خرجت الدارجة من تصنيفها كتطويع يومي للعربية المدرسية (حتى لا أقول الفصحى) ودخلت أخيرا مجالا تأمليا شغل البلاد والعباد. هذا الركن اليومي طيلة رمضان يتناول الدارجة كألفاظ في محاولة لرد بعضها إلى أصولها سواء كانت عربية أو غيرها. سلسلة لعبد المجيد فنيش، المسرحي الباحث في الفنون التراثية يتذكر في هذه السلسلة بعض ما تناوله في عدد من البرامج الإذاعية و في عروضه النظرية، خاصة حول فن الملحون وهي مقاربات لا يحتفظ بتسجيلاتها ولا بمسوداتها. البْصير: هذه الكلمة ننطقها في الدارجة بتسكين الباء، ومعناها عندنا هو الأعمى وليس الأعور، إذ أن الأعمى هو الذي فقد العينين معا، في حين أن الأعور هو من فقد إحدى عينيه. ونقلو ل»البصير» في الفصيح والدارجة معا «الكفيف» أو «المكفوف». و»البصير» في الدارجة معناها مخالف تماما لمعناها في الفصيح، حيث تعني الذي «يبصر» و «يرى»، بل الذي يتمتع بنظر ثاقب سديد. ومن الأصل تم اشتقاق كلمة «البصيرة» مع تسجيل الفارق في كون «البصر» مادي محض و»البصيرة» معنوية روحية مرتبطة بالقلب انسجاما مع معناها في القرآن الكريم، حيث ما مفاده أنه لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. وحين يطلق المغاربة كلمة «البصير» على «الأعمى» فذلك من فرط تضامنهم المعنوي مع هذا الكفيف وتأكيدهم على أن نقاء البصائر أهم بكثير من حدة البصر. العافية: كلمة في الفصيح تعني الصحة الجيدة خاصة بعد تجاوز وعكة ما. ومن الأدعية المتداولة « اللهم إنا نسألك العافية ودوام العافية والشكر على العافية» ومنها التعافي والمعافاة، ويمكن إدراج العفو كذلك ضمن عائلة هذه الكلمة، إذا اعتبرنا أن العفو هو مفتاح لتجاوز عقوبة أو انتكاسة وما شابه ذلك من المكروهات. أما في دارجتنا، فهذه الكلمة تعني شيئا آخر مخالفا تماما للأصل وهو «النار»، ونجمعها في الدارجة بقولنا «العْوافي» بتسكين العين. ويمكن إيجاد صلة وصل تربط بين المعنى في الأصل والمعنى في الدارجة، وهو كون النار بقدر ما هي قاتلة بقدر ما هي من أهم عوامل استمرار الحياة، إذ أنها أحد المكونات الحياتية، أي «النار، الماء، الهواء، التراب»، ولعل الصلة الأكثر وثوقا تكمن في كون النار قاتلة لكل ما يمكن أن يؤثر على الصحة، ولذلك ذهب الحكماء والأطباء إلى الإجماع بأن آخر الدواء «الكي»، والكي لا يمكن ألا يكون إلا بالنار بغض النظر عن أسلوب هذا الكي هل هو تقليدي أم كيميائي حديث. ومن منطلق أن العافية هي النار في دارجتنا وأن النار هي الحارقة المحرقة، فإن المغاربة كلما أرادوا التعبير عن شيء حارق إلا ووصفوه ب»العافية»، ومن ذلك قولنا «العافية شاعلة في السوق» وهو تعبير مجازي عن غلاء الأسعار، كما تستعمل هذه الكلمة في الدارجة لوصف حالة الاحتراق الداخلي خاصة عند المحبين أو عند المكلومين كقولنا «العوافي شاعلة في الصدر».
القشابة: كلمة تدل في الدارجة على لباس تقليدي للرجال والنساء معا، وغالبا ما يكون متسعا غير ملتصق بالجسم حيث تتيسر معه الحركة. و في المعنى المجازي يعتبر المغاربة صاحب الصدر الرحب الذي لا يتضايق من اللوم والعتاب والنقد بقولهم «فلان قشابتو واسعة»، وفي هذا الإطار تستعمل كذلك تعابير من قبيل «غادي نشد فقشابة فلان» ونقول كذلك «خليونا نقشبو شوية» أي دعونا نغتنم الوقت لنرفه عن الأنفس. وتأخذ هذه الكلمة معنى آخر، فيه شيء من التحقير والتصغير من قبيل قولنا «الحفلة لي دار فلان قشيشبية» بمعنى أن فلانا أقام حفلا متواضعا. ونشتق من الكلمة كذلك اسم فاعل حيث نقول «فلان قشاشبي»، أي أن فلانا معروف بنوادره ونكته وطرائفه. والمعنى الأصلي لهذه الكلمة هو «قشيبة» بفتح القاف وكسر الشين، وغالبا ما نستعملها في وصف لباس زاه وجميل، أو في وصف هيئة أو حالة كقولنا «حلّة القشيبة» أي إطار جميل كقولنا «أقامت المدرسة حفلا قشيبا بمناسبة نهاية السنة الدراسية»، أو قولنا «ازدهت الطبيعة في حلة قشيبة». عبد المجيد فنيش