وزير الخارجية السابق لجمهورية البيرو يكتب: بنما تنضم إلى الرفض الدولي المتزايد ل"بوليساريو"    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء        اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    بوعشرين: أصحاب "كلنا إسرائيليون" مطالبون بالتبرؤ من نتنياهو والاعتذار للمغاربة    الدار البيضاء.. حفل تكريم لروح الفنان الراحل حسن ميكري    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة    سبوتنيك الروسية تكشف عن شروط المغرب لعودة العلاقات مع إيران    كأس ديفيس لكرة المضرب.. هولندا تبلغ النهائي للمرة الأولى في تاريخها        الوزير برّادة يراجع منهجية ومعايير اختيار مؤسسات الريادة ال2500 في الابتدائي والإعدادي لسنة 2025    فولكر تورك: المغرب نموذج يحتذى به في مجال مكافحة التطرف    اختفاء غامض لشاب بلجيكي في المغرب        مرحلة استراتيجية جديدة في العلاقات المغربية-الصينية    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب    محامون يدعون لمراجعة مشروع قانون المسطرة المدنية وحذف الغرامات    تخليد الذكرى ال 60 لتشييد المسجد الكبير بدكار السنغالية    خبراء يكشفون دلالات زيارة الرئيس الصيني للمغرب ويؤكدون اقتراب بكين من الاعتراف بمغربية الصحراء    رئيس الاتحاد الإفريقي لكرة القدم: "فخور للغاية" بدور المغرب في تطور كرة القدم بإفريقيا    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات        الموت يفجع الفنانة المصرية مي عزالدين    وسيط المملكة يستضيف لأول مرة اجتماعات مجلس إدارة المعهد الدولي للأمبودسمان    عندما تتطاول الظلال على الأهرام: عبث تنظيم الصحافة الرياضية    طقس السبت.. بارد في المرتفعات وهبات ريال قوية بالجنوب وسوس    كيوسك السبت | تقرير يكشف تعرض 4535 امرأة للعنف خلال سنة واحدة فقط    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    الصويرة تستضيف اليوم الوطني السادس لفائدة النزيلات    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    موتسيبي يتوقع نجاح "كان السيدات"    موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"        افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها        مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    مشروع قانون جديد لحماية التراث في المغرب: تعزيز التشريعات وصون الهوية الثقافية    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثقافة كرة القدم.. ترويض الجماهير على حب المستديرة
لوبيات ضغط ومصالح وعروض بصرية ومشهدية وثقافات شعوب في المدرجات وعلى البساط الأخضر
نشر في المساء يوم 11 - 06 - 2014

حينما "استيقظ" ضمير الكاتب البرازيلي الشهير باولو كويلو، وهو أحد الدعامات الأساسية التي شكلت الوفد الرسمي الذي قدم ملف احتضان البرازيل لنهائيات كأس العالم، رفقة دونغا وروماريو ورئيسة الدولة، أكد أنه يشعر بخيبة أمل كبيرة من كل شيء حدث من وقتها حتى الآن، والسبب يعود إلى المبالغ المالية الكبيرة جدا التي صرفت على الملاعب في بلد يحتاج قبل كل شيء إلى المستشفيات والمدارس ووسائل النقل. يأتي هذا الموقف المفاجئ من قبل كاتب كبير استعمل اسمه للدعاية لبلده من أجل تنظيم كأس العالم، بسبب الاحتجاجات والتظاهرات التي ارتفعت في الشارع البرازيلي، بسبب الأموال الكبيرة التي أنفقت في بلد تضرب فيه التفاوتات الطبقية في العمق ويتسع مدى الفقر إلى حد مهول. لكن رغم ذلك، تظل "الساحرة" أكثر من مجال للفرجة، بل تحولت إلى ظاهرة عالمية، وإلى ثقافة مشتركة بين الشعوب، مهما اختلفت منابعهم وجذورهم في كل بقاع الأرض. نقترب منها، هنا في هذا الملف، الذي تخصصه "المساء الثقافي"، باعتبارها شأنا ثقافيا ومادة للتفكير والتحليل، وظاهرة جماهيرية، تختلط بالفنون البصرية والمشهدية وكل أشكال الرقص والغناء، وتخضع لضوابط وأحكام "كونية"، توحد هواة ومحترفي وعشاق اللعبة في أي مكان في العالم.
حارس المرمى، والكاتب الفرنسي الحائز على جائزة نوبل ألبير كامي، كان من عشاق الكرة، وهو كعدد من الشعراء والكتاب والمفكرين في القرن الماضي، أفردوا لها مساحات من أعمالهم. يقول كامي: «لا تلم حارس المرمى، فوحده من يوجد بين عارضتين من يعرف صعوبة ما يقوم به». بكل تأكيد، كرة القدم ليست مجرد لعبة، بل هي مجال للتفكير، ومحرك اقتصادي كبير، ومسرح حافل لاستعراض ثقافات الشعوب، وعصب وتكتلات أكبر من التكتلات السياسية والأحزاب، فقد شكلت «الإلترات» في أمريكا اللاتينية قوة كبيرة للضغط وتصحيح مسارات كرة القدم وتوجيه المتحكمين في الأندية الرياضية، ومعها ظهر توجه في العلوم الاجتماعية والسياسية، انتقل من ترويض الجماهير واستقطابها إلى ترويض شعوب كرة القدم، التي تتجاوز الخرائط والجغرافيات وجوازات السفر.
