في دوار لغواوتة في عمق قبائل أولاد زيان، تثار منذ أشهر عديدة ضجة حول مشروع صناعي متخصص في تذويب الرصاص المتأتي من البطاريات المستعملة، مشروع صناعي وسط أراضي فلاحية ودواوير آهلة بالسكان. اليوم بعد قرابة سنة ونصف السنة من بدء نشاط المعمل، يصر السكان على ضرورة تحرك الجهات الوصية لرفع الضرر وتوضيح العلاقة بين ما يحصل بدواويرهم وبين ما تخلفه المداخن والآليات من نفايات.. وبين رواية اختناق السكان ونفوق المواشي، ورواية أن الأمر لا يعدو أن يكون اتهامات باطلة تدخل في باب الأسلحة غير المشروعة التي يستعملها مستثمرون ضد آخرين في قطاع يدر أرباحا كثيرة، تقف رواية ثالثة للمسؤولين تربط كل هذا الضجيج بتسخينات الانتخابات المقبلة وبتربص أعداء النجاح.. "المساء" استمعت إلى الأطراف المعنية وتقدم روايات كل طرف وتبريراته، في انتظار تحرك جهات يفترض أنها تحرص على سلامة البيئة وعلى صحة المواطنين من أجل تبديد كل الشكوك، خاصة أن الأمر يتعلق بعملية تذويب الرصاص المعدن الثقيل الذي تؤكد جميع الدراسات العلمية على خطورته وسميته القاتلة.. ما الذي يخفيه نشاط معمل لتذويب رصاص البطاريات بتراب دوار لغواوتة بإقليم بنسليمان؟ سؤال تتفرع عنه أسئلة كثيرة لا يجد لها سكان مجموعة من الدوائر المشكلة لجماعة موالين الواد أجوبة طالما يظل الغموض سيد الموقف وطالما لا تجد عشرات الشكايات التي خطوها صدى لدى كثير من المسؤولين الذين طرقوا أبوابهم. ولهذا فهم اليوم أكثر إصرارا على إجلاء حقيقة نشاط المعمل ودليلهم حالات الاختناق التي يتعرض لها أفراد أسرهم وحالات نفوق المواشي التي وثقتها عدسات الكاميرا قبل بضعة أسابيع. يقول السكان في الشكايات، التي يلتمسون من خلالها رفع الضرر الذي لحقهم، «إنهم لم يعيروا اهتماما في البداية لافتتاح المعمل، لكونهم لم يكونوا على علم بالمجال الذي سيشتغل فيه، وكذلك لجهلهم بالأضرار الناجمة عنه، لكن مع مرور الأيام أضحى السكان يتعرضون للآثار الناجمة عن التلوث الذي تخلفه مخلفات المعمل، إذ أن غالبية سكان الدوار وسيما منهم الأطفال أصبحوا عرضة للعديد من الأمراض الناتجة عن تلوث الهواء بفعل المواد الخطيرة المتسربة من المعمل». أكثر من ذلك يثير السكان وجود إعدادية بالقرب من المعمل، وهو ما يعرض التلاميذ لأضرار التلوث والنفايات، فضلا عن أن المنطقة التي يوجد بها المعمل المذكور هي منطقة فلاحية، وهو ما أثر كثيرا على المساحات المزروعة وتسبب أيضا في نفوق المواشي التي ترعى بجنبات المعمل نتيجة تسممها بالمخلفات التي يتم التخلص منها بشكل عشوائي». يقول كريم الرايف -أحد شباب الدوار ممن يصرون على أن تتشكل لجنة رسمية مهمتها توضيح العلاقة بين نشاط المعمل -الذي شيد قبل أزيد من سنة ونصف- وبين الضرر الذي يشتكي منه السكان- «إن ضرر المعمل أمر لا يقبل الجدال بالنسبة إلى سكان الدواوير المحيطة به والذين يقدر عددهم بالمئات. ومنذ الأيام الأولى لتشغيله شعرنا بتغير في الهواء خاصة في الليل، حيث يزيد نشاط حرق البطاريات لتذويب الرصاص، ولهذا تحركنا من أجل المطالبة بتوقيف المعمل ونجحنا في ذلك، لأنه تبين للجنة أن المعمل عشوائي ولا يتوفر على أي ترخيص. لكن للأسف فالوضع لم يدم سوى ثلاثة أشهر ليستأنف النشاط وهذه المرة بوتيرة أعلى، وحين استفسرنا مسؤولي الجماعة أُخبرنا أن صاحب المعمل زوده بجهاز لتصفية الغازات المنبعثة، واستجاب لجميع توصيات اللجنة، وهذا كاف لرفع المنع عن نشاطه». «إعادة فتح المعمل شكلت دافعا لمالكه من أجل الاستمرار في خرق القانون»- يقول نجيب قنديل أحد السكان المتضررين- «ولهذا فقد عمد لاحقا إلى توسيع النشاط الذي يشمل مخزنا آخر خصصه لطحن البلاستيك الذي تخلفه البطاريات، واستعان في