إسرائيل تستهدف قياديا في "حزب الله "    معرض الفرس بالجديدة يواصل جذب الزوار.. و"التبوريدة" تلقى متابعة واسعة    جمارك عبدة تحرق أطنانا من المخدرات    محنة النازحين في عاصمة لبنان واحدة    هل تغيّر سياسة الاغتيالات الإسرائيلية من معادلة الصراع في الشرق الأوسط؟    بايتاس يُشيد بالتحكم في المديونية    انضمام المغرب إلى الاتحاد الإفريقي و"طرد البوليساريو".. مسارات وتعقيدات    مشفى القرب بدمنات يواجه أزمة حادة    طرائف وحوادث الإحصاء    "النملة الانتحارية".. آلية الدفاع الكيميائية في مواجهة خطر الأعداء    بذل عمل جديدة لعناصر الجمارك "توضح تراتبية القيادة" شبه العسكرية    فاتح شهر ربيع الآخر 1446 ه يوم السبت 5 أكتوبر 2024    بايتاس: الحكومة تتابع عن كثب أوضاع الجالية المغربية المقيمة بلبنان    المياه المعدنية "عين أطلس" لا تحترم معايير الجودة المعمول بها    رسميا: فيفا يعلن عن موعد انطلاق مونديال كرة القدم سيدات تحت 17 في المغرب    الحسيمة.. عائلة من افراد الجالية تتعرض لحادثة سير خطيرة على طريق شقران    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    إسبانيا على وشك خسارة استضافة مونديال 2030 بعد تحذيرات الفيفا    أسعار النفط العالمية ترتفع ب 5 في المائة    الملك يهنئ رئيس الحكومة اليابانية الجديدة    "مجموعة العمل من أجل فلسطين": الحكومة لم تحترم الدستور بهروبها من عريضة "إسقاط التطبيع" ومسيرة الأحد تؤكد الموقف الشعبي    مومن: قائمة المنتخب المغربي منطقية    بايتاس: الحكومة تتابع عن كثب أوضاع الجالية المغربية المقيمة بلبنان        مشروع هام لإعادة تهيئة مركز جماعة "قابوياوا"    "درونات" مزودة بتقنية الذكاء الاصطناعي لمراقبة جودة البناء    الركراكي: الانتظام في الأداء أهم المعايير للتواجد في لائحة المنتخب المغربي    فتح باب الترشيح لجائزة المغرب للكتاب 2024    الركراكي يساند النصيري ويكشف هوية قائد المنتخب    حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية تدخل شهرها الأخير    أخبار الساحة        أعترف بأن هوايَ لبناني: الحديقة الخلفية للشهداء!    مهرجان سيدي عثمان السينمائي يكرم الممثل الشعبي إبراهيم خاي    قراصنة على اليابسة    مقاطع فيديو قديمة تورط جاستن بيبر مع "ديدي" المتهم باعتداءات جنسية    عبد اللطيف حموشي يستقبل المستشار العسكري الرئيسي البريطاني للشرق الأوسط وشمال إفريقيا    استدعاء وزراء المالية والداخلية والتجهيز للبرلمان لمناقشة تأهيل المناطق المتضررة من الفيضانات    "جريمة سياسية" .. مطالب بمحاسبة ميراوي بعد ضياع سنة دراسية بكليات الطب    بسبب الحروب .. هل نشهد "سنة بيضاء" في تاريخ جوائز نوبل 2024؟    جائزة نوبل للسلام.. بين الأونروا وغوتيريس واحتمال الإلغاء    إطلاق مركز للعلاج الجيني في المملكة المتحدة برئاسة أستاذ من الناظور    مؤتمر علمي في طنجة يقارب دور المدن الذكية في تطوير المجتمعات الحضرية    الذكاء الاصطناعي والحركات السياسية .. قضايا حيوية بفعاليات موسم أصيلة    القطب الرقمي للفلاحة.. نحو بروز منظومة فلاحية رقمية فعالة        وقفة أمام البرلمان في الرباط للتضامن مع لبنان وغزة ضد عدوان إسرائيل    مندوبية طنجة تعلن عن منع صيد سمك بوسيف بمياه البحر الأبيض المتوسط    المغرب يشرع في فرض ضريبة "الكاربون" اعتبارا من 2025    مستقبل الصناعات الثقافية والإبداعية يشغل القطاعين العام والخاص بالمغرب    مغربي يقود مركزاً بريطانياً للعلاج الجيني    الرياضة .. ركيزة أساسية لعلاج الاكتئاب    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    دراسة: التلوث الضوئي الليلي يزيد من مخاطر الإصابة بالزهايمر    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    موسوعة تفكيك خطاب التطرف.. الإيسيسكو والرابطة المحمدية للعلماء تطلقان الجزئين الثاني والثالث    اَلْمُحَايِدُونَ..!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هذه حكاية سبعة أناشيد وطنية تغنى وتعزف في الملعب وأرض المعركة
ألمانيا اقتصرت على فقرة منه وأمريكا كتب شعر نشيدها شاعر هاو والحسن الثاني شارك في كتابة النشيد الوطني المغربي
نشر في المساء يوم 25 - 06 - 2014

النشيد الوطني، أو تحية العلم، تقليد دارج في المسابقات الرياضية، وفي كرة القدم تحديدا. يتحول عزف النشيد الوطني للفريقين المتنافسين، قبل بدء المباراة، إلى استعراض حماسي للاعبين وللجمهور. لكن من كتب هذه الكلمات المختصرة الموجزة، التي تؤرخ لحكاية شعب وتطلعاته وتختصر شعاره كأمة، وتقدمه إلى العالم كحامل رسالة؟ ومن ألف موسيقى تلك الأناشيد وحولها إلى قطع موسيقية تعزف في الحرب والسلم، وتنشد الحياة وتبصم ملامح من سيرة شعب من الشعوب؟
تلك هي الأناشيد الوطنية. ووراء كل نشيد حكاية وشاعر ومؤلف موسيقي.أناشيد تعزف بالموسيقى والكلمات، وأخرى استعارت الموسيقى واستغنت عن القصيد، لأسباب تتعلق بالهوية الثقافية والتعدد اللغوي.
ولعل مناسبة المونديال فرصة لتسليط الضوء على بعضها، وإعادة إنتاج سياقاتها كمادة أدبية وفنية.

النشيد الوطني الفرنسي.. من أغنية حرب إلى نشيد للحرية
نشيد «لامارسييز» كان في الأصل أغنيةً حرب ثورية ونشيداً للحرية، ثم تحول تدريجياً إلى النشيد الوطني الفرنسي.
وقد ألّف الضابط الفرنسي روجيه دي ليل، الذي كان يؤدي خدمته العسكرية في ستراسبورغ، «أغنية الحرب لجيش الراين» في ليلة 25 و26 أبريل 1792 في منزل عمدة المدينة ديتريش، بعد إعلان ملك فرنسا الحرب على النمسا.
وجعلت الجمهورية الثالثة (1879) من «لامارسييز» النشيد الوطني، واعتمدت وزارة الحرب في عام 1887 «الصيغة الرسمية» للنشيد بناءً على مشورة لجنة مختصة.
انتشر نشيد «لامارسييز» في غضون أسابيع في منطقة الألزاس مدوناً أو مطبوعاً، ثم تولى العديد من الناشرين الباريسيين نشره. وأدّت الصيغ المجهولة للإصدارات الأولى للنشيد إلى التشكيك في أن روجيه دي ليل هو مؤلفه، لا سيما أنه يعتبر مؤلفاً متوسطاً.
هناك صيغ عديدة لنشيد «لامارسييز»، الذي تم تلحينه بصيغ مختلفة منذ البداية، مع أو بدون غناء. وقد حدّدت لجنة عام 1887، التي كانت مؤلفة من موسيقيين محترفين، الصيغة الرسمية للنشيد بعدما قامت بتنقيح النص التلحيني والإيقاع.
وكان الرئيس فاليري جيسكار ديستان يرغب في الرجوع إلى الأداء الأقرب إلى الأداء الأصلي للنشيد، فأمر بإبطاء إيقاعه. والصيغة التي تعزف في يومنا هذا في المناسبات الرسمية هي صيغة معدّلة لنشيد عام 1887. وبموازاة ذلك، قام عدد من موسيقيي المنوعات والجاز بإعادة توزيع «لامارسييز».
من كلمات النشيد نقتطف التالي:
فهيا يا بني الأوطان هيا
فوقت فخاركم لكم تهيا
أقيموا الراية العظمى سويا
وشنوا غارات الهيجا مليّا
عيكم بالسلاح أيا أهالي
ونظم صفوفكم مثل اللآلي
وخوضوا في دماء أولي الوبال
فهم أعداؤُكم في كل حال
وجودهم غدا فيكم جليا
بنا خوضوا دماء أولي الوبال
أما تصغون أصوات العساكر
كوحش قاطع البيداء كاسر
وخبث طوية الفرق الفواجر
ذبيح بنيكم بظباء البواتر
ولا يبقون فيكم قط حيا
فماذا تبتغي منا الجنود
وهم همج وأخلاط عبيد
كذا أهل الخيانة والوغود
النشيد الوطني الإسباني.. عزف بدون نشيد
حسب المؤرخين، هناك فرضيتان لمصدر اللحن الأصلي للنشيد الوطني الإسباني.
الأصل البروسي: يرجح أن يكون فريدريخ الثاني ملك بروسيا، الذي عرف بولعه بالموسيقى، مبدع اللحن الأصلي. ويحتمل أن يكون أهداه في القرن الثامن عشر إلى أحد القادة العسكريين الإسبان إبان فترة تدريبهم ضمن الجيش البروسي.
ثم هناك الأصل الأندلسي: في 2007، اكتشف الباحثان الموسيقيان المتخصصان في موسيقى العصر الوسيط في إسبانيا، عمر المتيوي وإدواردو بانياغوا، مقطوعة موسيقية كتبها الفيلسوف السرقسطي ابن باجة في القرن الثاني عشر. وهي توشية لنوبة الاستهلال ذات لحن شبيه باللحن الحالي للنشيد الوطني الإسباني. وقد تم تأكيد التشابهات بين المقطوعتين من طرف الموسيقار الإسباني تشابي بينيدا (Chapi Pineda)
يعتبر النشيد الوطني الإسباني من الأناشيد القليلة عالميا، التي تعزف دون كلمات، على غرار أناشيد سان مارينو والبوسنة والهرسك (إنترميكو). وعبر تاريخه، عرف النشيد عدة محاولات لإغنائه بكلمات، بطريقة رسمية أو غير رسمية، إلا أنها لم تلق إجماعا أو قبولا بين مكونات المجتمع الإسباني.