أحمد الكبيري: لوبي مال وأعمال يدعم سياسات التجهيل
يقول الكاتب والروائي المغربي أحمد الكبيري، وهو رياضي في الفنون الحربية: «وأنت ترى المقاهي في بلدك، سواء الفخمة منها، والموجودة بأرقى الأحياء وأكبر الشوارع، أو حتى أحقر مقهى في زاوية أي درب من دروبنا المعتمة، جميعها أصبحت تراهن على مباريات كرة القدم شبه اليومية، للرفع من مداخليها. تتساءل إن كان سحر كرة القدم كرياضة جميلة هو الداعي إلى هذه الظاهرة أم يوجد سحرة حقيقيون خلف الستار يحركون المشهد العام بخيوط خفية ويوجهونه بوعي وقصد في هذا الاتجاه؟ لقد كانت الفنون والرياضات جميعها مجالات للتربية والتوعية والاستمتاع والمعرفة والعيش والترفيه.
بل يمكن أن نجازف بالقول بأنها هي المجالات التي تعطي معنى لحياتنا ووجودنا وكينونتنا كبشر على وجه الأرض. لكن أن تصبح كرة القدم، دون سواها، في عالمنا العربي والمغربي على وجه الخصوص، هي المهيمن، كمخدر خطير، على عقول أطفالنا وشبابنا ونسبة كبيرة من رجالنا، معناه أن ثمة خللا ما في هذا المجتمع. هذا الخلل الذي ربما يؤشر، على الأقل، على وجود أمرين اثنين: الأول هو غياب الفاعل السياسي عن أرض الواقع، وتخليه عن دوره في الإنصات إلى هموم الناس وقضاياهم وتأطيرهم التأطير الصحيح من أجل بناء مجتمع ديمقراطي حداثي فاعل ومنتج ومسؤول. والأمر الثاني هو وجود لوبي المال والأعمال، مدعوما بسياسات التجهيل، الذي يسخر كل إمكانياته، المالية والإعلامية والإشهارية، لملء الفراغ الذي تركه السياسي. والنتيجة هي هذه الكارثة التي نعيشها اليوم في فضاءاتنا ومقاهينا. صراخ وضجيج يومي، حيث تجد الناس في المساء يتفرجون بحماس منقطع النظير في مباراة لكرة القدم تقع في قارة أخرى، وفي الغد تجدهم يتحدثون عنها بنفس الحماس «واللي بغى يربح العام طويل.»
سعد سرحان: عقود لاعب الكرة أكبر من قرن من نوبل للآداب
في ورقة جميلة، يحفر المبدع المغربي سعد سرحان في اللعبة، يكتب «لكل لعبة تاريخان: ما قبل اللعب وما بعد الجد. فلعبة الغولف، مثلا، تطورت عن لعبة شبيهة بها كان يلعبها الرعاة في المروج بين قطعانهم، حيث الحفر طبيعية والكرات من جذور الدوم الصلبة، أما العصي فمعقوفة لأسباب أخرى ليس الذئب أولها وليس آخرها الثمار العالية... وكان أن جاء رعاة آخرون، رعاة أنيقون اقتطعوا من المدن أطرافها النقية وحولوها إلى مروج اصطناعية بها برك ترتوي من عطش الفقراء. ولأنهم يأنفون من رؤية الماعز، فقد أطلقوا بها أسرابا من البط.. هكذا صارت لهم لعبة أنيقة ومكوية بعناية تليق برعاة الشركات والبنوك وقطعان الأرصدة.
الألعاب الأولمبية، أيضا، لها تاريخان. فهنالك الألعاب الأولمبية التي شارك فيها نيرون شخصيا بعربة تجرها ستة خيول في سباق كل عرباته تجرها أربعة فقط، ولم يعتبر أحد ساعتها أن الحصانين الإضافيين عبارة عن منشطات. وهنالك الطبعة المزيدة والمنقحة التي تنقلها القنوات الفضائية الآن، ويعاقب المشاركون فيها على مثقال ذرة من مادة محظورة قد تكون تسربت إلى سوائلهم من أقراص الزكام أو توابل الطعام حتى. أما المتوجون فيها فيصبحون أشهر ليس من نيرون فقط، بل من كل آلهة الأولمب أيضا.
أما كرة القدم، وهي مربط الفرس (بالمناسبة، ما رأيكم في إهداء هذه الورقة إلى السيد أحمد فرس؟) فلها تاريخ مشهور وتواريخ مغمورة لا يكاد يأبه لها أحد. ففي أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تأسست معظم الأندية الكبرى بعد أن كانت اللعبة قد خضعت لجل القواعد المعروفة الآن، ولا شك أن الفضل في ذلك يعود إلى الإنجليز. أما ظهورها ولو بشكل جنيني فلم يحظ في الغالب بأسئلة ملحة».
ويضيف: «الصينيون يعتبرون أنفسهم الآباء الروحيين للعبة، كونهم مارسوها منذ أكثر من ألفي سنة قبل الميلاد، ومعهم ظهرت الكرة المصنوعة من جلد الحيوان والمملوءة بالهواء، ومعهم أيضا ظهر المرمى بقوائمه الخشبية وشباكه الحرير. ولقد كانت كرة القدم إحدى وسائلهم للتدريب على فنون الحرب... إننا لا نملك إلا أن نصدقهم، فالصين أرض الفلسفات القديمة والديانات الأرضية، أرض اليوغا والكاراتيه... ودودة القز أيضا. والأرجح أنهم لم يتحولوا عن كرة القدم (وليتهم ما فعلوا) إلا بعد أن ألهاهم التكاثر.