ذلك بآليات تخلف غبارا كثيفا وضررها يتجاوز أسوار المعمل ليصل إلى الأراضي الزراعية المجاورة». يقول قنديل: «فوجئنا قبل أسابيع بحالات نفوق متتالية لبعض الأبقار التي كانت ترعى على جنبات المخزن الجديد ووصلت في مجملها إلى 5 بقرات وجحشين، وحين وصل صدى الحادث إلى صاحب المعمل، ومن يدعمونه، سارع إلى نقل التجهيزات وتنظيف المخزن حتى أنه خصص 5 شاحنات وعشرات العمال لطلاء الجدران وإخفاء أي معالم لنشاطه الصناعي، وهذا دليل آخر على أن خطرا كبيرا يحيق بالسكان وزراعاتهم ومواشيهم، ومبرر لننتفض ونطالب بإيفاد لجنة مختصة تنهي الكابوس الذي يجثم على أنفاسنا منذ افتتاح المعمل». المعمل يثير اختلالات عديدة، لا تتعلق فقط بطبيعة النشاط الممنوع الذي يزاوله- يقول الرايف- على اعتبار أن مالك المشروع سبق له افتتاح معامل أخرى في عدة جماعات لكنها أقفلت جميعها لاقتناع المسؤولين بخطورة عمليات تذويب رصاص البطاريات. والمعطيات التي نتوفر عليها تفيد أن مالك المعمل سبق له افتتاح معامل أخرى لكن السلطات سارعت إلى إقفالها، وهو ما لم يحصل في جماعة موالين الواد بأولاد زيان بالنظر إلى العلاقة التي تربط مالك المعمل برئيس الجماعة وبعض المستشارين، وهي علاقة كافية لتذليل جميع العقبات التي قد تصادفه. بل أكثر من هذا لدينا شكوك أخرى تتعلق بطبيعة الترخيص الذي حصل عليه، وبكونه ينص على أن المعمل متخصص في صناعة الألمنيوم ولا علاقة له بنشاط تذويب رصاص البطاريات المستعملة، وهذه شبهة أخرى يفترض أن تكشف تفاصيلها لجنة مختصة. هذا دون الخوص في تفاصيل من سمح بنشاط صناعي في منطقة زراعية وآهلة بالسكان؟ علما أن الموقع الذي يحتضن المعمل كان في الأصل عبارة عن مسكن قروي سرعان ما تحول إلى مصنع وتكفي زيارة المكان للوقوف على هذه الحقيقة». إصرار السكان على مطلب توقيف نشاط المعمل، إلى حين إيفاد لجنة مستقلة تكشف الأضرار المحتملة على الصحة وعلى البيئة، خصوصا أنه يتوسط عددا من الدوائر التي يصل تعداد سكانها إلى قرابة 1500 نسمة، وشكوكهم في كون الأدخنة المنبعثة من المداخن هي سبب مباشر في حالات الاختناق التي تصيب الأسر التي توجد منازلها في مسار التيارات الهوائية، تقابلها رواية مخالفة تصنف كل هذه المعطيات في باب الاتهامات المجانية التي تلبس لبوس تصفية الحسابات ليس إلا. يقول سعيد عرورو مالك معمل تذويب الرصاص، إن كل الاتهامات التي يسوقها السكان مجانبة للحقيقة، ونشاط معمله يستجيب لجميع الضوابط التي ينص عليها القانون، والدليل أن النشاط لم ينطلق إلا بعد استيفاء المساطر، وبعد أن أشرت عليه لجنة موسعة من ولاية سطات ومسؤولون عن عدد من المصالح من إقليم بنسليمان، منها قطاع البيئة والصحة والوقاية المدنية وغيرها، ولو ثبت لأي شخص من هذه المصالح أن المعمل يشكل ضررا لما حصلتُ على الترخيص القانوني الذي يحدد طبيعة النشاط في تذويب الرصاص «اللدون» كما يعرف بالعامية، بل أكثر من ذلك استغرقنا أزيد من 7 أشهر لتثبيت المصفاة التي تفرضها مسطرة الترخيص، والتي تمنع تسرب الغازات السامة، وهذا كله موثق وخضع لزيارات تفتيش من لجان مراقبة متعددة». المصدر ذاته يضيف: «ما يثيره السكان عن أنني تعرضت للتوقيف في جماعات أخرى غير صحيح، لأن المعمل الوحيد الذي أملكه هو معمل جماعة موالين الواد، وهو شبيه بالعديد من المصانع المملوكة لشركات أخرى تشتغل في مجال تذويب الرصاص، وبعضها يوجد في أحياء آهلة بالسكان وسط الدارالبيضاء بكل من عين البرجة وأهل لغلام مثلا، ولهذا فلا رابط بين حالات نفوق المواشي وبين نشاط معملي، بدليل أن موقع الحادث بعيد بكيلومترات، وإلى اليوم لم يتقدم أحد بأي شكاية تتهمني بالتسبب في الأمر، وحتى ما يثيره السكان عن حالات الاختناق