ولم تخضع حتى صيغة حكومة خوسي ماريا أثنار بالقبول، والتي كتبتها، بتكليف من الحكومة الإسبانية، مجموعة من الأدباء الإسبان مختلفي المشارب الإيديولوجية والجهوية، من بينهم خون خواريستي (Jon Juaristi) وأبيلاردو ليناريس (Abelardo Linares). وقد تم إقبار المشروع لرغبة المشهد السياسي، المتوتر آنذاك، في تفادي الدخول في جدال سياسي حول موضوع حساس كإشكالية النشيد الوطني الإسباني.
كما فشلت صيغة ثانية قدمت في 2007، لكن تسريبها إعلاميا، أجهضها في المهد.
النشيد الوطني البرازيلي.. مسحة إيطالية
لحن النشيد الوطني البرازيلي على يد فرانسيسكو مانيول دي سيلفا في 1882، وبعد الكثير من التغيرات في النشيد في 1922 اعتمد كنشيد رسمي لجمهورية البرازيل على يد جواكيم دوكي استرادا، ولحن كنشيد يميل إلى النغمات الإيطالية الرومانسية كألحان الموسيقار جواكينو روسيني.
من كلماته:
إذا كان شك في المساواة بيننا
فسوف نتغلب عليه بأيد قوية في قلبك الحرية
نتحدى بصدورنا حتى الموت بذاته!
أيها الوطن الحبيب
الوطن العظيم
يحميك! يحميك!!
البرازيل حلم عظيم، شعاع مضيء
من الحب والأمل يملأ أرضك
في السماء الجميلة والمشرفة
صورة كروزيرو فيها متألقة.

النشيد الوطني الأرجنتيني
كتب كلمات النشيد الوطني الأرجنتيني بيسينتي لوبيث وبلانيس، ولحنه بلاس باريرا سنة 1813. وهو في العمق لا يختلف عن الأناشيد السابقة من الحقل الدلالي الذي يسبح فيه. فهناك دائما تركيز على الحرية وتكسير الأغلال والوحدة وتمجيد الشعب وسلطته، وتوقه الدائم إلى الرقي وإلى المجد، رغم كل الكوابح والصعاب.
من كلمات هذا النشيد :
اسمعوا يا إنسان الصرخة القدسية
يا حرية.. يا حرية.. يا حرية
اسمعوا ضوضاء الأغلال المكسورة
شاهدوا في عرش المساواة الشريفة
ويا أحرار العالم قولوا: سلام للشعب الأرجنتيني الكبير
النشيد الوطني الإيطالي.. مائة عام من الانتظار
إيل كانتو ديلي إيتالياني بالإيطالية Il Canto degli Italiani، وتعني نشيد الإيطاليين. وهو النشيد الوطني الإيطالي. ويشتهر هذا النشيد بين الإيطاليين باسم «إينو دي ماميلي» (بالإيطالية Inno di Mameli)، وتعني قصيدة ماميلي. كما يعرف أحيانا باسم «فراتيلي ديتاليا»، أي إخوة إيطاليا (بالإيطاليةFratelli d'Italia ). كتب النشيد جوفريدو ماميلي في عام 1847 م في جنوى، وفي 12 أكتوبر 1946، أي بعد حوالي مائة سنة من كتابته، اعتمد كنشيد وطني لإيطاليا.
من كلمات النشيد الوطني الإيطالي:
إخوة إيطاليا
إيطاليا استيقظت
بخوذة سيبيو
ربطت رأسها
أين النصر؟
اخذل قوسها
لأجل الله جعلها عبدة روما
دعنا نرتبط في مجموعة
نحن مستعدّون للموت!
نحن مستعدّون للموت!
رحّبت إيطاليا بنا!
دعنا نرتبط في مجموعة
نحن مستعدّون للموت!
نحن مستعدّون للموت!
رحّبت إيطاليا بنا!
النشيد الوطني الألماني.. فقرة واحدة للغناء
كتب كلمات النشيد الوطني الألماني الشاعر هينرخ هوفمان فون فالرسلبن عام 1841، ثم تم تركيب مقطوعة موسيقية من تأليف يوزف هايدن تعود إلى القرن الثامن عشر على تلك الكلمات التي كانت تقسم إلى ثلاثة مقاطع قبل أن يضاف المقطع الرابع مطلع القرن العشرين. وهذا النشيد عبارة عن تأييد مؤلفه لتوحيد الدويلات الألمانية في قيصرية موحدة. ولذلك يعتبر بعض المؤرخين التفسير الأصلي لكلام «ألمانيا فوق كل شيء في العالم» بمعنى: يجب أن تكون مصالح عموم الألمان فوق مصالح الدويلات. وقد تم استغلال هذه النقطة من قبل النازيين، فاستخدموا الربع الأول فقط لينسجم مع مناداتهم بالتفوق العرقي للجنس الآري.
في 11 غشت 1922 تم الإعلان عن الفقرات الثلاث الأولى نشيدا وطنيا رسميا للجمهورية الألمانية التي أقيمت بعض الحرب العالمية الأولى (جمهورية فايمار). بعد أن تولى الحزب النازي الحكم في ألمانيا عام 1933 تم حذف الفقرتين الثانية والثالثة لتبقى الفقرة الأولى فقط هي النشيد الألماني. وفي هذه الفقرة توصف حدود ألمانيا من نهر الماس إلى نهر نيمن، أي من هولندا وبلجيكا غربا إلى ليتوانيا شرقا. وبعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية ألغيت مكانة النشيد الرسمية، حيث تبنت ألمانيا الشرقية نشيدا وطنيا جديدا، بينما بقيت ألمانيا الغربية دون نشيد وطني.
في 1952 أقر رئيس ألمانيا الغربية استخدام الفقرة الثالثة من النشيد كأنها نشيد ألمانيا الوطني عند الحاجة، دون تحديد مكانة رسمية لها. أما الفقرتان الأوليان للنشيد فكانتا محظورتين. وبعد إعادة توحيد ألمانيا عام 1990 أصبحت الفقرة الثالثة نشيدا وطنيا لألمانيا الموحدة، ولكن مكانتها ما زالت غير رسمية.
ويسمى النشيد الألماني أيضا «أغنية الألمان (Das Lied der Deutschen) «. واليوم لا تغنى أو تعرض إلا الفقرة الثالثة من النشيد، بينما حظر في ألمانيا الغربية، سابقا، قبل توحيد الألمانيتين، غناء الفقرتين الأوليين أو اقتباسهما باستثناء الاقتباس لأغراض تعليمية.
وتقول الفقرة الأخيرة من النشيد:
وحدة عدالة وحرية
للوطن الألماني!
لأجل ذلك علينا النضال
بإخوة بقلب ويد!
وحدة عدالة وحرية
هم رهن الرخاء
أزهر بنور هذا الرخاء
أزهر أيها الوطن الألماني
النشيد الوطني الأمريكي..قصيدة للشاعر سكوت
الراية الموشحة بالنجوم بالإنجليزية (The Star Spangled Banner) هو النشيد الوطني الأمريكي. كلماته مستمدة من «دفاع عن قلعة ماك هنري»، وهي قصيدة ألفها فرانسيس سكوت عام 1814، وهو محامٍ وشاعرٌ هاوٍ. مناسبة كتابته كانت بعد أن رأى الشاعر قصف حصن ماك هنري من قبل سفن البحرية الملكية البريطانية في مدينة بالتيمور عام 1812.
لحنت القصيدة على نغم أغنية بريطانية مشهورة، كتبها جون ستافورد سميس ل»أناكريونتيك سوسيتس»، وهو ناد للرجال في لندن ببريطانيا. اللحن كان مشهوراً أصلاً في الولايات المتحدة، فنظمت عليه قصيدة الراية الموشحة بالنجوم، وأصبحت النشيد الوطني في 31 مارس 1931.
من كلمات النشيد:
قل أيمكنك أن ترى مع ضوء الفجر المبكر
ما أشدنا به بفخر مع آخر لمعات الشفق
ذي التقليمات الواسعة والنجوم الساطعة، خلال المعركة المحفوفة بالمخاطر وفوق الأسوار شاهدناه يرفرف ببسالة
ووهج الصواريخ الأحمر، وانفجار القنابل في الهواء
دلّ خلال الليل أن علمنا كان لا يزال موجوداً
قل ألا تزال هذه الراية الموشحة بالنجوم ترفرف
على أرض الأحرار وموطن الشجعان؟
حكيم عنكر
الحسن الثاني يأمر علي الصقلي بكتابة كلمات النشيد الوطني المغربي سنة 1970
كتب كلمات النشيد الوطني المغربي الشاعر المغربي مولاي علي الصقلي الحسيني ولحنه ليو مورغان. وهو النشيد الوطني الرسمي للمغرب منذ الاستقلال سنة 1956. في البداية كان النشيد الوطني المغربي عبارة عن لحن موسيقي فقط دون كلمات إلى غاية 1970.
وحين تأهل منتخب كرة القدم لكأس العالم بالمكسيك، كأكبر محفل عالمي تعزف فيه الأناشيد الوطنية آنذاك، أمر الملك الراحل الحسن الثاني الشاعر علي الصقلي بكتابة كلمات النشيد الوطني والحفاظ على نفس اللحن ليردده اللاعبون بالمكسيك أثناء عزف النشيد، وقد أدخل الملك الراحل عدة تحسينات على كلمات النشيد.
ويعود الفضل إلى الجنرال ليوطي في إبداع نشيد وطني خاص بالمملكة، وكان عبارة عن تحية ملكية تعزف في فترة حكم المولى يوسف كتحية ملكية، un salut royal ، وهي عبارة عن ألحان دون كلمات كانت تعرف باسم النشيد الشريف lhymne chérifien قام بتلحينه الكابتن الفرنسي ليو مورغان رئيس الفرقة الموسيقية للحرس الشريفي .
