يونس في الموصل، ومعبد لالش في جبل سنجار وغيرها. ليس هذا فحسب، بل إن التركة كانت شائكة في تكريس الانقسام المجتمعي السني الشيعي، إلى درجة أن العديد من المحافظات احتجت وطالبت بإنصافها ورفع الغبن عنها، وهي محافظات ذات أغلبية سكانية سنية؛ كما شهدت البلاد انقساما كرديا عربيا، تجلّى في تفسير المادة 140 وحول مصير كركوك وحقول النفط التي تم وضع البشمركة اليد عليها بعد تهديدات داعش، وما ستؤول إليه المشاكل والاختلافات مع الدولة الاتحادية بخصوص الميزانية وتصدير النفط وغير ذلك. وكان الإصرار على ترشيح «دولة القانون» للمالكي قد عمّق الخلافات داخل كتلة التحالف الوطني الشيعية، على الرغم من أن الجميع ظلّ يلوّح برأي المرجعية الدينية الشيعية التي كانت خطب الجمعة الوعظية والإرشادية فيها تدعو إلى التغيير وعدم التشبث بالمواقع. أمام هذه اللوحة المعقدة، كيف يمكن لرئيس وزراء جديد أن يبدأ أولى خطواته ويحدد أولوياته في مواجهة الإرهاب وحل المشاكل العالقة بتلبية المطالب العادلة والمشروعة للمحافظات المنتفضة، مثلما هي الأنبار وصلاح الدين والموصل وديالى وكركوك وأطراف بغداد، إضافة إلى مطالب المحافظات الأخرى، ذات الطبيعة التي تتعلق بالصلاحيات والخدمات ومحاربة الفساد والمساواة وغير ذلك، الأمر الذي يحتاج إلى جهود مضنية وتعاون بين جميع القوى والفئات للتصدي للمهمات المطروحة. ولعلّ أهم الملفّات الأساسية التي ستكون مطروحة أمام الحكومة الجديدة هي تلك التي تتعلق ب: 1) مواجهة الجماعات الإرهابية، سواء كانت القاعدة أو تنظيمات «داعش»، واستعادة الدولة العراقية الموحدة، ولا بدّ هنا من العمل على نزع سلاح جميع المسلحين وكافة المليشيات، والتي عملت وتعمل باسم «الحشد الشعبي» أو غيره، واحتكار السلاح من جانب الدولة وحدها. وهذا يتطلّب استعادة دور الجيش ومكانته الرمزية تاريخيا، وكذلك الأجهزة الأمنية، وردّ الاعتبار إلى القضاء العراقي الذي فقد الكثير من استقلاليته. وستوفّر خطوات مثل تلك، أرضيةً مناسبة لاستعادة الدولة لهيبتها، واستعادة المواطن لثقته بها وبالأجهزة الحكومية والقضائية؛ 2) العمل على إلغاء التهميش والإقصاء وإنهاء الشعور الخاص بالتمييز الذي رافق العملية السياسية إزاء السنّة بشكل عام، وذلك عن طريق تشريع قانون لتحريم الطائفية وتعزيز المواطنة العراقية، كما يتطلب الأمر إصدار قرار من مجلس النواب بإلغاء قانون المساءلة والعدالة، وهو سليل قانون اجتثاث البعث الذي أصدره بول بريمر، الحاكم المدني الأمريكي للعراق، بُعيد تسلّمه مهامه مباشرة في 13 مايو عام 2003؛ 3) معالجة الملف الكردي من خلال الحوار والتفاهم بهدف استعادة الوحدة العراقية، وبحث مصير المادة 140 بشأن كركوك وإنجاز ما تعطّل بسببها وتصحيح الأوضاع بحيث تشمل رغبة حقيقية للسكان المدنيين من أهالي كركوك واحترام حقوقهم الإنسانية، سواء بالانضمام إلى الإقليم أو تشكيل إقليم مستقل أو البقاء كما هي محافظة عراقية في إطار الدولة الاتحادية. وفي كل الأحوال، لا بدّ من حماية التعايش السلمي والتنوّع القومي والديني والإثني والمذهبي والاجتماعي في كركوك، ومراعاة حساسية المدينة تاريخيا، بتأكيد عدم التمييز واحترام حقوق الإنسان وعدم اللجوء إلى التهجير القسري تحت أي سبب كان. ويحتاج الأمر إلى معالجة ما نجم من تغييرات ديمغرافية قبل