لم يرغب رئيس الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة، عبد السلام بودرار, أول الأمر في إجراء حوار مع «المساء» لسبب واحد هو أنه يعتقد أن أي خرجة إعلامية يجب أن تكون مرتبطة بعمل أنجز على الأرض، في حين أن الهيئة حديثة الولادة وبالكاد ستعقد أول جمع عام لها في ماي المقبل. ولكن بعد إصرارنا تحدث بودرار، القادم من القطاع الخاص ليعين بظهير على رأس مؤسسة عمومية ملحقة بالوزارة الأولى، ينتظر منها الكثير، عن حدود صلاحيات الهيئة بين الزجر والتحسيس والانتقادات الموجهة إليها على هذا المستوى، وكيف ستتعامل مع آفة الرشوة المستشرية في الكثير من القطاعات الحيوية. - سبق لك في لقاء انعقد مؤخرا بالاتحاد العام لمقاولات المغرب أن ركزت على ضرورة محاربة أشكال الاحتكار في الاقتصاد المغربي، إما بالقضاء عليها أو تقنينها أو الحد منها, كيف ترون في الهيئة طريقة مواجهة هذه الاحتكارات في ظل وجود أشكال تسمى «احتكارا قانونيا» وضعته الدولة؟ < طبعا عندما نتحدث عن الجانب الاقتصادي أو الأسس الاقتصادية للرشوة فإن من بين مظاهرها، حسب المتداول عالميا، وجود نوع من اقتصاد الريع، إما معمم أو في بعض القطاعات ولو كانت محدودة، تسمى بؤرا للرشوة. والريع في حد ذاته يعني أن قطاعات في الاقتصاد تكون حكرا على جهات دون أخرى، ولا يتم فيها الاحتكام إلى قوانين شفافة ولا إلى التنافس، أي إلى اقتصاد السوق. وعندما يكون التنافس شريفا وحرا تكون هناك إمكانية قانونية لوجود مواطن قوى وقوى مضادة بعضها يحد البعض الآخر، أي سلط اقتصادية مختلفة يحد بعضها بعضاً، ولما تغيب هذه السلط تبرز سلطة مطلقة أو شبه مطلقة، بمعنى غير محددة، وهذا بالضبط المسبب للرشوة. ولمحاربة الرشوة في الاقتصاد لا بد من الحد من هذه السلط التقديرية، علما أن بعضها لا محيد عنه الآن كتوزيع الماء والكهرباء، الذي يطرح ضرورة استمرار التزويد من جهة، وضمان مساواة المواطنين في هذه العملية من جهة أخرى. و لهذا من اللازم أن تشرف الدولة على هذه المادة الإستراتيجية، وهو ما يمكن تسميته إلى حد ما باحتكار طبيعي. احتكارات أخرى لا نجد لها معنى، مثلا الاحتكارات في مجال نقل الأشخاص، التي كانت مبررة إبان عهد الاستعمار الذي كان يريد ضبط تحركات الأشخاص لأسباب سياسية للحيلولة دون قيام حركة وطنية وحدوث تواصل بين مكوناتها، فضلا عن غياب الفاعلين الخواص للقيام بهذه الخدمة. - لكن ماهو دور الهيئة في التصدي لهذه الاحتكارات؟ < دورنا في الهيئة إزاء مثل هذه الاحتكارات، التي لم تعد مبررة الآن ولو بقوانين، هو مراجعة القوانين والتنظيمات والمساطر لجعلها متطابقة مع المعايير الدولية في هذا المجال، فالقيامة لم تقم بعد تحرير نقل البضائع، وقد يقول قائل إن بعض المناطق النائية لن يؤمن الخواص خطوط نقل إليها لأنها غير مربحة، آنذاك تتدخل الهيئة بتقديم دعم لضمان هذا الربط. - ثمة قطاعات إنتاجية خلقت الدولة فيها ما يشبه احتكارا قانونيا كإنتاج السكر، بحيث تهيمن عليها تقريبا شركة واحدة. < مثل هذه القضايا ينبغي أن تطرح للنقاش العمومي، وشخصيا أعتبر أنه لم تعد الحاجة قائمة للإبقاء على الاحتكار في إنتاج السكر، لأنه لم تعد كما في السابق مادة استراتيجية، فقد كان المغرب يفتقر لصناعة سكرية قبل أن يضع في الستينيات مخططا لإقامتها لتعميم التزود بها على الصعيد الوطني، أسوة بما أنجز في مادتي الحليب والإسمنت. إذن كانت ثمة ضرورة تاريخية لنوع من الاحتكار، بل الحماية لتأسيس هذه الصناعة، وعند تجاوز هذه المرحلة يصبح الأنفع للمواطنين هو فتح الباب للمنافسة المقننة طبعاً. - لكن هل ستتقدم الهيئة بمقترحات للحكومة للحد من الاحتكارات؟ < طبعا، فالمرسوم المحدث للهيئة ينص على أنها تساعد الحكومة في وضع استراتيجية وبرامج عمل في مجال الوقاية من الرشوة، ومن أوجه هذه الوقاية تطبيق القوانين ومراجعتها في ميدان الاحتكارات، بالتمييز بين الضروري منها و ما يجب إزالته أو تقنينه، ومن ذلك رخص نقل الأشخاص والمقالع. هذه الأخيرة يجب ضبطها بوضع حد لسلطة تقديرية غير محددة وغير خاضعة للمحاسبة، هي التي تمنح تلك الرخص، والانتقال إلى وضع تكون فيه القوانين معروفة لدى الجميع وتتم المحاسبة على أساسها، ويتاح المجال للتظلم من لدن الأطراف المتضررة. - أين وصلت هذه المراجعة للقوانين؟ < نحن في بداية الطريق، مع العلم أن هذه المهمة تتطلب وقتاً طويلاً وأنا ألمس في الرأي العام، والصحافة على وجه الخصوص، نوعا من التعطش لتحقيق نتائج مباشرة، لدرجة أن إحدى الصحف نشرت في الصفحة الأولى تقول ها هو قناص ترجيست يعكس رغبة الشباب للسرعة في محاربة الرشوة. أما الحديث عن مقاربة تشاركية لمواجهتها فلا ينتج عنها إلا البطء. أقول لأصحاب هذا الطرح إن من مبادئ الديمقراطية والعمل في المجال العمومي اعتماد المقاربة التشاركية. وعندما نتحدث عن إعادة تأهيل القوانين لجعلها تتلاءم والمعايير الدولية فهذا يعني عملاً يستغرق 3 سنوات : الأولى لإعداد نص قانوني واحد، والثانية لتمريره في مجلسي الحكومة والوزراء، والثالثة للمصادقة عليه في البرلمان. - طرح نقاش حول حدود صلاحيات الهيئة ودورها الاستشاري، وأشير هنا إلى ما قاله الكاتب العام ل«ترانسبرانسي» المغرب في آخر جمع لها، حيث أعرب عن تخوفه من تحول الهيئة إلى مكتب دراسات. ما الذي تقوله بهذا الشأن؟ < التخوفات مشروعة لأننا تأخرنا كثيرا في إنشاء هذه الهيئة، ف«ترانسبرانسي» منذ تأسيسها قبل 13 سنة وهي تطالب بإخراجها إلى حيز الوجود، ولكن لا بد أن تتهيأ الظروف لذلك، فحتى دعوة الجمعية في البداية كانت غير مقبولة، وقيل وكُتب آنذاك أن المجتمع المدني لا دخل له في هذا الموضوع، فهناك قضاة ومحاكم ومفتشون ينبغي أن يقوموا بهذا الدور. ومع الوقت تطورت الأمور على الصعيد الدولي بتطور طريقة تناول الموضوع، وصارت حتى للدول الأكثر غنى والأقل عرضة للرشوة هيئات للتصدي لها، أحيانا تكون تابعة للحكومة وأحيانا أخرى مستقلة. أما المغرب فاختار أن تكون هذه المؤسسة مخصصة للوقاية، وهذا لا يعني أنه لا يعتني بالجانب الزجري، وأعرف أن ثمة عملا مهما لمحاربة الرشوة في القضاء وفي وزارة الداخلية وأجهزة المراقبة فيما يخص الصفقات العمومية، وهناك مؤشرات الآن على مستوى الجماعات المحلية تظهر أن الجانب الزجري غير خاف عن السلطات العمومية، وهو جانب لم تتكلف به الهيئة، علما أن اتفاقية الأممالمتحدة لمحاربة الرشوة تولي أهمية قصوى للجانب الوقائي، وحتى الدول والسلطات التي أعطت الأسبقية للجانب الزجري تعدل الآن مقاربتها للتركيز على الجانب الوقائي كهونغ كونغ التي وضعت لنفسها عشر سنوات لمحاربة الرشوة. - من بين وسائل العمل التي بيد الهيئة طلب المعلومات والوثائق من الإدارات العمومية. فهل الإدارات ملزمة بتقديمها؟ وهل لمستم تعاونا من جانبها لأن البعض يحذر من سد الأبواب أمام الهيئة في هذا الجانب؟ < بموجب المرسوم المحدث للهيئة فالإدارات بشكل خاص ملزمة بإعطاء كافة المعلومات لمباشرة عملنا، ولكن لا نتوفر على سلطات لإرغامها، وبالتالي ينبغي أن نناضل ونستعمل كافة الوسائل القانونية المتاحة من أجل تنفيذ هذا البند. طبعا سنجد إدارات تمتنع عن الإدلاء ببعض الوثائق، آنذاك سنقصد الوزير الأول لإيجاد حل، ولكن لحد الساعة لم نجد من الإدارات العمومية إلا الترحيب، بل هناك تعطش لديها لعمل الهيئة لأنها في وضعية عنوانها «بلغ السيل الزبى» ابتداء من وزارة الداخلية والنقل والتجارة، وقد تلقينا وعودا بمساعدة الهيئة لمواجهة الآفة. - هل يمكن أن ننتظر من التقرير السنوي للهيئة ملامسة الرشوة بكل جرأة في قطاعات حساسة كالأمن والدرك؟ < سنستعمل كل الصلاحيات المخولة لها بكل نزاهة وأمانة، ولا أجد مبررا لمهادنة هذه الجهة أو تلك، في حين أن الخطاب الملكي يدعو إلى أن تكون الهيئة سلطة معنوية، وما يعنيه ذلك من مسؤوليات كبيرة نابعة من أكبر سلطة في البلاد. بالإضافة إلى أنه لست وحدي ولن أقوم بدور البطل المغوار، بل أعمل بمنطق تضافر الجهود، فالهيئة مكونة من عدة مؤسسات، لكل منها مصداقيتها ولن تفرط فيها، وإن كنت سأقدم التقرير السنوي فهناك جمع عام سيناقشه ليصادق عليه، ولا أظن أن هذا التقريرسيهادن جهة ما حتى لو قمت أنا بذلك. خلاصة القول أننا سنقول الحقيقة باللباقة اللازمة لأننا لسنا في حلبة مصارعة. - الأكيد أنكم توصلتم من العديد من الهيئات المدنية بشكاوى وملفات ذات صلة بالرشوة. كم عددها؟ وكيف تتعاملون معها؟ < بمجرد تنصيب الهيئة تقاطرت علينا العشرات من الشكايات في اليوم الموالي عن طريق البريد الإلكتروني، ولكن الأغلبية الساحقة، التي قد تفوق 90 %، لا علاقة لها بالرشوة، بل هي تظلمات في قضايا متنوعة، تعكس تعطش الناس للعدالة ونيل حقوقهم، إذا كلما ظهرت مؤسسة جديدة ترسل إليها الشكايات، وعندما نسأل أصحاب هذه العينة من الرسائل عن ممارسة الرشوة في قضية ما، يردون بالقول: لا بد أنه تم تقديم رشوة في هذه القضية أو تلك. وبالتالي، فإن مجموعة من الشكايات سنحيلها على الجهات المعنية كديوان المظالم، والقضايا التي تتوفر فيها القرائن سيتم تصنيفها وتبت فيها الهيئة، وإذا دعت الضرورة سنحيلها على السلطات القضائية وسنتبع مسارها. - في مجال تحريك المتابعات القضائية في ملفات الرشوة، يشير البعض إلى أن هذا التحريك رهين بالأوامر التي تصدر عن وزارة العدل، وأحيانا لا يتم ذلك في ملفات خطيرة، فهل ستتدخلون لدى الوزارة لتحريك الملفات الراكدة؟ < سنتدخل بجميع الوسائل المتاحة قانونيا، وقد كان لدينا قبل أسبوع لقاء مع وزارة العدل لتتبع الملفات التي سنحيلها على وكلاء الملك مباشرة، وطالبنا بالتحري وفتح تحقيق فيها ، ثم سنقوم بتتبعها دون أن نهملها، وفي آخر السنة سنعد تقريرا بكل ما أنجزناه، وهي مسألة مهمة للوقوف على حصيلة بما أنجز وما لم ينجز. ورغم أننا نساعد الحكومة، فإننا ملزمون بالإشراف على تطبيق الاقتراحات التي نتقدم بها، وتقييم مدى نجاعتها، وهنا تكمن أهمية التقرير السنوي، وحتى الحكومة نفسها ملزمة بإعداد تقرير ترفعه للأمم المتحدة حول الخطوات المنجزة وغير المنجزة.