وبعد حصول المغرب على الاستقلال جرت محاولات لصياغة أناشيد أخرى تعبر عن الأمة المغربية لكن لم يحالفها النجاح. وقد ظلت موسيقى مورغان ألحانا دون كلام، وستظل هي المعتمدة كنشيد وطني يعزف في المناسبات الوطنية والزيارات الملكية.
وهذه هي كلمات النشيد:
منبت الأحرار، مشرق الأنوار
منتدى السؤدد وحماه، دمت منتداه وحماه
عشت في الأوطان، للعلى عنوان
ملء كل جنان، ذكرى كل لسان
بالروح، بالجسد، هب فتاك، لبى نداك
في فمي وفي دمي هواك ثار نور ونار
إخوتي هيا، للعلى سعيا
نشهد الدنيا، أن هنا نحيا
بشعار الله الوطن الملك
كرة القدم ومأسسة العنف
الرياضة إجابة ثقافية باعتبارها حقلا اجتماعيا تعمه أنشطة تحرر الروح الإنسانية
كيف نفسر انتقال نشاط ترفيهي يسمى «رياضة» (نشأ في المجتمع الانجليزي) إلى نمط من المنافسة المعترف بها، والمقبولة على المستوى العالمي؟ للإجابة عن هذا السؤال يجب أولا التخلي عن إجابتين سائدتين: الأولى تقوم على معايير تقنية لتصنيف أنواع الأنشطة الرياضية حسب أهمية مفترضة (مثل التربية الجسدية، التربية النفسية والاجتماعية....). والثانية تعتبر الرياضة انعكاسا للظروف الاقتصادية والاجتماعية الخاصة بالنظام الرأسمالي، وتختزل وظيفتها في تحويل وعي الجماهير عن الصراع الطبقي. إن هاتين الإجابتين تتراوحان بين اعتبار الرياضة نشاطا مستقلا تماما عن المجتمع أو اعتبارها خاضعة بالمطلق لتناقضات المجتمع وللسلطة المسيطرة.
إن المقاربة السوسيولوجية للرياضة تقوم على فرضية أساسية تعتبرها حقلا اجتماعيا متميزا من جهة، وله علاقات قوية مع باقي الحقول الاجتماعية الأخرى من جهة ثانية. فبرصد نشأة الرياضة وتطورها مند بدايتها كنشاط جماعي منظم في المجتمع الانجليزي للقرن 19 استطاع N.Elias رسم تشكيلاتها الخاصة بالارتباط مع أنماط الحكم السياسي، وشكل الترابطات الاجتماعية بين الأفراد والجماعات، وأساسا مع فرع من «الاقتصاد العاطفي».
إن جينيالوجية الدولة القومية مع بداية عصر النهضة الأوروبي تعتبر المنطلق الأساسي لتعقب مسار الرياضة داخل المجتمع. ذلك أنه مند قيام الدولة القومية على احتكار العنف المشروع بتعبير فيبر، والقضاء على أشكال العنف الخاص بالأفراد أو الجماعات، تحولت النزاعات السياسية داخل المجتمع إلى منافسة سلمية تقوم على قواعد متفق عليها تضبط علاقات السلطة. لهذا كانت الرياضة، كنشاط جماعي منظم، والبرلمان، كمؤسسة لتنظيم السلطة السياسية سلميا، مترابطين من حيث النشأة التاريخية. إن قواعد الرياضة تعيد إنتاج القواعد التي تحكم حقول اجتماعية كحقل السياسة الذي تسود فيه سلوكات قائمة على التوافق والانتخابات، أي على حرية الأفراد والمساواة فيما بينهم.
فالرياضة، كنشاط جسدي وذهني، تقوم على الرفض القاطع للعنف الذي يعرض جسد الفرد للخطر وتعتمد على التحكم في السلوكات، ومراقبة الذات وضبط الميولات العنيفة التي يمكن أن تظهر عند ممارستها. بهذا المعنى يمكن تعريف الرياضة على أنها شكل من المعركة يخلق متعة المواجهة الواقعية، ويجنب في نفس الوقت مخاطر الإصابة والموت المتلازمين لأي معركة حربية. وهي بهذا تسمح بحصر وضبط مختلف التوترات التي تخلقها عملية المراقبة الاجتماعية وتعطيها مجالا للبروز وفق شكل اجتماعي مقبول. لهذا فإن تاريخ الرياضة مرتبط بتاريخ العنف، وبالتالي بتاريخ الإكراهات والمعايير التي تقيمها الدولة كشكل سياسي لمركزة العنف. فالتوترات، التي لا تستطيع الدولة منع ظهورها، تحاول أن تسمح لها بأن تعبر عن نفسها في حقل اجتماعي مراقب ومضبوط، هو حقل الرياضة لأن الصراع والنزاع في هذا الحقل مقبول اجتماعيا وسياسيا.
هكذا فإن الرياضة إجابة ثقافية باعتبارها حقلا اجتماعيا تعمه أنشطة تحرر الروح الإنسانية من العواطف الهدامة والعنيفة التي قد تسكنها. فالأنشطة الرياضية تلعب وظيفة «التطهير» داخل المجتمعات الحديثة. فالتطهير الذي كانت تلعبه التراجيديات اليونانية بالنسبة لأرسطو، بتقديمها عروضا مسرحية تتضمن عواطف الحب والشفقة والرعب، وتخلص جمهورها عبر تطهيرهم منها، هو نفسه الدور الذي تلعبه اليوم الرياضة في المجتمعات الحديثة. فالرياضة تسمح للعواطف المضبوطة والمراقبة أن تعبر عن نفسها مهما كانت عدوانية أو حادة، إنها حقل للتنفيس والترويح عن الفرد، يجعله يعبر عن توتراته في أنشطة تنافسية منظمة ومراقبة، لهذا ارتبطت الرياضة، تاريخيا، بعواطف مرتبطة بالعنف.
بيد أن هذه الإجابة الثقافية لا تعني أن المجتمعات الحديثة، بفعل اهتمامها بالرياضة، خلت من العنف وتخلصت منه. لقد بينت أبحاث فوكو أن الحروب لم يسبق لها أن كانت أكثر دموية مثل ما هي عليه منذ القرن التاسع عشر، إذ أصبحت تقام باسم وجود الكل، وتحرض شعوبا بأكملها على أن تتقاتل فيما بينها تحت ذريعة الحق في الحياة (3). كل ما هناك هو أن الحضارة الصناعية قننت العنف ومأسسته، وأصبحت الرياضة مجالا لظهور عواطف عنيفة ومراقبة، وقابلة لأن تستعمل وتعبأ لأغراض جماعية سياسية، ضامنة بذلك استمرار تنشئة اجتماعية قائمة على مفاهيم المنافسة والنزاع. فالفرد الرياضي (ممارسا كان أو جمهورا) يعيش على الدوام عواطف الصراع والمنافسة بشكل سلمي مراقب، إلا أنه يبقى دائما فردا قابلا لأن يعبأ بواسطة هذه العواطف، من طرف الدولة لأغراض نزاعية، مثل الحرب.
إن الاستراتيجيات السياسية والتربوية للرياضة في جميع المجتمعات الحديثة قائمة على هدفين اثنين: الأول هو السعي للحصول على أجساد رياضية قريبة إلى الكمال، وشرعنة التفوق الفردي الناجم عن المنافسة. أما الهدف الثاني فيتمثل في السعي إلى إنتاج وعي هوياتي وعواطف جياشة تقوي الانتماء للجماعة والوطن. فعبر تمجيد الكفاءات الفردية والمنافسة المضبوطة المختلفة والمتراتبة تشتغل الرياضة على تحويل عنف الفرد «عبر تكنولوجية متميزة للسلطة تسمى الانضباط» إلى طاقة تخضع لقواعد ومبادئ اجتماعية غير محايدة تصب كلها في خلق وعي «وطني» شعبي يساهم في شرعنة سلطة الدولة وتقوية سلطتها الرمزية.
لحسن خوخو خليل *
* باحث مغربي في علم الاجتماع
الفيلم المغربي بين السينما واللاسينما
يتميز الإنتاج السينمائي المغربي في السنوات الأخيرة بوفرة كمية تثير الانتباه. ويبقى هذا الإنتاج في حاجة إلى قراءة نقدية تدعمه بالتقييم وتساهم في إنعاشه بواسطة الغربلة والترتيب. إن المخرج المغربي في حاجة ماسة إلى رؤية صورته منعكسة على مرآة النقد، حتى يتسنى له تطوير أعماله وتجديد أدوات الوعي والكتابة. ومساهمة منا في هذا المشروع الفني والثقافي سنقوم بقراءة مكثفة للمنجز الفيلمي للسنوات الأخيرة التي برزت فيها أسماء طبعت السينما المغربية بميسمها وأسلوبها المتميز، وسنخصص لهذا العمل كتابا في المستقبل القريب.
اعتمدنا في قراءتنا لهذا المنجز الفيلمي على نظرية السينما واللاسينما، التي طورها الباحث الفرنسي بيير مايو في كتابه «الكتابة السينمائية»، والتي استقاها من تنظير المخرج الفرنسي روبير بروسون، الذي لخصه في نظريته المعروفة ب»السينماتوغرافيا». وقد استفدنا كذلك من نباهة جان لوك كودار، الذي لخص السؤال الأساسي للتمييز بين السينما واللاسينما من خلال قولته المعروفة «عندما تصور المرئي فأنت تنتج فيلما تلفزيونيا، وعندما تصور اللامرئي فأنت تصور فيلما سينمائيا». ولتوضيح الفرق بين المرئي واللامرئي ندعم منهجنا بنظرية الباحث الجمالي جورج ديدي هوبرمان، الذي جسد نظرية المرئي واللامرئي من خلال إشارته إلى العلاقة الأيقونية بين العذراء والطفل واليمامة في اللوحات التشكيلية، والتي توحي بوجود الروح القدسي.
ولتطبيق هذه النظرية اعتمدت على ثلاثة إجراءات عملية تمكننا من ترتيب الفيلم المغربي عبر سلم ثلاثي حسب اقترابه أو ابتعاده من السينما ككتابة. ونلخص هذه الإجراءات في ثلاثة مفاهيم هي: العرض والحكي وإنتاج المعنى. إن المتأمل لهذه الأدوات سيلاحظ أنها تمثل الفعل السينمائي في كليته، حيث إن الفيلم يعرض العالم من خلال تصويره، ثم يستعمل هذا العرض كأداة لحكاية قصة، وقد يدفع بهذا الإنجاز كله إلى إنتاج المعنى.
