منذ زمن بعيد ظل الكتاب يلعب أدوارا طلائعية في حياة الإنسان، ويساعده على التعرف على نفسه وعلى الآخرين. وعلى مر العصور ظهرت ملايين الكتب التي تم تداولها بين الناس، ولكن الكتب التي حافظت على رونقها واخترقت الأزمة والأمكنة قليلة. والسبب في ذلك راجع إلى أن القراءة حاجة قبل كل شيئ، ومن ثم فإن القارئ هو من يمنح الكتاب عمرا مديدا أو يقوم بوأده بمجرد ظهوره. وتلك الحاجة تمليها السياقات المختلفة للقارئ الذي يبحث عن أجوبة مقنعة لأسئلته الكثيرة عما يحيط به. فما الذي يجعل كتابا رأى النور منذ قرون موضوع اهتمام كبير، وما الذي يجعل كتابا حديث العهد محل إهمال كبير؟ وحدها «أمهات الكتب» هي التي تحافظ على راهنيتها وتخترق الأزمنة والأمكنة لتحيى بين الناس. ينتمي زكي نجيب محود (1905 1993) إلى الجيل الثالث من مفكري عصر النهضة. فقد جاء بعد الجيل الأول الذي يمثله محمد عبده والكواكبي وغيرهما، وبعد الجيل الثاني الذي يمثله «المفكرون الليبراليون» الذين يوجد على رأسهم طه حسين. ويمكن اعتباره بمعايير تاريخ الفكر واحدا من المفكرين الذين شكلوا «قنطرة عبور» للانتقال بالفكر العربي من «النهضة» إلى «الحداثة». وعلى الرغم من أنه عاصر جل المعارك الفكرية التي أثيرت في النصف الأول من القرن العشرين، وساهم فيها بشكل أو بآخر، فإن دوره في صياغة الفكر العربي المعاصر خلال هذه المرحلة كان محدودا، وبالتالي لم يفرض نفسه كمفكر عربي إلا ابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين. ومع هذا الفارق الزمني بينه وبين رواد الفكر النهضوي ومنظريه الأوائل، إلا أنه لا يختلف عنهم في موسوعية الثقافة والإسهام في كل مجالات الحياة الثقافية بدءا من «النقد الاجتماعي»، مرورا بالنقد الأدبي، وانتهاء بالفكر الفلسفي. والواقع أن موسوعية الثقافة التي اتسم بها هؤلاء المفكرون على طول النصف الأول من القرن الماضي فرضها الوعي الثقافي آنذاك، الذي كان يشترط في الكاتب والمفكر أن يمر بالصحافة أولا ثم ينتقل إلى التأليف. وهذا ما يفسر اهتمام زكي نجيب محمود بالمقالة الصحفية التي تغطي في حقيقة الأمر جل أعماله المنشورة. ولكن بحكم صفته الأكاديمية، بوصفه أستاذا للفلسفة، سيصبح من رواد الفكر الفلسفي العربي، بل أصبح في مرحلة من مراحل حياته يمثل «التيار الوضعي» في الفلسفة العربية المعاصرة، الذي كان له أتباع في كل أرجاء العالم العربي. خلف زكي نجيب محمود وراءه أكثر من أربعين كتابا، تتوزع بين الفكر والأدب والفلسفة، وتمثل كل مراحل حياته الفكرية الغنية. من أهم هذه الكتب «حياة الفكر في العالم الجديد»، و»الشرق الفنان»، و»المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري»، و»رؤية إسلامية»، بالإضافة إلى تآليفه التي تعرف بالفلسفة المعاصرة وبأعلامها. كما دون سيرة حياته في ثلاثة كتب، هي على التوالي «قصة نفس» و»فصة عقل» و»حصاد السنين» الذي أصدره سنة 1991، أي قبل وفاته بحوالي عامين، وبذلك يعتبر «الحصاد»آخر كتبه. وتعد قضية تجديد الفكر العربي من القضايا الأساسية التي شغلت نجيب محمود طيلة حياته، ذلك أن جل كتبه ومقالاته وأبحاثه تمس بشكل مباشر أو غير مباشر هذه القضية التي يبدو أنها كانت تمثل بالنسبة إليه هاجسا كبيرا. وينبغي أن نشير هنا إلى أن أغلب رواد النهضة كانوا منشغلين بسؤال تجديد الفكر