يقترب الصيف فيحس الناس بأن كابوسا ثقيلا سيداهمهم. هذا الفصل لم يعد مجرد فصل للعطلة والاستجمام، بل صار وقتا كئيبا يقضيه الناس في البحث عن مكان تحت الشمس في الشواطئ وعن منزل للكراء قريب من البحر وكثير من احتياطي العملة لإدارة عطلة تتطلب الكثير، الكثير من المال والكثير من الأعصاب الحديدية. يقترب الصيف فيتذكر الناس أنه يأتي في قلب عيدين وشهر رمضان، فلا يعرفون لأي المناسبات سيصرفون، هل من أجل رمضان للتقرب إلى الجنة أم من أجل الصيف للتقرب إلى البحر أم من أجل العيد للتقرب إلى الكبش؟ يقترب رمضان فيتذكر الناس أن عليهم الوقوف عند ناصية الطريق لزمن طويل في انتظار سيارة أجرة يقودها «غودو»، أو الانحشار في حافلة تختلط فيها كل روائح الكون وكل موبقات البشرية. يقترب الصيف فيعد له السائقون ما استطاعوا من هراوات وسكاكين ورباطة جأش، فالمغربي للمغربي مثل البنيان المرصوص، لذلك يفكر كل واحد منهم في شراء هراوة «بيسبول» جديدة حتى لا يكون عرضة لهزائم الطرق في هذا الصيف الصعب، خصوصا وأن رمضان يأتي في عز الصيف، وفيهما تتحول الأعصاب إلى مرجل يغلي، وليس منا من لم يدمر جمجمة أخيه بهراوة. يقترب الصيف الذي ستتحول فيه أضواء الإشارة الحمراء إلى مجرد ديكور، لذلك يصاب الناس بعمى الألوان ويمرون في كل الألوان. ويبدو أن الذين اخترعوا اللون الأحمر لوقوف السيارات، عليهم أن يفكروا في لون إضافي لأن اللون الأحمر الحالي «ماشي شي حْمورية حتى لْهيه». يقترب الصيف وسيأتي مغاربة كثيرون من الخارج لزيارة الأهل والأحباب ومعانقة بلد لم يعرف كيف يحتفظ بهم، وبين هؤلاء المهاجرين سيأتي كثيرون محملين بأطنان من الخردة فوق سياراتهم المتهالكة، وكأن أوربا الجميلة والمزدهرة لم تخلق سوى لجمع الخردة. يأتي الصيف فيقصد الناس شواطئ تشبه المزابل، وكل من يأتي إلى الشاطئ في الصباح ويجد في رماله قمامة يشتم من تركها، وفي المساء يترك بدوره قمامته الخاصة في المكان نفسه، في انتظار أن يشتمه من سيأتي في صباح اليوم الموالي. يأتي الصيف فيتزاحم المواطنون البسطاء على شواطئ تشبه علب سردين، في الماء يستحمون وفيه يقضون حاجاتهم الأخرى، ثم يوزعون بينهم «دْلاّحة» يستعيضون بها عن كبش مشوي، وفي المساء يعودون أدراجهم إلى أقفاصهم سكارى من التعب وكأنهم كانوا في معركة. يقترب الصيف فيستعد له كبار القوم بما استطاعوا من أموال ربحوها بشرع أو بغير شرع، فيحجزون لأنفسهم في فنادق فاخرة في عواصم الصيف الحقيقية، في جزر بعيدة حالمة أو عواصم مكيفة الشوارع أو شواطئ ممنوعة على من لم يُخلَقوا وفي أفواههم ملاعق من ذهب. يأتي الصيف وتتحول الشوارع إلى خشبة عملاقة للتصريح بالممتلكات بين نساء وفتيات يعتدن أنهن خلقن فقط لكي يباهين بأجسادهن وليس بعقولهن، لذلك تبرع دور الأزياء ومصانع النسيج في اختراع أزياء لا تستر حتى نفسها فكيف بلابسها. يأتي الصيف ويعتقد كل صاحب سيارة أن مخترع السيارة فعل ذلك من أجل هدف واحد، وهو اقتناص أية امرأة تتحرك في الشارع، وكلما ازدادت السيارة فخامة كلما اعتقد صاحبها أن هارون الرشيد لم يكن شيئا لأنه لم يكن يمتلك سيارة. يقترب الصيف فلا يجد المغاربة سوى العدو وراءهم والبحر أمامهم، فالغابات اندثرت أو كادت بعد أن افترسها وحوش العقار، وسياحة الجبال لم نكتشفها بعد، والطرقات نحو الأماكن البعيدة أصبحت توصل إلى القبر وليس إلى قضاء العطلة. يأتي الصيف فلا يجد مغاربة كثيرون أي سبيل للوصول إلى الشاطئ، لذلك تتحول النافورات القليلة في المدن إلى مسابح عمومية، وينزل إليها الأطفال والمراهقون وهم يرتدون ملابس السباحة فيغطسون فيها ويأخذون حصتهم من الشمس على الأرصفة. يقترب الصيف فيتذكر أولئك القوم فيلاتهم وقصورهم الفاخرة على الشواطئ الحالمة ويخوتهم الفارهة في موانئ محروسة نسوها عاما كاملا، فيعدون العدة لغزوها من جديد. المال ليس مشكلة، والبحر الحقيقي خلق من أجل هؤلاء فقط. يأتي الصيف فلا يجد ملايين المنكوبين من حل سوى ملء «بانيو» أو برميل ووضعه في سطح المنزل أو في الباحة لكي يستحم فيه الآباء والأولاد بالتناوب.. التناوب التوافقي طبعا. عندما يأتي الصيف تختلط كل اللحوم، لحوم البشر ولحوم الحمير واللحوم الطرية والفاسدة، ويختلط كل شيء، ويأكل الجميع الجميع، فالصيف إما أن يكون فصل الفوضى أو لا يكون. يأتي الصيف فتزدحم أقسام المستعجلات بمرضى ومنكوبين من كل الأنواع، ضحايا الحوادث وضحايا التسمم وضحايا الاعتداءات وضحايا كل شيء، فنتذكر قصف غزة من طرف إسرائيل، ولا نعرف بالضبط أي إسرائيل تقصفنا نحن؟