مستوى العرض: تساعدنا هذه الرؤية على القبض على مفهوم السينما المغربية بين الأرتيزانا والفن، كما تساعدنا على الحسم في الفرق بين السينما واللاسينما، خصوصا إذا كنا نؤمن بأن ليس كل فيلم سينما، على اعتبار أن الفيلم هو سلسلة متتالية من الصور. فأفلام سعيد الناصري ومحمد فريطس وعبدالله توكونة (فركوس) وأفلام «تاونزا» و»يما» و»زينب» و»ساكا» و»خارج التغطية» و»الفردي» و»حياة الآخرين» و»رقصة الوحش» واللائحة طويلة هي أفلام وليست سينما، رغم أن منها ما حقق مداخيل مهمة ولقي إقبالا عند جمهور واسع. يقول بيير بورديو في هذا السياق: «إن قيمة العمل الفني لم تعد تأتي من الفنان، ولكنها أصبحت تأتي، بشكل مفروض، من السوق ومن الحقل الإنتاجي باعتباره عالما عقائديا، ينتج قيم الفرجة من خلال تصور فيتيشي للفيلم وللنجوم في علاقتها بالجمهور».
هذا ما جعل المخرجين أمثال حكيم نوري ومحمد إسماعيل وحسن بن جلون وأحمد بولان في أفلامهم الأولى يدخلون في خانة المخرجين الجماهيريين الذين يشبعون انتظارات الرأي العام الفرجوي.
وتعتمد رؤية العرض الفرجوي هذه بعض الأحداث الواقعية، التي تصورها بشكل خارجي، وهو ما يجعل هذه الأحداث تبقى في حدود المرئي ومحاولة الإيهام بالواقعي. وبهذا تبني قوة الإقناع على القصة الواقعية أو «قصة وقعت بالفعل»، وتتناسى «القصة الحقيقية»، أي القصة التي تبنيها السينماتوغرافيا، وهي تتكلف بالمحكي الفيلمي الذي يظل غائبا لانعدام الوعي به. إذن نكون هنا أمام «الدرجة الصفر» من الوعي بالكتابة (ليس بالمعنى البارتي) التي تحول المرئي إلى بصري. إننا أمام «الرؤية الطبيعية» التي تظن أن إظهار حركية الواقع و»إعادة إنتاج» هذا الواقع، أي الصور –الأشياء والصور – الأشخاص كافية لخلق حركة سينماتوغرافية تنتج المحكي بموضوعية ميكانيكية تبين وتعرض ولا تخفي شيئا. وقد غيبت هذه المجموعة نظرية زفاتيني المعروفة التي تقول إن «الكتابة الحقيقية في السينما ليست هي اختراع قصص تشبه الواقع. إنما الكتابة الحقيقية هي النجاح في حكي الواقع وكأنه قصة». والمقصود هنا بالقصة هو فن الحكي بالصورة، أي بالسينماتوغرافيا.
مستوى الحكي: يتعدد دور المخرج في هذا المستوى، فهو مطالب بتسلية الناس وإمتاعهم وإثارة عواطفهم، وربح المال من وراء إنتاجه؟، والمساهمة في إثارة نقاش اجتماعي من خلال أفلامه. وتستمد هذه الأفلام قوتها من الحكاية، القصة، الحدوثة، لأنها تعطي القيمة للحدث، للفعل، وليس للصورة. وهي بالتالي تنتمي إلى المجال الإثيكي والسياسي، أكثر منها إلى المجال الإستتيقي الجمالي. تشتغل هذه الرؤية على محاولة البحث عن التوازن بين تشخيص الواقعي البروفيلمي والوساطة الإستتيقية للفيلمي، بمعنى السعي إلى تحقيق الواقعي من خلال ذكاء الإنجاز التقني والفني أو من خلال حقيقة الحياة كما هي، ورغم أن أفلام هذه الرؤية تبني واقعا تخييليا مختلفا عن الواقع الواقعي، فإنها على وعي بأن إدراك المتلقي للفيلم لا يختلف عن إدراكه للواقع. لهذا يشتغل هؤلاء المخرجون على المواجهة بين الصورة -العرض والصورة – التشخيص. وفي هذا الإطار استطاعت أفلام «البحث عن زوج امرأتي» لمحمد عبد الرحمان التازي «وحب في الدار البيضاء» لعبد القادر لقطع و»علي زاوا» لنبيل عيوش «والملائكة لا تحلق فوق الدار البيضاء» أن تحقق التصالح بين الجمهور المغربي والسينما المغربية.
إن التمكن من «استتيقا غزل الحكاية»، وتدبير المحكي الفيلمي من خلال هندسة معمارية كامنة في اللا شعور البصري للمشاهد أعطى المخرج ضمانات قوية لغواية الجمهور ودفعه إلى مشاهدة هذه الأفلام. لقد استطاع هذا الاتجاه أن ينجح في إنتاج الفيلم الاجتماعي، وأصبحت مصلحة هؤلاء المخرجين هي العمل على الاستمرار في إنتاج مثل هذه الأفلام. غير أن المصلحتين معا - مصلحة المخرج ومصلحة الجمهور- غير كافيتين لتأسيس «فن السينما»، لأن ما ينقص في هذه الوضعية هو الإيمان والاعتقاد بهذا الفن.
مستوى إنتاج المعنى: إذا كان التيار الثاني يتجه نحو خلق «إستتيقا غزل الحكاية» حسب زفاتيني، وحسب مفهوم شهرزاد التي حررت نفسها بواسطة الحكي، فإن اهتمام هذا التيار الثالث سيتجه نحو «استتيقا بناء الحكاية» حسب مفهوم أريستراكو، حيث سيصبح الحكي مجرد ذريعة، لأن البناء الشعري سينزع الصور من جمودها المرجعي، أي الصورة الحركية الحسية، لحفر ونحت المرئي وقتل مقروئيته البدئية لبناء أو إعادة بناء التناقض الفاعل والفعال بين المعرفية المرجعية والرؤية البصرية السينمائية، التي تولد وتوحي باللا مرئي. وقد استطاع هذا التيار أن ينتقل بالسينما المغربية من منظومة السينما الكلاسيكية، التي تعتمد مفهوم السينما – الحركة إلى منظور السينما الحديثة، التي تعتمد مفهوم الصورة – الزمن، والتي تهدف إلى تحرير المرئي وإنقاذه من الواقعي وتجديد النظر والرؤية والذوق، والخروج من جمود الكليشي إلى الرؤية التأملية لجوهر الأشياء وكنهها.
إن الباحث في أعمال هذه الجماعة يستنتج أنهم على وعي بأن السينما ليست فنا في حد ذاتها. فكما أن الكلمات والألوان والنوتات ليست فنا، إلا أن الطريقة التي نستعملها بها هي التي تجعل من الكتابة فنا والتشكيل فنا والموسيقى فنا. ولذلك فإن الصورة كذلك ليست فنا. إن العلامة السينماتوغرافية عندهم هي تشخيص وتمثيل، ولا يمكن أن تصل إلى الدلالة وإنتاج المعنى إلا عندما يتحول هذا التمثيل إلى مشاريع دلالية محتملة لأن السياقية الشعرية تجعل الشيء المشخص يتورط في خلق الحدث وإنتاج المعنى، ليس فقط من خلال وجوده، ولكن من خلال جوهره وبعده الاستتيقي الشفاف واللماح للماوراء. إن السينما عندهم تبدأ مما وراء التماثل. إن أفلام حكيم بلعباس وأفلام إسماعيل فروخي وفوزي بنسعيدي وبعض أفلام الجيلالي فرحاتي وفيلم «الراكد» لياسمين قصاري كلها علامات مضيئة تحاول جادة الانتقال من السينما الاجتماعية «المشكل والحل»، التي ينتجها التصور الثاني بامتياز، إلى سينما الإشكالية الاجتماعية، التي تطرح أسئلة جذرية وشجاعة حول وجود الإنسان الفرد ووضعيته في عالمنا المعاصر. كما تبحث عن أسئلة وأجوبة غير يقينية تربط الحالة الإنسانية الخاصة بالتاريخ الاجتماعي.
إن هذه الجماعة استمرار لمشروع فني مكتمل لشاعر السينما المغربية ومبدعها صاحب فيلم «السراب» الذي مات وفي نفسه شيء من السينما ومن اللامرئي.
حمادي كيروم
«الحجاج والتلفظ» إصدار جديد باللغة الفرنسية للعزاوي
صدر للغوي المغربي الدكتور أبو بكر العزاوي مؤلف جديد باللغة الفرنسية تحت عنوان: «Argumentation et énonciation» (الحجاج والتلفظ) ، بعدما صدرت له في نفس السياق مؤلفات أخرى، من بينها «اللغة والمنطق، مدخل نظري»، حاول من خلاله أن يجري مقارنات عديدة بين ظواهر لغوية وظواهر منطقية الروابط كالاستلزام، النفي والتسوير...
وقد قدم لهذا الكتاب الجديد جون بليز غريز صاحب نظرية المنطق الطبيعي، باعتبار أنه كتاب لا يكتفي بعرض النظريات الحجاجية والتلفظية، بل يعرض جذورها وتكوينها ويبين الإيجابيات والمشاكل والاعتراضات.
ويتضمن الكتاب في فصله الأول (المنطق واللغة والحجاج) ثلاثة مباحث، حيث يعرض المؤلف في المبحث الأول المقاربات الكلاسيكية السابقة للحجاج، معتمدا على نموذجين لكل من شاييم يرلمان وجون بليز غريز. بينما يتناول المبحث الثاني علاقة اللغة والمنطق وعلاقة المنطق والحجاج. أما المبحث الثالث فيستعرض النظريات اللسانية التي تتعارض مع نظريات الحجاج، كالتيار الوصفي واللاوصفي والحجاجية الضعيفة.