اليونانيون لن يعدموا حجة لتأكيد فضلهم في ظهور اللعبة حتى لو استعانوا في ذلك بالإلياذة: «تم ضبط أناوسيكا ووصيفتها تلعبان». فهم أيضا صنعوا الكرة من جلود الأبقار وملؤوها رملا. ولقد كان شائعا لديهم انتزاع الكرة من الخصم بواسطة اليد، ما يجعل اللعبة عندهم أقرب إلى الكرة المستطيلة حاليا. اليونانيون رصعوا تاريخ المعرفة بأسماء عديدة، وإليهم يعود الفضل في تأسيس علم المنطق وفن الشعر... وهم الذين هندسوا الكون بالأساطير العميقة. فهل نستكثر عليهم أن يكونوا، في لحظة طيش، قد لعبوا كرة القدم أيضا؟
الإمبراطورية الرومانية عرفت كرة القدم قبل الميلاد. وهنالك لوحة فنية تبين ستة شبان رومانيين يقذفون بأقدامهم شيئا مستديرا مثل الكرة، ومنقوش على اللوحة «نحن أصل كرة القدم»، ما يحمل على الاعتقاد أن الإنجليز أنفسهم عرفوا اللعبة من الغزاة الرومانيين.
وعلى العكس من الإنجليز، فإن الإسبان أخذوا كرة القدم عن الهنود الحمر الذين كانوا يصنعونها من المطاط. فالقائد الإسباني كورتيز أخذ فريقين من الهنود الحمر إلى إسبانيا حتى تتفرج الملكة على هذه اللعبة، وذلك سنة 1528، ولم يدر بخلده (فقد كان له خلد) أنه بعد قرون ستعرف البطولة الإسبانية لكرة القدم استقدام العديد من نجوم اللعبة مقابل ملايين الدولارات، وهؤلاء النجوم (هل هي صدفة؟) معظمهم من أمريكا اللاتينية، أحفاد الهنود الحمر على الأرجح».
وعن العرب، يشير الكاتب سعد سرحان إلى أنهم «مدينون لعلماء الآثار والمؤرخين في الكشف عن فضلهم. ففي مدينة القادسية العراقية تم اكتشاف لوحة عمرها أربعون قرنا تمثل قدمي شخص يستعد لتسديد الكرة. أما في مصر، وفي مقابر بني حسن تحديدا، فيؤكد المؤرخ السوفياتي سوسكين أنه وجد رسوما تشبه كرة القدم يعود تاريخها إلى 4500 سنة قبل الميلاد، فيما يذهب الكاتبان السوفياتيان تسيريك وبولوكاشين إلى أن الجد الأول لكرة القدم عاش في مصر التي لم يجد الأثريون بها رسوما فقط، بل وجدوا الكرات أيضا. وإذا كان المؤرخون القدامى يقولون إن اليونانيين أطفال مقارنة مع المصريين، والإشارة هنا إلى العراقة طبعا، فلا نستطيع إلا أن نصدق، نحن العرب، أن الكرة مصرية. فهل يعقل أن يشيد الفراعنة الأهرام وأن يكونوا عاجزين عن اجتراح هذه الأعجوبة الصغيرة: كرة القدم؟».
الكتاب والمبدعون ليسوا خارج اللعبة. يشير هنا سعد سرحان إلى أن للكتاب آراء مختلفة في كرة القدم. فألبير كامو وخوليو كورتازار على سبيل المثال كانا يمارسان اللعبة، وهما بذلك عبرا عن رأييهما في الملاعب وليس خارجها. أما ألبرتو مورافيا فقد كان متبرما من كرة القدم، فعشية مونديال 86 ذهب إليه بعض الصحافيين لأخذ رأيه فوجدوه يجمع حقائبه استعدادا للسفر وهروبا من حمى اللعبة التي تجتاح إيطاليا في مناسبة كتلك. كأس العالم لذلك العام فازت بها الأرجنتين بفضل مارادونا الذي كان أداؤه لافتا ليس للانتباه فحسب وإنما للشعر أيضا: فقد خصه محمود درويش بنص جميل تناقلته عن بعضها الكثير من المنابر. فمحمود درويش متيم بكرة القدم وقد عبر عن ذلك في أكثر من مناسبة. ففي إحدى قراءاته الشعرية ذات صيف بمدينة فاس، قدمته إحدى الكاتبات إلى الجمهور بغير قليل من المبالغة، بل بصفات فوق بشرية، ما أثار حفيظة الكثيرين. وحين تناول الكلمة استهلها بشكر الحضور على تفضيله شعره على مباراة فرنسا وإسبانيا التي كانت مبرمجة ذلك المساء في إطار كأس أوربا للأمم، ثم أضاف أنه من جهته يفضل أن يتابع المقابلة حتى لو كان من سيحيي الأمسية هو المتنبي. وبكلمته تلك عاد إلى أرض البشر، الأرض الكروية طبعا. وكأن لسان حاله يقول للتي قدمته ما قاله وايتمان لإحداهن ذات قصيدة: «تبسطي معي فأنا والت وايتمان».
أما الذين تستهويهم المقارنة فنهمس في آذانهم بأن لاعب كرة القدم قد يوقع عقدا يفوق عائده المادي قرنا من جوائز نوبل للآداب».