العربي بمعنى ما. ولكن محمود كرس جزءا كبيرا من حياته الفكرية لهذا السؤال، فكانت النتيجة خمسة كتب كلها تصب في اتجاه تجديد الفكر العربي، وهي «نحو فلسفة علمية»، و»تجديد الفكر العربي»، و»المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري»، و»ثقافتنا في مواجهة العصر»، و»قيم من تراثنا». ويمثل كتابه «تجديد الفكر العربي» الذي صدر سنة 1971 واسطة العقد من هذه الكتب، ففيه يعمل على بسط إشكالية الفكر العربي التي تفرض ضرورة «التحول من فكر قديم إلى فكر جديد وإحداث ثورة في اللغة وجعلها ناطقة بمشروع التقدم». وإذا كانت هذه الصياغة لمسألة التقدم تكاد تكون صيغة عامة ومشتركة بين معاصري زكي نجيب محمود، فإنه أعاد صياغتها في مقدمة الكتاب بشكل يميز طرحه عن الآخرين. ففي هذه المقدمة يعترف بأنه منح كل عنايته لدراسة الفكر الغربي لمدة طويلة من الزمن حتى أصبح بالنسبة إليه نمط التفكير الوحيد المتاح. ولكنه في مرحلة لاحقة فطن إلى أن «مشكلة المشكلات في حياتنا الثقافية الراهنة ليست هي: كم أخذنا من ثقافات الغرب، وكم ينبغي لنا أن نزيد، إذا كان الأمر كذلك لهان. فما علينا عندئذ إلا أن نضاعف من سرعة المطابع ونزيد من عدد المترجمين، فإذا الثقافات الغربية قد رصت على رفوفنا بالألوف بعد أن كانت ترص بالمئات. لكن لا. ليست هذه المشكلة». المشكلة الحقيقية التي يواجهها زكي نجيب محمود في «تجديد الفكر العربي» هي: كيف نوائم بين ذلك الفكر الوافد الذي بغيره «يفلت منا عصرنا أو نفلت منه»، وبين التراث العربي الذي بغيره «تفلت منا عروبتنا أو نفلت منها»، وبالتالي كيف السبيل إلى ثقافة موحدة متسقة «يعيشها مثقف حي في عصرنا هذا، بحيث يندمج فيها المنقول والأصيل في نظرة واحدة». يعترف الكاتب بأن مثل هذا التساؤل طرح منذ بداية عصر النهضة وبقي مطروحا لردح طويل من الزمن، ولكن ليس من الإجابات التي اقترحت له «إجابة نحس معها أنها هي التي تقطع الشك باليقين والحيرة بالاهتداء»، وما فتئ هذا السؤال مشرعا على احتمالات وتأويلات متعددة ومتضاربة. كما يعترف بأن في الكتابات التي سبقت كتابه تبسيطا للسؤال بمحاولة الجواب عنه بإنكاره، وذلك بالقول بعدم التعارض بين «أن يكون الرجل مترعا بالثقافة العربية القديمة (...) وأن يكون في الوقت نفسه من أصحاب التخصص الدقيق العميق في ثقافة هذا العصر الذي نعيش فيه». إن ما يميز نظرة الكاتب إلى التراث بالمقارنة مع دارسين آخرين هو دعوته إلى إزاحة النزعة التقديسية عنه والتعامل معه تعاملا «نفعيا» بالمعنى الذي يجعلنا نأخذ من التراث ما نستطيع «تطبيقه اليوم تطبيقا عمليا»، فيضاف إلى الطرائق الجديدة المستحدثة. وكل طريقة توصل إليها القدماء لمعالجة المشكلات الثقافية والحياتية، توصل الغرب إلى طريقة أنجع منها وأصوب، فينبغي طرح الطريقة القديمة وتبني الطريقة الجديدة، ووضع الطريقة القديمة في رف الماضي الذي لا يعني سوى المؤرخين. إن المقياس في الانحياز إلى التراث أو الانحياز إلى الغرب لا ينبني، في اعتقاد زكي نجيب محمود، على أسس أيديولوجية أو دينية وإنما يرتكز على «المنفعة». فإذا كان عند الأسلاف «طريقة تفيدنا في معاشنا الراهن، أخذناها وكان ذلك هو الجانب الذي نحيي به التراث، وأما ما لا ينفع نفعا عمليا تطبيقيا فهو الذي نتركه غير آسفين. وكذلك نقف الوقفة نفسها بالنسبة