أما الفصل الثاني (الحجاج في اللغة)، فيعرف فيه المؤلف في مبحثه الأول مفاهيم ومصطلحات النظرية الحجاجية مثل السلم الحجاجي، الفئة الحجاجية، التوجيه الحجاجي، القصد الحجاجي، فعل الحجاج، الروابط والعوامل الحجاجية، والمواضع أو المبادئ الحجاجية. بينما يعرض المبحث الثاني لتطور النظرية الحجاجية ويعرف بمراحلها كالتيار الوصفي الراديكالي، التيار الوصفي المعتدل، الحجاجية المعتدلة والحجاجية الراديكالية، معرفا بنظرية الحجاج في اللغة التي تتمثل فيما تشتمل عليه اللغات الطبيعية البشرية من إمكانيات ووسائل لغوية يوظفها المتكلم لخدمة أغراضه، وغاياته الحجاجية، باعتبار أن هذه النظرية تنطلق من فكرة الحجاج كلغة مؤثرة، منطقها الاستدلال المرتبط باللغات البشرية في مقابل البرهنة المرتبطة باللغات الصورية الاصطناعية المتمثلة في القواعد الداخلية للخطاب، والمتحكمة في تسلسل الأقوال وتتابعها بشكل تدريجي ومتنام.
أما الفصل الثالث والأخير من هذا الكتاب (التلفظ وتعدد الأصوات)، فقد تناول الكاتب في مبحثه الأول مجال التداولات وإشكال الحدود بين الدلالة والتداول، ومسألة التداوليات المندمجة، مستشهدا في استعمال هذا المصطلح بأعمال أنطوان كيليولي، فرانسوا ريكاناتي وأوزفالد ديكرو.
كما قام المؤلف في المبحث الثاني من هذا الفصل بدراسة المعنى باعتباره وصفا للتلفظ énonciation، من خلال ثنائيات كالفرضيات الداخلية والخارجية، الجملة والقول، المعنى والدلالة ومصطلح التلفظ.
وقد خصص دراسته، في المبحث الثالث والأخير، لتعدد الأصوات أو الأصواتية la polyphonie، من منظوري باختين وأوزفالد ديكرو، مستعرضا نظريات هذا الأخير التي حدد مجملها في رفض أحادية الذات المتكلمة، الذات المتكلمة والمتكلم والقائل، مراحل نظرية تعدد الأصوات، وإيجابيات النظرية ومشاكلها وصعوباتها.
رحال نعمان *
ثقافةٌ تعيشُ على الأدوية!
يدعو آدم كوير في كتابه: «ما التاريخ» إلى أن نتجنب استخدام كلمة «الثقافة» التي نُسرف في الإشارة إليها، لأنها صارت تدل على الكثير جدا بحيث باتت لا تعني سوى اقل القليل، أما إرنستو ساباتو، فيرى في كتابه الذي ترجمه إلى العربية أحمد الويزي، بعنوان: «الممانعة»، أن ثقافتنا تقدم الدلائل التي لا تخطئها عين عن دنو نهايتها، إنها تضطر باستمرار إلى إعادة اختلاق بعض الأحداث وبعض الأنماط وبعض المتغيرات الجديدة لأن ما من شيء مما تنتجه دائم ولا خصيب أو مفيد أبداً.
ويبلغ به حد التشاؤم أن يشبه حال الثقافة اليوم بحال ذلك المريض الهرم الذي ما ينفك الأطباء يصفون له كل يوم بعض الأدوية الجديدة فتجد أسرته، اليائسة من وضعه، نفسها مكرهة على تغيير الأدوية والعلاجات باستمرار.
ومع أن ساباتو يرى أن أزمنة الغرب الحديثة للبشر عرفت ثقافة ظلت تُعتبر ملاذاً ووجهة أرضية لشد ما تشوقت سفن الناس للرسو عليها، فتحت سماء تلك الأرض اجتازت الخلائق بغبطة، بعض اللحظات المشرقة من وجودها، كما صمدت ببسالة، في وجه أهوال الحروب وفظاعات المآسي العصيبة، لكنه يصر على انه ينبغي علينا، اليوم، الإقرار بموات هذه الثقافة وحلول فصلها الشتوي الحتمي، علما بأنها نشأت برغبة ملايين الناس، ممن كرسوا لها حياتهم، وسنوات عمرهم وبحوثهم ومجموع ساعات عملهم، مثلما شُيدت كذلك بدماء أولئك الذين سقطوا صرعى، إما في سبيل قضية عادلة أو أنهم قضوا سدى على امتداد خمسة قرون لأمر ما صالح أو غير صالح.
لا يبدو ادوارد سعيد على هذه الدرجة من الإحباط، لكنه مع ذلك يُعمل معمل النقد، بصرامته المنهجية المعهودة، في مظاهر التغيرات الابستمولوجية التي حدثت تحت تأثير الكولونيالية والاستشراق والتعصب القومي ورهاب الأجانب، ليبدو في ذلك متسقاً مع صورته كمثقف يثير الشكوك حول التاريخ والثقافة والأدب بوصفها أنظمة من التفكير تمثل تصورات مخترعة بغية الإبقاء على البنى المهيمنة للمعرفة والسلطة.
ويقف دور المثقف واشتباكات الثقافة بالهوية وراء التزام سعيد القاطع بفكرة إعادة بناء التاريخ عبر الانخراط السياسي والنقدي، فهو يشدد على أهمية الضمير النقدي في عمل المثقف، ويوظف سعيد في ذلك معارفه في الموسيقى، حين يطالب بنمط فريد من القراءة يسميه بالقراءة الطباقية، وهي قراءة تعول على المصطلح الموسيقي الذي يعني وجود لحنين في مقطوعة موسيقية واحدة وليست أحادية اللحن.
وما يقابل هذا المعنى ثقافياً ينبثق من فهم العلاقة بين المركز الغربي للإمبراطورية وما هُمش بسببه، فلقد حاول ذلك المركز أن يميز علاقته بالأطراف عبر قراءة أحادية مهيمنة. والقراءة الطباقية، التي يدعو إليها، هي أن نستقرء اللحن الآخر الصادر من الهامش أو الأطراف، وأن تستقل بنفسها عن التواريخ الرسمية لصالح تواريخ أخرى مختلفة، يكتشفها الناقد ذو النزعة المضادة للإمبريالية والقومية في آن معاً.
وتنطلق هذه الدعوة من حساسية ادوارد سعيد نفسه بصفته منفياً، كان دائماً خارج المكان، كما عنْوَن سيرته الذاتية، ليرى أن جميع الثقافات بسبب وجود الإمبراطوريات الاستعمارية متشابكة وليس بينها ثقافة تتميز بالتفرد أو النقاء، بل أن الثقافات جميعا مُهَجنة ومُوَلدة.
ربما آن الأوان لمضاعفة الجهود نحو صوغ ثقافة مضادة لتلك التي جعلت الغرب حتى الآن وصياً على الآخر زاعماً احتكار تمثيله، وإقصاء هذا الآخر، الذي هو نحن: مجتمعات الشرق أو أهل الجنوب كما نوصف، عبر شحذ آليات ديناميكية ثقافية جديدة لا لتشكل بديلاً لثقافة الآخر، فليس ثمة احد يشكل بديلاً لأحد حين يتصل الأمر بالثقافة، إنما لإبراز الندية الثقافية والحضارية التي تبرهن على أن في الشرق من الفاعلية الروحية ما هو ضروري لخلق التوازن الضروري نحو أنسنة الحضارة المعاصرة التي تذهب بعيداً في ماديتها واستهلاكيتها وفقرها الروحي، نحو حضارة ذات عقل وذات قلب في الآن نفسه.
حسن مدن *
* كاتب من البحرين
رواية «شراك الهوى» للروائي المغربي محسن أخريف
مأزق الإنسان الافتراضي سرديا
تسعى رواية «شراك الهوى» إلى معالجة قضايا ساخنة ترتبط بحاضر الإنسان المعاصر، وبالتحولات الجارفة التي تسوقه مرغما إلى تغيير علاقاته المباشرة مع ذاته، ومع العالم من حوله، خاصة فيما يتعلق بالوسائط الجديدة، والوسائل السمعية البصرية، وتكنولوجيا الإعلام المتطورة، التي تتجدد على مدار الساعة فوق ما يتخيل الإنسان.
وإذا كانت تكنولوجيا الإعلام، بشتى ما تقترحه من أدوات واستعمالات وآفاق، تبدو مستساغة من قبل الإنسان الغربي، لكونه عايش سياقات تَبَلْورها خطوة خطوة، وساهم في تشكّلها، حتى أنه صار جزءا منها، ووعى سلبياتها وإيجابياتها، وتهيأ لها نفسيا واجتماعيا، فإنها بالنسبة للإنسان العربي تطرح صعوبات كبيرة على مستوى التلقي والتوظيف والتعامل، لأنه يكون في الغالب مستهلكا لوسائطها وأدواتها بشكل عشوائي دون أن يكون مُسهما فيها أو منتجا أو حتى واعيا بالسياقات التي أفرزتها بوصفها تحولا حضاريا شاملا سينعكس على الثقافة والتقاليد والعادات وأنماط العيش.
ويبدو أن التوظيف العشوائي لهذه الأدوات التكنولوجية يحول الإنسان العربي من كائن له مرجعيات وثوابت وكيان هوياتي إلى رقم مفرغ من مضمونه البشري والتاريخي. وفي الوقت الذي يفترض أن يُشغّلها وفق ما يشترطه سياقه الاجتماعي والإنساني والحضاري، فإن الأمر يسير في الاتجاه المعكوس، حيث تصبح الآلة أو الوسيط هو من يتحكم في الفرد، جاعلا منه لعبة تسوقه نحو متاهة مجهولة العواقب، بعيدا عن اشتراطات اللحظة الحضارية وأسئلتها الملحة التي تضع الإنسان العربي في مأزق تحدّ عصيب، قد يعصف بهويته الوجودية والحضارية في صراع محموم صوب المواقع، ومعادلة صعبة تضيق فيها الآفاق، وتنحسر فيها الخيارات.
لقد اختارت الرواية، عن وعي هجاسيّ، ملامسة هذا الموضوع في جوانب محددة من علاقة الفرد بالوسيط الإلكتروني، ولعلها العلاقة الأشد حساسية والتباسا، لكونها تسلط الضوء على ارتهانات الإنسان بجسده ورغباته، وبالآخر في غموضه والتباسه وافتراضيته.