كرة القدم: لعبة جميلة بترتيبات غير شفافة
حيل ليونيل ميسي الساحرة والقوة العضلية لكريستيانو رونالدو من بين الأمور الممتعة التي تجذب أنظار أي مشاهد لكرة القدم. بيد أنه بالنسبة إلى الأشخاص الذين يؤمنون بأن العالم قرية صغيرة، فإن الجمال الحقيقي للعبة يتمثل في قدرتها على الوصول إلى أي مكان، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب. فكرة القدم تتفوق على أي رياضة أخرى في كونها استفادت من العولمة، إذ سيقوم حوالي نصف سكان الأرض بمشاهدة جزء على الأقل من كأس العالم، الذي سينطلق في البرازيل الخميس 12 يونيو.
لكن المؤسف هو أن المباريات قبل انطلاقها ستكون تحت غيمة كبيرة بحجم ملعب «الماراكانا». تلك الغيمة تتمثل في الوثائق التي حصلت عليها صحيفة «صانداي تايمز»، التي تحمل اتهامات بوجود أموال سرية تم تقديمها تحت الطاولة، ما سهل على قطر الفوز بحق تنظيم كأس العالم في العام 2022. وإذا ثبت أن هذا ما حدث فعليا، فإن الأمر لن يكون بمثابة السابقة، فقد سبق الحديث عن تقرير ل»فيفا»، خلص إلى أن العديد من المباريات تم التلاعب بنتائجها مسبقا قبل تنظيم كأس العالم للعام 2010. وكما هو الحال لم تتم معاقبة أي أحد.
هذا الأمر يفرض طرح مجموعة من الأسئلة: من الذي رأى بأن تنظيم كأس العالم في عز فصل الصيف بالخليج فكرة جيدة؟ ولِمَ مازالت كرة القدم متأخرة وراء رياضات أخرى كالروكبي، والكريكيت، والتنس في الاعتماد على التكنولوجيا للتأكد من صحة قرارات الحكام أثناء المباريات؟ ولِمَ مازالت اللعبة الأكثر شعبية في العالم تخضع لسيطرة مجموعة من الأشخاص متوسطي الأداء، لاسيما جوزيف بلاتر، رئيس الفيفا منذ 1998؟ فداخل أي تنظيم آخر كانت ستكفي سلسلة الفضائح المالية التي لا تنتهي بأن تكون سببا في إقالته منذ عدة سنوات خلت. أكثر من ذلك، يظهر أن بلاتر شخص خارج التاريخ بشكل صارخ؛ فبعد تصريحاته المجحفة في حق النساء، وتشويشه على دقيقة الصمت التي أقيمت للترحم على نيلسون مانديلا، يشبه رئيس الفيفا البالغ 78 سنة الديناصور الذي ظل حبيس عقلية اجتماعات مجالس الشركات لحقبة السبعينيات. فضلا عن ذلك، لا يثلج الصدر كون محاولات منع بلاتر من التمتع بولاية خامسة على رأس الفيفا يقودها ميشيل بلاتيني، رئيس الاتحاد الأوروبي لكرة القدم، الذي كان في وقت سابق لاعب وسط ميدان رائع، لكنه لعب دورا يؤسف عليه في دعم ترشح قطر لاحتضان كأس العالم.
بغير مبالاة
العديد من عشاق الكرة المستديرة لا يعنيهم ما يجري في شيء. ما يهمهم بالأساس هو جمالية اللعبة، وليس الأشخاص الهرمين المتعبين الذين يسيرون أمورها. إلا أن الفساد الأخلاقي الذي تورط فيه الاتحاد الدولي لكرة القدم ليس حالة استثنائية. فاللجنة الأولمبية الدولية واجهت كذلك فضيحة تشبه فضيحة قطر، فيما يخص منح حق تنظيم الألعاب الشتوية في العام 2002 التي نظمت بالولايات المتحدة الأمريكية. كما أن رئيس مسابقة «فورميلا 1»، بيرني إيكسيلستون، يواجه تهمة الارتشاء بألمانيا، فيما اضطر اتحاد كرة السلة بأمريكا إلى طرد مدير ناد بسبب تصريحاته العنصرية.
بيد أن عشاق كرة القدم يخطئون في الاعتقاد بأن قضايا الفساد التي تظهر تمر دون أي تكون لها أي تكلفة. بداية، الفساد والتواطؤ على رأس الهرم يجعل القيام بمحاربة الاحتيال على رقعة الملعب أمرا في غاية الصعوبة. فيوما بعد يوم يتم صرف مبالغ أكبر في الرهان على نتائج المباريات، التي قد تصل إلى مليار دولار في المباراة الواحدة في كأس العالم. وبعد تعرضه لضغوط خارجية من أجل القيام بالإصلاح، قام الاتحاد الدولي للعبة بجلب أشخاص مشهود لهم بالنزاهة، بما في ذلك مارك بييت. لكن من الذي سيستمع إلى محاضرات حول الإصلاح صادرة من جهاز وجهه البارز هو جوزيف بلاتر؟
ثانيا، لا يمر الفساد الكروي دون أن يخلف آثارا جانبية، ولا ينتهي بانتهاء عملية اختيار البلد الذي سيحتضن المنافسات والأعراس الكروية. فبالنسبة إلى الأنظمة غير الشفافة، النوعية التي تقدم الرشاوى للمسؤولين عن كرة القدم، فإن أي حدث كروي كبير هو كذلك فرصة لسلب أموال خزينة الدولة، عبر القيام مثلا بمنح العقود الكبرى للنافذين. وبالتالي، فإن المباريات التي ينبغي أن تكون أعراسا وطنية قد تتحول إلى مناسبات لابتزاز المال.