إلى ثقافة معاصرينا من أبناء أوروبا وأمريكا». إن الطريقة الوحيدة لتحديد «المنفعة» التي يقوم عليها الاختيار بين التراث وبين الغرب هو «العقل، الذي قاد الغرب إلى منهج جديد في التفكير أدى إلى الوصول إلى العلم الحديث. والمنهج العلمي الجديد عند زكي نجيب محمود هو الذي أرسى أسسه رجلان هما: الفيلسوف الفرنسي ديكارت، والفيلسوف الأنجليزي بيكون. الأول أراد أن يكون البحث العلمي منطلقا من فكرة داخلية يوثق في صوابها، والثاني أراد أن ينطلق البحث من الطبيعة الخارجية ومن ملاحظة الظواهر. والرجلان معا التقيا في أن المعرفة ينبغي أن تكون «في الحالة الطبيعية للإنسان السوي». يحرص المؤلف على الدفاع عن التراث من هذه الناحية، ولكن هناك عوامل تحول دون الوصول إلى «عقلانية» التراث و»علميته»، يذكر منها ثلاثة: التوجيه السياسي في قراءة التراث المفروض من قبل السلطات والضغط الذي يمثله التراث على الإنسان العربي المعاصر (الضغط النفسي الذي يترتب عن السلطة المعنوية والروحية للتراث) وادعاء الإيمان بقدرة الإنسان على تعطيل قوانين الطبيعة. من هنا فإن زكي نجيب محمود يدعو إلى حرية الفكر والرأي التي تجعل دارس التراث يحتكم إلى العقل وحده، وأن لا يحس بأن هناك رقيبا يضع له حدود التفكير والنتائج التي يمكن أن يتوصل إليها. فلا مجال للجمع بين الرأي والسيف: «أس البلاء في مجال الفكر هو أن يجتمع السيف والرأي الذي لا رأي غيره في يد واحدة». ومن أجل إبراز الأهمية القصوى التي تحتلها حرية التعبير والرأي في التعامل مع التراث يقوم المؤلف برصد لحظات دالة من التراث العربي تبين كيف أن العرب أضاعوا فرصا ذهبية للتقدم بفعل احتكار السلطة السياسية والسلطة الثقافية في يد سلطة واحدة. ويحلل زكي نجيب طبيعة السلطة التي يمارسها الماضي على الحاضر، وهي شبيهة بسلطة الموتى على الأحياء وتحول التعامل مع التراث من «إعجاب بالقديم إلى تقديس له» يوهم الباحث بأن كل قديم معصوم من الخطأ. إن الإيمان بقدسية التراث تجعل المتعامل معه يستنسخه ويجتره في أحسن الأحول، إنه يعيد إنتاجه في سياق غير سياقه. وهي ظاهرة منتشرة في الثقافة العربية وجهها البارز يتمثل في الشروح والحواشي وحواشي الحواشي... وأخيرا فإن التوصل إلى «قراءة» التراث انظلاقا من هذه الرؤية المنهجية لا يمكن أن تكون ناجعة إلا بالتخلص من الأفكار الغيبية اليقينية التي كثيرا ما تحد من الطاقة الخلاقة للعقل في التوصل إلى جوهر التراث. هذه المعوقات الثلاثة حالت دون فهم علمي للتراث، ولذلك فإن زكي نجيب محمود يسهب في كتابه في الحديث عن النتائج التي ترتبت عن دراسة التراث في غياب العقل. ومن بين تك النتائج أن العربي أصبح أمام «ثقافة لايعيشها» بالمعنى الذي يجعلها غير ذات صلة بمشكلاته المعاصرة. كما أن من النتائج التي ترتبت عن هذه النظرة إلى التراث هذا الصراع الذي يغطي على الساعة الثقافية بين القديم والجديد. ومن أجل تجاوز هذه الوضعية يدعو زكي نجيب إلى إعادة النظر في الفكر العربي انطلاقا من اللغة، ليرسم الملامح الكبرى لما يسميه «فلسفة عربية مقترحة» تقوم بالأساس على حل التناقض بين ثنائية السماء والأرض وبين ثنائية الطبيعة والفن. ويخصص في آخر الكتاب حيزا لتطبيق «نظريته» على التراث من خلال الوقوف على قيمة العقل في التراث والنزعة الإنسانية فيه. حسن مخافي