هوى افتراضي
تقوم حكاية الرواية على مادة أساسية تشكل عجينها علاقة حبّ افتراضيّ بين شابّ يدعى كمال، الراوي الرئيس في النص، الموظف في مجلة نسائية إشهارية، والمدمن على غرف الدردشة والشات ومواقع التواصل الاجتماعي، خاصة مع النساء، وتبدو هذه هوايته المفضلة، وشابة تدعى وفاء الكندالي الأستاذة المتدربة في مركز تكوين الأساتذة، تعرّفا عن بعضهما عبر فضاءات الشات والتواصل الإلكتروني (الميسنجر والياهو والباتلوك...) لتتطور العلاقة من المفترض إلى الواقعي. ومع أنها علاقة كانت مشوبة بكثير من الالتباس والغرابة، فقد تحققت فيها الحميمية والانسجام والتواصل الجسدي بين العشيقين في مدة قياسية، فيتهيأ لها التطور والتعقد إلى درجة ما كان يتصورها العاشقان نفساهما. فمن جهة، ما كان البطل كمال يتمنى أن تتجاوز علاقته بوفاء حد المتعة الجسدية التي دأب على اصطيادها، بشكل ماهر، عن طريق الشبكة العنكبوتية، إرضاء لرغبات هجاسية مرضية تقرفص في عوالمه الجوانية، باعتبارها علاقات عابرة إدمانية تعويضية عن مركب نقص داخلي، علاقات سريرية جسدية تشفي، بشكل لحظي، شهوات حارقة فوارة تعصف بذات شاب يفشل مرارا في اكتشاف موهبته الحقيقية في الكتابة، فيستعيض عن ذلك بتعدد علاقاته بالفتيات، وبمراكمة تجارب كثيرة مع الجنس الآخر، وباصطياد اللذات الشاردة، توقا إلى إطفاء نار الجسد الذي لا يزداد إلا عطشا وجوعا تاريخيا بتعبير الروائي محمد برادة، حتى أن رغبة هجاسية مرضية استبدت بكمال، وجعلته يدمن اللهاث خلف شاشة حاسوبه، بحثا عن علاقات عابرة مع طرائد نسائية تسرح في فضاءات «النت» المتاهية الغامضة. ومن جهة ثانية، لم تكن وفاء الكندالي التي كان يعتقد كمال أنها ستكون طريدة عابرة في حياته مثل باقي الطرائد النسائية، ترغب في شيء يحققه لها كمال أكثر مما فعل دون أن تطمع في الزواج مثل باقي العشيقات، نظرا لوضعها الخاص، قبل أن يعلق العاشق كمال في شرك هواها دون تخطيط مسبق منهما لذلك.
تنصب شراكات الهوى، في البداية، عبر المواقع والغرف والصفحات الافتراضية المتاحة عبر شبكة «النت»، بحيطة، وبدهاء كبير، حيث المعطيات المموهة، والأحاسيس المفتعلة، واللغات المتضخمة المنافقة والمجاملة، تُنصب بطيئة، ويبدأ الشد والجذب، والمشاحنات لتخرج العلاقات من افتراضيتها وتجريديتها، وتُلعب على الأرض بالتدريج، وتنتقل العلاقة المتباعدة التي تتواصل، عبر الصور والإشارات والهمسات واللغات المتوترة، لتتحول إلى علاقات حميمية تلعبها الحواسّ الجسدية في الردهات والمقاهي والحدائق، المعتمة ليلا، لتصل ذروتها في الغرف السّرية، قبل أن تنتهي بالتلاشي والاندحار، وكأنهاعلاقات مصمّمة، مع سبق الإصرار والترصد، لتشبع نهم أجساد طافحة بالرغبات المحمومة.
إن العلاقات المرصودة نصيّا، والمؤطرة بشبكة «النت»، محكوم عليها بالفشل؛ لأنها تتأسس على نوايا إباحية محايدة، وخالية من المشاعر الحقيقية المبنية على الصدق والتواصل الملموس والحوار المكشوف، ذلك أن النظر إلى الجسد، وهو يتكلم، قد يفضح صاحبه ويوحي بصدقه أو كذبه عبر الاضطراب والالتواء والتلعثم والخجل الذي يتم عبر وسائط تتيح الخداع والمراوغة واللعب والضحك على الذقون والتلاعب بالأحاسيس. لذلك، فهي علاقات عابرة وسطحية، وتظل محدودية في الجوانب الحسية الجسدية التي تشبع رغبات لحظية مسترقة، سرعان ما تتهيج لتصبح لانهائية.
ويتضح ذلك في هذا النص السردي، من خلال الأقنعة المتعددة والملتبسة التي يخدعُ بها البطل كمال ضحاياه من النساء، ليوقع بهن في شباك غرائزه المرضية، التي يعوض بها عن فراغ روحي قاس وموحش. وتتيح له هذه الأقنعة المموهة، التي تبرع شبكة «النت» في سبكها عبر مستخدماتها المتطورة، أن يظفر بأجساد أنثوية متعددة، في الآن نفسه، دون أن تستطيع الواحدة منهن كسب مشاعره الحقيقية، لأنه كائن إلكتروني محايد لا يبحث سوى عن اللذة الحسية، التي تعوض الخسران الروحي الذي يستبد به في جوانيته القاتلة. والأمر نفسه ينطبق على النساء اللواتي يشكلن ضحاياه، فهو، في قرارة نفسه، كان يؤمن أنهن يفعلن مع رجال آخرين الشيء نفسه الذي يفعلنه معه، خاصة عشيقته التي نجحت دون قصد، ودون تخطيط مسبق، في الإيقاع به في شراك هواها، والتي كانت تتواصل معه ببروفايل نساء أخريات عبر المسنجر والياهو، مشبعة بذلك نهمه في التعدد المفرط، وتوقه إلى تحقيق أكبر عدد من العلاقات الملتبسة مع النساء.
امرأة ملتبسة
بعد أن اكتسب كمال مهارة مستحيلة في الإيقاع بالفتيات في شراك غوايته، ثم التخلي عنهن في الوقت الذي يريد بعد أن يقضي وطره منهن، راح يتقصى أثر امرأة ملتبسة اسمها وفاء الكندالي، امرأة مغامرة وغامضة، ولها خبرة في معرفة كيفية العزف على وتر الأحاسيس المراوغة التي يقذفها الشباب الباحثون عن اللذة عبر صفحات «النت»، فتصدها في الوقت الذي تشاء، وتتلاعب بها متى تشاء. ومع أن كمال تعود أن يضع خططه للاحتمالات القصوى لتمرد الأنثى، وأفرط في إعداد عدته لتسير الأمور في الاتجاه الذي توخاه، متجنبا، بذلك، حصول اللامتوقع، فإن هذه الفتاة الملتبسة باتت تتصرف، على غير عادة من سبقها، بتلقائية وأريحية نادرتين، ولم تحرج كمال أبدا بسؤال هوية العلاقة التي تجمع بينهما، خاصة أنهما تورطا في حميمية مفرطة، وبلا حدود، وسقطا في عشرة الأزواج دون رباط مقدس بالمعنيين الحسي (العقد) والروحي (الحب)، وكأنها، في قرارة نفسها، تتواطأ مع رغبات عابرة، لكن محققة للإشباع المفترض لكليهما، دون أن تترك ندوبا وخسارات. وهذا ما أرق كمال، وجعله يتخلى عن احتياطاته وكمائنه المعتادة تدريجيا، أمام التلقائية المفتوحة التي تعامله بها وفاء، والتي بدأت شيئا فشيئا تملأ ذلك الفراغ الوجداني الذي يعانيه داخليا، وسارعت إلى الهيمنة على مشاعره الدفينة، محركة إياها نحو الإشراق، خاصة أنها عرفت نقط الضعف لديه، وهي الميل إلى تعدد العلاقات، فلبست أقنعة نساء مختلفات، وتواصلت معه بألوان متعددة من اللغات والمشاعر والانفعالات، ودخلت عالمه المغلق، وفتحت عليه أسراره السوداء، وعرفت، بفضل ذلك كله، الطريق إلى روحه دون أن تكون لها نية خبيثة في الاستحواذ على قلبه، لكنها كانت تريد تقليم هذه الثعلبية المرضية التي يعانيها، والتي تسبب له حالة سيكولوجية عصيبة تنعكس على سلوكياته وتصرفاته وعلاقاته مع ذاته، ومع الآخرين، وكانت لها نية تحويله من كائن جامد إلى إنسان وكتلة مشاعر متدفقة... وكانت، أيضا، تسرّ في نفسها نية مفارقته إلى الأبد، في الوقت الذي تريد دون أن تخبره بذلك، فكان أن انقلب السحر على الساحر، فتحولت بعد اختفائها التلقائي الغامض إلى هوس مُزمن، وطوفان من الذكريات، وإدمان مرضي...
تعود ذات البطل إلى الذاكرة لتسترجع صور وفاء الكندالي وهما منغمسان معا في بحر رغباتهما الحميمية السرية، تاركين للجسدين أفق التواصل الحسيّ بعد أن أنهكهما التواصل الافتراضي جوعا، حيث تحتدم الحرب السريرية بينهما، ليتهيأ لهما طقس تفجير طاقتيهما الخبيئتين، وإبداع لحظة الصفاء القصوى التي تتخفّى، من خلالها، الفروقات والاختلافات والتناقضات، ليتحقق ذلك الاندماج والالتحام الصوفيان، ولو على سرير الخطيئة.
لقد تولد لدى البطل، بالاختفاء الفجائي لمعشوقته، إحباطان: الأول بسقوطه في شرك الهوى، من حيث لا يدري، والثاني بعودته إلى إدمانه القديم في تعدد العشيقات، وبحثه المستديم عن وصال الأنثى، بعدما كانت وفاء قد أخمدت فيه هذه الفورة المرضيّة، وجعلته يقلع، بالتدريج، عن إدمانه للهوى الافتراضي. والأدهى أن هذا الإدمان نفسه لم يستطع تعويض عشقه لوفاء، ولم يفلح في نسيانه أبدا، خاصة أنه كان يسعى، بكل الأشكال، إلى تفسير سرّ اختفاء هذه الفتاة الملتبسة من حياته، تاركة إياه في محنة الخواء السيكولوجي الذي لا يقام، ولم تستطع المعشوقات الواقعيات والافتراضيات على اختلاف مستوياتهن ملأه، رغم أن كمال سعى جاهدا للبحث، وسط هذا التعدد، عن فتاة تشبهها أو تعوض فراغها دون جدوى. وبالرغم من السخاء المفرط الذي كانت تتعامل به معه سعاد، فقد يظل طيف وفاء يسكنه، ويخترق لحظاته الحميمية، منغصا عليه صفاءه وطمأنينته، ومسببا له حالة عصيبة من الأرق والشرود الدائمين.