ثالثا، قد يؤدي الفساد إلى تضييع الكثير من الفرص على لعبة كرة القدم. فاللعبة ليست بنفس الشعبية في جميع دول العالم؛ فقد فشلت في اكتساب القلوب في ثلاثة أكبر بلدان في العالم؛ وهي الصين والهند وأمريكا. فبالولايات المتحدة الأمريكية، كرة القدم تلعب ولا تشاهد، فيما يحدث العكس بالصين والهند. وحتى نكون منصفين للاتحاد الدولي لكرة القدم، فإن عدم انتشار كرة القدم في البلدان الثلاثة يعود بالأساس إلى تاريخ تلك البلدان وثقافاتها والحضور القوي لرياضات أخرى، لاسيما الكريكيت بالهند.
عالم بدون بلاتر
قد يكون التخلص من جوزيف بلاتر أمرا محمودا، لكن ذلك لا يعني بأنه سيتم حل المشكل البنيوي للاتحاد الدولي لكرة القدم. ورغم أن الاتحاد من الناحية القانونية يعد منظمة سويسرية ليست لها أهداف ربحية، فإن الاتحاد الدولي للعبة هو سيد نفسه. فالجهات التي بوسعها مساءلة التنظيم، كالتنظيمات الوطنية أو الإقليمية لكرة القدم، تعتمد على الأموال التي تتلقاها من الاتحاد. كما أن الحواجز العالية المقامة في وجه دخول الاتحاد، تجعل من المستحيل ظهور منافس قوي. لذا يمارس الاتحاد الدولي لكرة القدم سيطرة بديهية على كرة القدم العالمية. وإذا كان يتوجب أن يخضع هذا تنظيم لعدة ضوابط، فإن «الفيفا» لا تخضع لأي حكومة بالعالم.
ومع ذلك، فإن الكثير يمكن القيام به. ففي وسع السويسريين المطالبة بتنظيف الاتحاد أو سحب الوضع الضريبي الاستثنائي الذي يتمتع به الاتحاد الدولي لكرة القدم. كما أن الجهات الراعية بوسعها النزول بثقلها لمنع الابتزاز المالي عبر المطالبة بتفعيل إدماج التكنولوجيا الحديثة في المباريات؛ وقد تكون البداية بإقرار التأكد عبر تسجيلات الفيديو المباشرة من كل هدف يتم تسجيله أو ضربة جزاء يتم منحها.
بيد أن الجزء الأصعب من المعضلة يظل هو طريقة اختيار البلدان التي ستحضن كأس العالم. هناك الكثير من المقترحات في هذا الصدد، كمنح حق تنظيم كأس العالم للبلد الذي يفوز به بعد مرور ثمان سنوات. قد يصعب فعليا تحقيق أي من تلك المقترحات، بيد أن خطوة صغيرة في اتجاه العودة إلى الصواب تتمثل في القيام رسميا بالتناوب على تنظيم المباريات، على أن تنتقل من أوروبا إلى إفريقيا، ومن آسيا إلى القارة الأمريكية، وهو ما سيؤدي على الأقل إلى الحد من الفساد ما بين القارات. بيد أن جزءا ولو ضئيلا من هذا لن يتحقق بدون تغيير على رأس الهرم بزيوريخ.
محمد حمامة
عن مجلة
«ذي إيكونوميست» البريطانية.
أندلس الأعماق.. التاريخ والامتداد
على هامش صدور العمل الجديد لعبد الدين حمروش
الملك / الشاعر المعتمد بن عباد أن يعود من قبره بمدينة أغمات، لينبعث حيا بيننا، رافعا صوته بشموخه الشعري المدوي، وبأنفته الأبية التي وسمت مسيرته السياسية في إطار تفاعل مزمن مع ضغط الدولة المرابطية التي حكمت المغرب خلال زمن غير يسير من عقود العصر الوسيط المغربي. ينبعث المعتمد بن عباد بيننا هذه المرة، عبر الكتاب التركيبي الذي أنجزه الشاعر عبد الدين حمروش حول السيرة الذهنية والثقافية لملك إشبيلية، ومن خلاله لمجمل التراث الأندلسي الذي أضحى عنصرا لاحما لعناصر الهوية الثقافية والحضارية لمغاربة الزمن الراهن.
يتعلق الأمر بكتاب «المعتمد بن عباد ضيفا على المغرب»، الصادر خلال مطلع السنة الجارية (2014)، ضمن منشورات مركز الدراسات والأبحاث الإنسانية بالدار البيضاء، في ما مجموعه 210 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. لقد استطاع عبد الدين حمروش إعادة تحيين مجمل القيم الإنسانية والأبعاد الجمالية التي ارتبطت بالسيرة الذهنية والإبداعية للمعتمد بن عباد، في تقاطع مع التطورات السياسية الكبرى للعصر، وفي سياق أجواء التدافع المزمن لدولة بني عباد، سواء في إطار علاقاتها المستكينة / المتوترة مع يوسف بن تاشفين، أمير دولة المرابطين، أم في إطار ارتجاجات هذه العلاقات مع ألفونسو السادس، ملك قشتالة وحامل لواء «تطهير» الأندلس من الوجود الإسلامي، الذي مثلته إمارات ملوك الطوائف الشهيرة. ورغم أن للأمر بعدا تاريخيا وسياسيا موجها، فالمؤكد أن عمق القيم الإنسانية والثقافية ظل أكثر تأثيرا في المخيال الجماعي لسكان العدوتين، المغرب والأندلس، وأفرز سيلا لامتناهيا من التعبيرات الإبداعية والتحليلية، للسياقات وللموروثات الحضارية، منذ مرحلة «نكبة» المعتمد بن عباد وإلى يومنا هذا. ونكاد نجزم أن الموضوع نال من الاهتمام بالبحث وبالتوثيق وبالتفكيك، بشكل لا نجد مثيلا له في أي «موضوع أندلسي» آخر داخل رصيد المنجز العلمي والثقافي المغربي المعاصر.