عام 2003 وما بعده، ومن تغييرات جيبوليتيكية ما بعد 9 يونيو 2014، سواء ما يتعلق بحقول نفط كركوك، وما له علاقة أيضا بتصدير النفط، في إطار نظرة شاملة تأخذ بنظر الاعتبار مصالح العراق ككل ومصالح سكان الإقليم في الوقت نفسه ومصالح أهالي كركوك بشكل خاص؛ 4) معالجة الملف الاقتصادي المتردّي بسبب عدم التصديق على الميزانية والاختلاف حول عقود النفط، بسبب عدم تشريع قانون للنفط والغاز، حيث ظل منذ عام 2007 معروضا على البرلمان لكنه لم يتم التوصل إلى اتفاق بشأنه، ويتطلب الأمر أيضا معالجة مشاكل الفساد المستشرية، سواء إداريا أو ماليا وفي جميع مفاصل الدولة وضرورة الضرب بشدة على أيدي المفسدين والمتلاعبين بقوت الناس والأموال العامة، دون إعطاء أية حصانة لأحد لكي يكون فوق القانون؛ 5) معالجة ملف النازحين وهو ملف ضخم ويحتاج إلى جهود جبّارة بالنسبة إلى المسيحيين والإيزيديين والشبك والتركمان، إضافة إلى أهالي الفلوجة والأنبار وصلاح الدين والموصل وديالى وكركوك وحزام بغداد وغيرها، سواء من الجانب الإنساني أو الاجتماعي أو النفسي أو التربوي أو ما له علاقة بالجانب الاقتصادي، ولاسيما المخصصات والمنح المخصصة لهم، وضرورة التعاون مع الأممالمتحدة وهيئاتها المختصة لإعادة النازحين اللاجئين إلى ديارهم وتعويضهم عمّا لحق بهم من غبن وأضرار، ووضع حد لمعاناتهم الإنسانية، ولن يتم ذلك إلاّ بعد القضاء على داعش وأخواتها ووضع مبدإ سيادة القانون في صدارة مهمات الدولة العراقية واجبة الاحترام، خصوصا بالعمل على تعزيز دور السلطة القضائية؛ 6) إعادة العراق إلى محيطه العربي، واستعادة العرب للعراق. ونعتقد أن مباركة دول الخليج، ولاسيّما المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، فضلا عن بقية الدول العربية، للتغيير الذي حصل وترحيبهم بحكومة العبادي، يمكن استثماره إيجابيا باتفاقيات اقتصادية وتجارية وأمنية (لمكافحة الإرهاب) والتشجيع على تعزيز العلاقات الثقافية والفنية والاجتماعية، بما يعيد إلى العراق دوره الكبير ومكانه التاريخي، وفي الوقت نفسه يعيد العرب إلى العراق باعتباره شقيقا فاعلا ومؤثرا في الساحة السياسية والإقليمية، يمكن أن يلعب دوره المنشود سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. إن التسوية الأمريكية الإيرانية التي حظيت، بقبول عراقي وعربي وإقليمي، من خلال التوافق، يمكن أن تنعكس على الدور الذي يمكن للعراق أن يلعبه في إطار العلاقة العربية والخليجية الإيرانية، سواء في موضوع الملف النووي أو غيره، ومثل هذا الدور المتوازن يحتاج إلى استعادة العراق لخاصيته العربية، مثلما يحتاج إلى دعم عربي وخليجي للتوافق مع المحيط الإقليمي، والدور ينطبق أيضا على علاقاته بتركيا. هذه الملفات والاستحقاقات هي برسم حكومة العبادي الذي يحتاج إلى برنامج جديد يتجاوز آثار الماضي السلبية، ومنهج جديد، وأساليب جديدة، تضع الهدف والوسيلة في إطار منسجم ومشترك وموحّد. فهل سيكون بمقدور العبادي وحكومته تحقيق ذلك، أم إنه سيظل يدور في ذات الدائرة المتشرنقة، التي يحوم حولها شبح التقسيم الذي قد يخيّم على العراق، سواء ببقاء داعش -وهو أمر يكاد يكون مستحيلا بعد التحالف الدولي ضدها- أو بزوالها وهو أمر متوقع؟ لكن وحدة الدولة العراقية ومستقبلها في ظل نظام المحاصصة يظل أمرا مشكوكا فيه.