ليلا فهذا مجرد اختلاق، لأن نشاط المعمل يتوقف في السادسة مساء وهذا أمر يسهل التأكد منه». حسن عكاشة، رئيس جماعة موالين الواد، والبرلماني عن المنطقة يصر بدوره على نفي كل الاتهامات التي يسوقها السكان بخصوص الأخطار التي يشكلها نشاط المعمل ويقول في تصريحات استقتها «المساء» إن الأمر يتعلق بوحدة صناعية صغيرة حصلت على ترخيص بمزاولة نشاطها بعد استيفاء الشروط المنصوص عليها وخصوعها لدراسة لجنة مختصة هي التي أشرت على الملف بعد استجابة صاحبه لشرط تركيب مصفاة كلفته مبلغ 160 مليون سنتيم»، وهو اليوم يشتغل في احترام تام للمعايير القانونية، والغريب أن السكان المحيطين بالمعمل ولا تفصلهم سوى أمتار قليلة لم يتقدموا أبدا بأي شكاية، على خلاف آخرين يقطنون في مناطق تبعد بقرابة 5 كيلومترات، وهذا يطرح علامات استفهام، حول من يحرك هؤلاء». يقول عكاشة في تصريحات استقتها «المساء» اكتشفنا وجود عدد من المعامل المشابهة التي تعتمد التقنيات والمصفاة نفسها في كل من تيط مليل والدارالبيضاء وعين السبع وفي مناطق مأهولة دون أن يطرح أي إشكال، ودون أن يحتج السكان ضدها، في حين يتعرض هذا المعمل للانتقاد. وحتى ما يروجه البعض عن تسبب المعمل في نفوق الماشية فهو كذب لأنه إلى اليوم لا يوجد أي تقرير طبي أو علمي يثبت الصلة بين الحادث وبين مخلفات المعمل الذي يبعد بمئات الأمتار، وأكثر من ذلك لدينا في المنطقة حالات لنفوق ماشية موثقة حدثت حتى قبل أن يتم إنشاء المعمل». الذي فهمنا بعد التحري والبحث- يقول رئيس الجماعة – «أن الأمر لا يعدو أن يكون محاولات من شخص يمارس النشاط نفسه في الدارالبيضاء، وهو من يقف وراء تحريض قريب له يقطن بالمنطقة، بسبب المنافسة التي يشكلها معمل أولاد زيان، والغريب في الأمر أن السكان الذين تقدموا بشكايات في الأشهر الأولى لسنة 2013 عادوا وتراجعوا عنها حين فطنوا للأمر، وتأكدوا أن المشروع يستجيب لجميع الضوابط التقنية والقانونية ولم يشرع في العمل إلا بعد حصوله على تأشيرة اللجنة المشكلة لهذه الغاية، بل «أكثر من ذلك فالأمر يتعلق بتسخينات على أبواب الانتخابات، وهذه فرصة البعض ليعيد فتح ملف تأكد بالملموس أنه قانوني ولا يشكل أي ضرر، وللأسف فالحقيقة هي أن المشروع يثير حفيظة المنافسين ويتحدثون عن مصالح مشتركة تربطني بصاحبه، والحال أن الأمر يتعلق بمستثمر يمكن من توفير فرص شغل للعديد من العائلات، ويمكن الجماعة من مداخيل سنوية نظير الضرائب التي يؤديها، وأولئك الذين يقولون إن الأمر يتعلق بمنطقة فلاحية لا يسمح فيها بأي نشاط صناعي فما عليهم إلا أن يفتحوا ملفات أزيد من 30 مشروعا صناعيا بمجموعة من الدوائر التابعة لهم، فلماذا يصمتون عن نشاطها؟». عكاشة يضيف « لا ننسى أن الأمر يتعلق بمنطقة بورية ومردوديتها تبقى ضعيفة، وهي حال مناطق فلاحية عديدة، ولهذا كان التفكير في فتح المجال أمام المشاريع الصناعية الصغيرة، لتمكين السكان القرويين من فرص شغل إضافية، ثم أليس من الأجدى فتح معامل قانونية بعد استيفائها الشروط البيئية والقانونية بدل منعها، ما يشجع على فتح الأوراش العشوائية، وهذا سيحرم الجماعات من مداخيل ضريبية مهمة؟ التبريرات التي يسوقها مالك المعمل ورئيس الجماعة، لا يبدو أنها تجد صدى لدى المتضررين، ولهذا يصرون على أن حصول المعمل على التراخيص القانونية لا يعفيه من مسؤولية الضرر الحاصل سواء على الصحة أو على الزراعات والماشية، يقول كريم الرايف: «إذا سلمنا بمنطق حصول المشروع –المثير للشبهات- على رخصة، فالأفضل أن يقول رئيس الجماعة للسكان إنه سلم رخصة لصاحب المعمل ليقتل السكان أو يتسبب في نزوحهم من أرضهم، فهذا أرحم من أن يردد حكاية كونه مشروعا استثماريا يخلق الثروة في المنطقة».