لم يعد الأمر مرتبطا بتدافع سياسي عرفته العدوتان في أعقاب معركة الزلاقة التي انتصر فيها يوسف بن تاشفين على الإسبان سنة 1086 م (479 ه)، ولا بمجرد نزوة عابرة لترسيخ سلطة زمنية أندلسية مستقلة عن هيمنة المركز المرابطي هناك بعيدا في أقاصي صحراء المغرب، ولا بمحاولة للحسم في الإشكال القديم والنقاش المتجدد حول ظلم ابن تاشفين للمعتمد، وهو الظلم الذي يختزل أقصى سمات طغيان سلوك «البداوة» المرابطية تجاه «الحضارة والمدنية» الأندلسية... ليس الأمر كذلك على الإطلاق، بقدر ما هو محاولة لإعادة البحث في الروابط القائمة/ والمفترضة بين قطع فسيفساء الهوية الوطنية للمرحلة الراهنة من جهة، وبين مكوناتها الأندلسية القائمة من جهة ثانية، سواء في مستوياتها المادية والسلوكية المتوارثة، أم في تعبيرات هذه المستويات الرمزية والثقافية المجردة لمغاربة الزمن الراهن. ولعل هذا ما اختزلته الكلمة التقديمية للكتاب، حيث يكتب عبد الدين حمروش: «... حين تلتقي السياسة بالأدب، في سياق أحداث كبرى، يكتب للتاريخ صفحات عميقة ومثيرة في نفس الآن. العمق كان مصدره خيالا شعريا جامحا، ظلت تسكنه قيم إنسانية قوية وعنيفة، سواء في لحظات سموها ورفعتها، أو في لحظات ضعتها وانحطاطها. ذلك ما لاحظناه من خلال اقتراب قصة الملك/ الشاعر من التاريخ الشعبي، بما باتت تهجس به من خرافة وأسطورة. في حين كان مصدر الإثارة تلك الانقلابات الدراماتيكية التي شهدتها الأحداث في مختلف مجرياتها. من الانقلابات الحاصلة، كان للمعتبر بالتاريخ فرصة تجريد حكم مضيئة بشأن تقلب الحال، وبالتالي غدر الزمان. المعتمد نفسه كان في مقدمة المعتبرين في سجنه بأغمات... وإن ظل من الصعب الفصل بين الحاكم والشاعر في شخص المعتمد، فإن انتصارنا الحقيقي سيكون للثاني، أي بما صدر عنه من شعر في غاية من السمو الإنساني والجمالي. بعبارة أخرى، فإن ما قد يلاحظ من استفاضة تاريخية في بعض الأحيان، ليس من شأنها أن تغطي على الجانب الأدبي في هذا العمل...» (ص 4 – 5).
لم يكتف عبد الدين حمروش بإعادة استحضار معالم رصيد المنجز الإبداعي للمعتمد بن عباد، ولا بتجميع ذخائر «المغربيات من قصائد الأندلسيين»، سواء بالنسبة للنصوص التي كتبها المعتمد أثناء «استضافته» بالمغرب أم بالنسبة إلى نصوص «مغربيات» التي كتبها شعراء آخرون استوحوا حدث اعتقال المعتمد في أغمات وظروف هذا الاعتقال، بقدر ما أنه سعى إلى تفكيك إواليات انتظام عطاء هذا الرصيد وخصوبته المتجددة والمؤسسة لمعالم التواصل الثقافي بين المغرب والأندلس. وقد انتبه المؤلف إلى أن هذا التواصل، الذي أضحى قدرا محتوما، بات يفرض نفسه على المغرب وإسبانيا منذ ذاك التاريخ، ليشكل مفتاحا لتفكيك الكثير من الأنساق الثقافية الناظمة لعناصر تميز الهوية الجماعية لمغاربة المرحلة، بإفرازات ذلك على مجمل أوجه النبوغ والسمو في تجارب الإبداع المؤطرة لمعالم هذا التميز. لذلك، أضحت سيرة المعتمد بن عباد موضوعا متجددا، له أعلامه وفرسانه، قضاياه وإشكالاته، منغلقاته وتوابعه. باختصار، إنه – كما أوضحت في الكلمة الاستهلالية التي كان لي شرف وضعها للكتاب – كتاب المعتمد بن عباد المشرع على رحابة فعل السؤال، وعلى شساعة ملكة التخييل، وعلى غزارة روح الاستلهام. «كتاب» متجدد بامتياز، في مقاربة إشكالاته التاريخية، وفي تشريح قيمه الثقافية والحضارية العميقة. لقد ظلت سيرة المعتمد بن عباد تكتسي راهنيتها الثقافية على هامش كل الأسئلة التي تسعى إلى تفكيك مكونات الهوية المركبة التي تميز راهن المشهد الثقافي الوطني. ولعل هذا ما نجح عبد الدين حمروش في القبض بتلابيبه، عبر رؤى تأملية فاحصة، وقراءة نسقية متجددة، لا شك أنها تعيد قضايا حضور المكون الأندلسي/ الموريسكي إلى واجهة البحث والتحري والتأمل، عبر تحيين الأسئلة النقدية والتفكيكية لوقائع السيرة الذهنية للمعتمد بن عباد الغائب/ الحاضر في وعي الكثير من التعبيرات الثقافية التي تنتجها نخب المرحلة الراهنة.