لقد أصبح البطل في مأزق حقيقيّ، وبعد أن كان هو ناصب الفخاخ لبنات المواقع والصفحات الإلكترونية، بات هو طريدة هاته الفخاخ. وبهذا المصير الذي سيتفاقم بإصابة وفاء بمرض السرطان، ورحيلها إلى العالم الآخر، ونهاية الرواية بهذا الأفق الدراميّ المفتوح والمفاجئ، تكون الرواية قد رسمت صورة ملتبسة، وغامضة لمستقبل العلاقات الإنسانية في ضوء تسارع نمط العيش، وتطور الوسائط والحوامل والوسائل الاتصالية، التي ستؤثر سلبا على السلوك البشري، وستزيد من اغتراب الإنسان في عزلته القاسية وتلاشي التواصل الحميمي المعوض بالآلة.
لغة جديدة
استفاد الروائي في بناء هذا النص لغويا من خبرته الشعرية. لذلك جاءت لغته متفجّرة، دقيقة، وإيحائية في الآن نفسه، ناقلة التجربة الشعورية بنفس درامي متحول، حيث تنزاح لغة الرواية سواء، في لحظات السرد أو في المقاطع الحوارية، عن التقريرية، مُعززة قوتها الإيحائية من قدرة النسيج اللغوي على إفراز مدلولات أخرى، تظل تتسع مثل الدوائر اللولبية في ذهن المتلقي. وبالرغم من تخضّبها بالمجازات وبلاغة التدليل، فإنها عذبة التناول والتداول، وسرعان ما تسرح بالمتلقي في شجون الحكي وسجونه. ومما يساعد هذه اللغة المتفجرة في الداخل، على التمدد، كثافتها التعبيرية، وعمقها الوصفي الذي يزيد من إيقاع التوتر الذي تحدثه موضوعة الرواية، فاللغة الروائية هنا تخدم شعرية السّرد، وتتناغم مع أطروحة النص، فنيا ودلاليا، وقد نجح الروائي في اقتناص الصور والتوصيفات والعبارات الموفية بغرض الإيصال والإيحاء. ذلك أن هناك معاني من درجة ثانية تتراءى خلف ظلال العبارات والجمل السردية والكلمات.
وبما أن الشعري لا يغيب في النص، وإن حضر بشكل متفاوت عبر الفصول الروائية، فإن النص كان خاثرا بالمعاني، دسما بالأساليب، وفير المياه الرقراقة التي تنساب من بين المقاطع السردية، مالئة التفاصيل والفجوات والبياضات، ومانحة فرصة للقارئ كي يشارك في تأسيس قصة النص.
تجدر الإشارة إلى أن الروائي أقحم مفردات ومعجما متميزا وجديدا قلما سبقته إليه أقلام الروائيين، وهو معجم جدير بالاشتغال، خاصّة أن له علاقة مباشرة بلغة الشباب اليوم. ويتعلق الأمر بلغة الرقميات، والمفردات ذات الصلة المباشرة بعالم التواصل الرقميّ بين الجيل الجديد (الهاتف النقال، الميسنجر، الباتلوك، التويتر، السكايب...). ويقود توظيف هذا المعجم إلى ارتياد فضاءات افتراضية، تصمم أساسا، لتكون حلبة لصراع الشخوص، والأفكار، ولتطور الأفعال السردية التفاعلية، التي تتمّ عن بعد بين أبطال النص الروائي، لكن لها الوقع السيكولوجي نفسه الذي تُحدثه الترابطات والعلاقات الحسّية المباشرة على الشخصيات. وتسعى الرواية، باستعمالها هذا المعجم، إلى بيان أثره على تحول السلوك، وتبدل أنماط التفاعل والتواصل، ومدى تأثيره على القيم الثقافية والرمزية، وخلخلته للبنيات الذهنية التقليدية التي تستند على أسس مرجعية كاريزماتية... ولا تخلو الرواية من الإشارات النقدية المضمرة، التي تفضح طبيعة الاشتغال السطحي على العوالم الافتراضية، وتعرّي ضعف الشخصيات أمام عوامل التكنولوجيا، منصرفة إلى غواياتها وبريقها الآسرين، دون وعي بالمخاطر والمنزلقات التي تطيح، أحيانا، بالثوابت المرجعية للهوية الفردية، والتي لا محالة تنعكس على الهوية الجمعية المشكّلة للرأسمال الرمزي لقيام كل مجتمع بشريّ.
إبراهيم الحجري *
* ناقد مغربي
متخيل الهامشي لدى محمد شكري
«في البداية كنت أكتب خواطر وأشعارا منظومة، كانت بالنسبة إلي امتيازا قد يمكنني من البروز في المجتمع، لأني من طبقة مهمشة، ثم إنه في الوقت الذي كنت أكتب فيه كنا نسكن كوخا (براكة)، أردت التخلص من هذا التهميش من خلال الكتابة. كان هذا هاجسي في بداية الستينيات، لكن فيما بعد اكتشفت أن الكتابة يمكن أن تكون سلاحا أو احتجاجا ضد المظالم، يعني أن الكتابة أمست قضية ودعوى، لكن المشكلة في رفع هذه الدعوى تواجه الكاتب العربي بصفة عامة سيوف حادة معروفة، مسلطة على رقبته وهي: الدين والسياسة والأخلاق. ماذا عسى الكاتب أن يكتب إذا كانت هذه السيوف الثلاثة تهدده وهو يكتب؟ حاولت أن أتحدى في كتاباتي – نوعا ما- هذه الموانع أو الحواجز. ولذلك تعتبر كتابتي في العالم العربي – على الأقل أخلاقيا- ملعونة جاحدة، لأني انتقدت مجتمعي، بدءا من أسرتي، بحدة لا رحمة فيها». (مقطع من نص الحوار الذي أجريته مع الراحل محمد شكري بجريدة القدس العربي ع؛ 791-24 نوفمبر 1991).
يفسر محمد شكري الدواعي التي وراء فعل الكتابة (كتابته هو). ومن منطلق داخلي، يبعث على الخروج بانطباع مؤداه أن العالم الذي من حولنا، غالبا ما يسهم في توجيه وعينا نحو هذا الهدف أو ذاك، وينمي في كوامننا تلكم الرغبة الأكيدة في المكابدات للدفاع عن وجودنا المشترك، بما في ذلك الوجود المادي للكائن البشري فينا. وبهذا تصبح الكتابة أداة ناجعة وكاشفة في الآن الواحد عن عناصر المعادلة التالية : الأنا/الغير- الوجود/العدم- الكتابة/المحو أو اللاكتابة إلخ.
ولأجل تثبيت دعائم الأنا المتمترسة داخل الكاتب، يأتي النداء بالمفردات وباللغة التركيبية، التي تشكل حالة قصوى ضمن صيرورة هذا العالم الذي ننتمي إليه جميعا، بغض النظر عن اختلاف وسائل وأساليب توصيفنا لمستويات جماله أو قبحه. إنه عالم يحتوي علي التناقضات الصغيرة والكبيرة التي تعرض لحالة الكاتب/الإنسان، الساعي- دوما- وراء تجليات حقيقة مفترضة قد تأتيه وقد لا تأتيه. وأمام سعيه هذا تجدنه ضائعا في دروب الكلمات، متمنطقا بدلالات الأشياء الكبرى التي تحمله على الإيمان بلعنة الخروج المبكر عما هو نمطي وآسر في هذا الكون، وبذات المناسبة فإن شكري رديف لمفردة الحرية غير المقيدة بالزمان ولا بالمكان، وهذا معناه جنون في حالة تنام مستمرة، يتحول مع مرور الوقت إلى محاصرة العالم الذي نعيش فيه، وجعله معتقلا اعتقالا رمزيا ينتظر موعد توقيع الإدانة!
ومضمون الحرية التي يود شكري نسج شكله/خطابه يتجلى في الرغبة الملحة لولوج عوالم اللذة ما ظهر منها وما بطن، رغبة إزاحة كل الأقنعة، والوسائط الحائلة دون بلوغ حد الإشباع والارتواء، ومعانقة وهم الأنثى وسراب الجسد وامتلاك ناصية الأزمنة المؤشرة على مواعيد السهر التي لا تستوي إلا بحضور المرأة والخمرة. يمسي هذا الحضور مؤرخا أحيانا وباعثا على الخوف والدهشة (دهشة اللقيا والاكتشاف) أحيانا أخرى .
«كنت خائفا منها، فتحت فمي طائعا، وضعت سيجارتها في فمي باسمة (...) ابتسمت لها خوفا من جسدها (...) انزع ثيابك مالك خائف» (الخبز الحافي. ص 40-41)
تكتسي المرأة في «ًالخبز الحافيً» بعدا خاصا، إذ تتلبس صفات يسندها السارد إياها، فيجعل منها كائنا أسطوريا، حتى لو استعمل معجما مبسطا وواقعيا يمتزج فيه الفصيح بالعامية. ومرد هذه الأسطرة الرغبة في التخلص من سلط قهرية والالتصاق بالعالم السري لليل، واختيار»ًالمحرم» بالمعنى الأخلاقي بطبيعة الحال- باعتبارهما ملاذا ًللهروبً من الواقع الذي كان يعيش فصوله، وبتعبير آخر يعلن السارد عن تمرده على قوى مستبدة ومتسلطة تمارس كل ضروب القهر. لذلك نجده يسعى حثيثا إلى قلب المعادلة والوقوف ضد المجتمع، ويعلن السارد عن هوسه في اعتناق اللذة الحسية والإقبال عليها رغم إفلاسه «في شرب الخمر والنوم مع نساء ماخور حي السانية» (الخبز الحافي. ص 47).