هي تعبيرات تخلص في استحضار «نكبة» المعتمد، وفي تمثل قلق الغربة، وفي تحيين الدلالات الإنسانية العميقة لصوت ابن عباد وهو يناجي ذاكرتنا الجماعية،
بأبياته الشعرية التي تنتصب فوق قبره، حاملة لواء الإباء في شخصية مبدعها، ومختزلة لمعالم التوهج داخل المنجز الشعري لهذه الشخصية. يقول المعتمد بن عباد في قصيدة «الغريب»:
«قبر الغريب سقاك الرائح الغادي حقا ظفرت بأشلاء ابن عباد بالدهر في نقم بالبحر في نعم بالبدر في ظلم بالصدر في النادي نعم هو الحق وافاني به قدر من السماء فوافاني لميعاد».
وبعد، إنه «ميعاد» المعتمد، ميعاد متجدد يخلص في تحيين القيم والأبعاد الجمالية التي صنعت/ وتصنع معالم الخصب في «ذاكرتنا الأندلسية» المشتركة، بالأمس واليوم.
أسامة الزكاري
بيان من أجل سينما حديثة
تعيش السينما المغربية عصرها الذهبي على مستوى الإنتاج، بفضل سياسة الدعم التي تبنتها الدولة منذ ثلاثة عقود من الزمن، وبفضل اجتهادات المخرجين المغاربة ورغبتهم في حكي قصص اجتماعية وسياسية بواسطة الصورة، غير أن القراءة الأولى للمنتوجات «السينمائية» الأخيرة تبين أن نسبة كبيرة من هذه الأفلام لا علاقة لها بالسينما بالمعنى النظري الفني والعلمي، بل هي عبارة عن منتوجات سمعية بصرية تستعمل في مجال التسلية الجماهيرية محدودة الاستعمال. وحتى نكون موضوعيين، نقر دائما أن هناك استثناءات قليلة تخرج عن هذه القاعدة، وتثبت أصالة وإبداعية ثلة من المخرجين الذين أعطوا للساحة الثقافية أفلاما سينمائية خالدة، تصلح لكل زمان ومكان، جعلت من مواضيع محلية قضايا دولية، بفضل إبداعيتها وتمكنها من المعرفة السينمائية، ومن معرفتها بمجتمعها في سائر تحولاته الاجتماعية والتاريخية.
ولإحياء الذاكرة البصرية للمشتغلين في مجال السينما ولمحاولة إعطاء نموذج من الأفلام الخالدة التي تجاوزت عصرها وأثبتت حداثتها الفنية والفكرية والجمالية، نتقاسم مشاهدة فيلم «سارق الدراجة» للمخرج الإيطالي فيتوريو دوسيكا.
يحكي الفيلم قصة عامل معطل يبحث عن عمل لإنقاذ نفسه وأسرته من الفقر والحاجة. وعندما حصل هذا العامل على عمل اشترط عليه المشغل أن يكون مالكا لدراجة هوائية تضمن تنقله. وأثناء قيامه بعمله، وفي غفلة منه، تسرق دراجته، فيدخل في رحلة طويلة عبر أسواق وأحياء روما من أجل البحث عن هذه الدراجة، رفقة ابنه الصغير، وعندما يئس من العثور على دراجة اضطر إلى محاولة سرقة دراجة اعترضت سبيله، لكنه سقط في أيدي مجموعة من المواطنين الذين قبضوا عليه وأهانوه أمام أعين ابنه.
هذه هي الحكاية التي كتبها السيناريست زفاتيني الشهير، والتي نختار منها المشهد الأول لقراءته قراءة جمالية، تبين لنا العلاقة التكاملية الكامنة بين السيناريو والميزونسين والإخراج، والتي أعطت للفيلم قوته الإبداعية.
يكتب زفاتيني في المشهد الأول من السيناريو ما يلي:
مجموعة من العمال، في ساحة روما، صباحا، يتوجهون إلى مكتب التشغيل للبحث عن العمل. يخرج رئيس المكتب إليهم، وينادي ريتشي، يسلمه ورقة العمل، ويشترط عليه أن تكون له دراجة لممارسة هذا العمل.
عندما ينتقل هذا المشهد إلى يدي المخرج دو سيكا، يفكر فيه، أولا من خلال الميزونسين التي مكنته من ترتيب وتركيب المكان بطريقة سمحت له بخلق دينامية في الحركة الدرامية، ووضع المبادئ الأساسية لإنتاج المعنى. وكان أهم عنصر اعتمده دوسيكا في التقسيم الدرامي هو الفضاء، حيث اخترع مبدأ السلم، الذي مكنه من تدبير مهمة الإخراج بشكل سمفوني يضبط الإيقاع الزمني، بطرقة كريشندو، ليضع المشكل والإشكالية منذ المشهد الأول، الشيء الذي يثبت عبقرية هذا المبدع وعبقرية فيلمه.
بعد وضع الميزونسين، من خلال السلم، يقسم دوسيكا المشهد إلى أربع وعشرين لقطة لتصوير السلم، يستعمل فيها جميع مستويات اللقطات، من اللقطة المتوسطة إلى اللقطة الجد مكبرة، كما يستعمل زاوية النظر الغاطسة والمضادة، ويصور كل هذه الدينامية، ذات الإيقاع السريع بكاميرا ثابتة ومتحركة. يستغرق هذا المشهد ثلاث دقائق.