استقام هذا الكلام على لسان محمد (البطل أو الشخصية المحورية في الخبز الحافي). وهو كلام يشين بالرغبة في اكتشاف المرأة وعوالمها المخملية، بل محاولة التوغل في ثنايا الليل وخباياه، بحثا عن (المتعة) مزيد من المتعة. «في الليل يصير للحياة طعم الخلود» (الخبز الحافي. ص 75). تعيش الشخصية الرئيسية (محمد) زمن اللذة المؤثث من قبل مومسات ًفاضلات يعشن على هامش المجتمع، ولا يعرف محمد المرأة إلا داخل إطار ومجال محددين، يتمثلان في ذلكم الفضاء الملتبس، المسكون باللذة الممزوجة بالألم. إنه فضاء سفلي، لكنه دافئ بنسائه ومتعه المتجددة تجدد الأمكنة والأزمنة، ومتعدد بالشوق إلى اكتشاف أخريات والتعرف إلى أجساد في جسد واحد، ومن ثم اختزال المرأة في لحظة واحدة، لكنها دائمة ومطلقة ومنظورة الفواجع، فواجع الأنثى السرية، مع إمكانية تذوق طعم الهزائم التي يمكن أن تتسبب فيها المرأة القادمة، المرأة التي صاغ شكري (الكاتب المفترض) وعيها داخل نصوصه جنسيا وعاطفيا واجتماعيا وثقافيا، وحرص على جدل واقع يحكمه البحث عن المستحيل!
«إن المرأة التي أعيش معها دائما إذا لم تجعلني أعزف عن كل النساء فليست هي المرأة التي ينبغي لي أن أعيش معها، ينبغي لها أن تكون هي كل النساء...في الوقت الذي كنت أكتب فيه مثل هذه الخواطر عن المرأة المثالية كنت أستعذب مضاجعة أحط النساء في البيوت الخفية المتبقية من مواخير طنجة، انحلال الروح في الجسد، هذا ما كان ممكنا لي في هذه المرحلة، وربما قدري» (زمن الأخطاء. ص 161-162).
يؤشر هذا الكلام على نوع من التوزع الذي يعيش فصوله الكاتب المفترض محمد شكري، مسجلا في الوقت نفسه حيرته التي لا تنتهي أمام سلسلة من اللذات تطوقه أينما حل وارتحل، إلى درجة أنه يسعي إلى تسريد أحداث ووقائع لإعطائها طعمها الحكائي المستحق. هكذا يمضي السارد في استرجاع ماض مفترض بتفاصيله وجزئياته، رغبة منه في امتلاك ناصية الزمن، ولاسيما الزمن «ًالطنجاوي»، في ارتباط مع المغامرات الصادرة عن الشخوص هنا وهناك، والتي يرمي خطاب كتابات شكري إلى إفساح المجال أمام متخيلها، حتى تنطلق، وتتحرر أكثر فأكثر من وعثاء الزمن ومكره. كما أن الكاتب المفترض يرمي إلى الإمساك بآليات الاشتغال السردي، غير آبه بالزمن بمعناه المادي، حيث يمسي صوت السارد جزءا من الحقيقة المبحوث عنها، أي الحقيقة التي هي موضع سؤال وتساؤل.
«فيرونيك تدخل وعيناي على البرزخ المفرح أو المزعج، أنا وهي لا نتسالم في الصباح إلا بالنظرات والابتسامات، فطورها شاي أسود دون سكر. كنت قد نبهتها إلى سمنتها وأبدية استبشاعي للبنطال المشدود علي المؤخرات فلم تعد تلبس غير التنورات الطويلة لتروق لي» (وجوه. ص 129).
يبدو أن الشخصية/الشخوص(فيرونيك هنا) لصيقة- على الأقل – أدبيا وفنيا بالتجربة الذاتية للكاتب المفترض محمد شكري. إن السارد يعقد ميثاقا رمزيا في محاولة منه لإقناعنا بوجاهة أفكاره وواقعيتها، متنقلا عبر فضاءات طنجة وتطوان والعرائش وباريس والرباط، وسوى ذلك من المدن والأمكنة الحاضرة في المسرود من الأحداث. إلا أن فضاء طنجة يشكل نقطة انطلاق ووصول في الآن نفسه. فالمدينة تعرف الرجل وهو يعرفها. كان شكري كغيره من الطنجويين بمجرد أن يغادر طنجة حتى يعود به حنينه إليها. ولذلك نجد ذات المدينة دائمة الحضور في أعماله، تسجيلا وكتابة وذاكرة، وعبر مختلف الوسائل التعبيرية والبلاغية. ولاشيء يشد شكري إلى طنجة سوى ذلك الحب الباذخ لفضاء البحر والوجوه المألوفة وأحيانا العابرة. ولا شيء يستطيع أن يحول دون معاشرة الطنجويين لرياح الشركي، والذهاب بعيدا في النظر إلى مساحات المياه الزرقاء كل شروق، ومراقبة المراكب والعبور المتصل بتجارب الناس اليومية، من خلال السفر والتهريب والدعارة والعتالة والصيد البحري وغير ذلك.
ولعل ما ورد في «ًالخبز الحافي» يعكس ما عاشته طنجة في أزمنتها الدولية، آية ذلك أن من عاصر/عاش الحقبة الدولية لم يكن بمقدوره أن يكون غير مهمش.
والمهمشون يقتاتون من القمامات، وينامون في العراء بالسوق الداخل وفندق الشجرة، ويمتهنون التسول، ويزاولون مهن التهريب في الميناء، ويشمون «السيلسيون» هذا الوضع لم يتغير للأسف، اليوم، بل ازداد سوء.
ما قام به محمد شكري في جل كتاباته هو فضح لجوانب مهمة من حياتنا المشتركة، سكت عنها الآخرون، بمن فيهم كتاب الغرب. نعم عمل شكري على فضح وتعرية واقع بئيس، وكشف تناقضاته بأسلوبه المعهود، أسلوب بلاغة عارية لحد الإيحاء، فوصف لنا مشاهد مؤلمة، حطبها أطفال جائعون مشردون، ضاعت منهم أحلامهم، فساورتهم الظنون في ارتياد عوالم الهجرة، وركوب الخطر والحلم بواقع يؤمن لهم شروط عيش أفضل، حتى لو كان الثمن حياتهم.
إن محمد شكري كان في الموعد حين رصد من خلال كتابته التغيرات التي يعرفها مجتمعنا في ديناميته وحركيته، ومجمل ما كتبه شكري يشهد على ذلك. ثم إنه أضفى على عوالم الليل والمهمشين مسحة خاصة وجمالية منسجمة في بلاغة أسلوبه ومؤثثات متخيله الروائي السير ذاتي ومنحه بعدا إنسانيا لا يخلو من عمق وهذا ما افتقرت إليه جل الكتابات، التي عالجت حياة الناس المهمشين، ولاسيما تلكم التي اتخذت لنفسها من طنجة فضاء لها.
أحمد بن شريف
البيضاء تستعيد أوجاع أحداثها
حلت منذ أيام ذكرى أحداث 81، وهي ذكرى تحل وتمضي كغيرها، تقف الدار البيضاء أحجارها، أرواحها ومختلف مكوناتها السرية والبينة، أمام المرآة لتطالع تفاصيل كينونتها المدموغة ببحر لهيب ذكرياتها الأليمة وأحداثها القيامية العصية عن المحو أو النسيان.
ما لا تفصح عنه المرآة، وتنوعات جغرافيا الدار البيضاء تمتد مد العجب لطبيعة صمتها المتوارث، أن المدينة البيضاء حين لا بياض، كانت طوع تنفيذ آليات الغباء، واقعية نداء المركزية النقابية/ الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، وهو ما استجابت له مختلف مكوناتها.
لا أعرف، في البال، ما يشبه صورة الدار البيضاء، قبل الإضراب العام، وقد تشققت جدرانها ونأت عن معناها التاريخي مجمل معالمها ورموزها ضد اللامعنى، بقدر ما استحالت بيوتات أحيائها السفلية الممهورة بالشعبية إلى ما يشبه تضارب التنهيدات والأوجاع اللاتطاق، وحتى لا تأخذ يدي للنسيان فئة البشر هنا وصفته تطابق، تسوس الحجر تشققه، تفتته، بكاءه وتلاوين أوجاعه.
من جهة أخرى، هي كل الجهات، لا أعرف مدى موضوعية مقاربة أحداث الدار البيضاء بسنوات الرهاب أو الرصاص، ما أعرفه دون مزايدة، أن التراجيديا تميل أبدا لإنعاش ذكراها وروحها، وهو ما حدث بالفعل، رصاص وعسكر وسقوط ضحايا بالجملة. على خلفية لهيب الأسعار، وضعف القدرة الشرائية المشفوعة واكتظاظ مخافر الشرطة من غيرها، دبر بشكل هندسي لاختناقات سبيلها إزهاق الأرواح، مجانا، دونما نأمة إسعاف.
هل بإمكاننا اليوم – الآن، الإعلان بوضوح أن الدار البيضاء، التي تقف اللحظة أمام المرآة، قد تزين امتداد جغرافيتها بمقابر إضافية. شخصيا لا أميل إلى «نعم» ولا أمشي في ركاب «لا».
في البال ما زالوا يبحثون وينقبون عن رفات القتلى- الشهداء، عن آية الأحياء من مؤثثات أرواح الدار البيضاء، عبروا إلى السجون عن طريق ما يشبه المحاكمات الصورية، منهم من مات ومنهم من أطلق سراحه، ومنهم من استفاد من تعويض بقيمة البؤس والحمق والتشرد.
ما تزال، الدار البيضاء، أمام المرآة تقلب وجهها، وتحملق في دروب كينونتها وشوارعها، تتلمس الآن مفزوعة جهة من جهات محاور جسدها- خارطتها، على إثر أوجاع حادة ألمت بها، فتحتمل الألم في صبر وكبرياء كعادتها، على خلفية ما يشبه الإحساس بالرضى الذي يزهر على امتداد ربوعها، ربما.
تحية لصناع أحداث 21 يونيو 1981، شهداء وأحياء، تحية لجمعية لا تندمل ذكريات جروحها، وهي تواكب أوضاع الضحايا وعائلتهم: في البال الرئيس الضحية سعيد مسرور.
محمد جبران


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.