إن استعمال مفهوم المرئي واللامرئي لقراءة هذه المتوالية السينمائية (لأن المشهد عندما يلمسه الإخراج يتحول إلى متوالية). يوضح لنا أن أغلب المشاهدين البسطاء، (وربما المخرجون البسطاء كذلك وقد كثر عددهم مؤخرا) يقفون عند الحدوثة، التي هي قصة السيناريو، ولا يظهر لهم اللامرئي الذي هو ما تبينه الميزونسين وما تكونه الكاميرا من خلال اللغة السينمائية الدقيقة التي تتجاوز التصوير التعييني إلى التعبير الإيحائي والجمالي.
وهكذا تساعد الخبرة الاستتيقية المشاهد بأن يتجاوز الحكاية إلى معناها (وليس مغزاها). ولبناء معنى هذا المشهد علينا أن نبحث عن دلالة السلم في كل الحضارات والثقافات، وسنجد أن السلم مكان للعبور لا نقف فيه ولا نسكنه، لأنه مكان مائل، كما أنه مكان إشكالي لأنه يؤدي إلى الهبوط أو إلى الصعود. كما أنه شبيه بالصراط في جحيم دانتي، وقد استعملته الحضارة الإغريقية والرومانية كمسار للصعود إلى المذابح القربانية، للتقرب إلى آلهة الأولمب. وقد اعتمدته الميثولوجيا الإغريقية كفضاء للتتويج الرياضي في ألعاب الأولمب. كل هذا يبين لنا الدلالات المتعددة التي يمكن أن نلبسها للعامل العاطل ريتشي عندما يناديه الموظف باسمه، فيصعد السلم إلى القمة، فينظر من زاوية غاطسة إلى جموع العمال الذين لا نر ى في البداية إلا أكتافهم .
إن الحصول على العمل هو الذي سمح لريتشي بأن يصبح له اسم، أي هوية تعيينية من دون العمال الآخرين. كما أن العمل هو الذي جعله يصبح مختارا من دون الآخرين، ليصعد إلى فضاء التتويج، وتحتفل به الكاميرا وهو يصعد السلم، لتعانق وجهة نظره الغاطسة من أعلى إلى أسفل (واحد، عامل، ضد الجمع أو الحشد،عاطل). إن العمل الذي حقق لريتشي هويته سيحقق له كذلك وسيلة للعيش تنقذه من الضياع وتسمح له بإعادة كرامته الإنسانية التي فقدها منذ أن فقد عمله. نحيل هنا على الهراش الكلبي بين حشود العمال، عندما تردد ريتشي في الاعتراف بأن له دراجة، حيث هبط من أعلى السلم إلى الوسط على مستوى لاميزونسين. كما تخلت الكاميرا عن وجهة نظره، وصورته من أعلى إلى أسفل، للتعبير عن هشاشة وضعه ووضعيته. ويظهر الهدف الثالث الذي حققه العمل بالنسبة لريتشي، بشكل ضمني، هو التدبير الزمني، حيث يقول الحكماء إن «حلاوة العطلة تأتي من أيام العمل التي تحيط بها». معنى هذا أن الإنسان العاطل لا يتمتع بالزمن لأن الزمن يتطلب أن يخضع إلى تنظيم، وأهم عنصر يساعد على تنظيم الزمن واستثماره هو العمل، فبدون العمل يتحول الزمن إلى عدو.
إن فلسفة الإخراج عند دوسيكا تجعل أفلامه أعمالا خالدة تنبض بالمعنى وقابلة للترهين في أي عصر، وما أحوجنا إلى مشاهدتها وإعادة مشاهدتها من أجل الخروج من هذه الحبسة الإبداعية (حتى لا نقول الأزمة) التي تعيشها السينما المغربية. وما أحوج مثل هذه الأفلام الخالدة إلى مرافقين ثقافيين، يعملون على إيصالها إلى جمهور فاعل وذكي، يجعل منها مرجعية ذوقية وجمالية، تمتعه وتقيه من التراكم السمعي البصري، الذي هيمن على كل القنوات التواصلية، وحجب الرؤية عن الأعمال الفنية المتميزة. كما ندعو المخرجين الشباب إلى الاطلاع على هذا النوع من الأفلام من أجل خلق سينما حديثة، تفهم العصر والمعاصر وتتجاوزه ولا تغرق فيه.
حمادي كيروم
الفنون والعاطفة
مجال العلم هو الخبرة التجريبية الصارمة، أما مجالات الأدب فأكثر رحابة، فهو يُقَدم شهادات حول العَالَم الذي يُولد فيه الناس ويعيشون ثم يموتون، العالم الذي فيه يحبون ويكرهون، يعيشون العز والمذلة، الأمل واليأس، الألم والسعادة، وكل المتضادات والثنائيات من المشاعر والعواطف والسلوك، فيما العلم يعنى بتعميم الخبرات الجماعية المتاحة وصوغها في هيئة قواعد ونُظم وقوانين . وهذه جميعاً تصبح ملزمة أو على الأقل يُنظر إليها على أنها أمر اختبر بعناية، فارتدى مهابة العلم وصرامته.
صحيح أن للمخيلة دورها في العلم أيضاً، ولكن الحديث يدور فقط عن تلك المُخيلة المُخصبة للبحث والاستكشاف، التي ليس بوسعها التحرر من «قواعد» العلم وقوانينه، وحتى لو حدث أنها تحررت منها، فإنما لكي تضع قواعد جديدة، لها ذات الطابع من الصرامة التي كانت لسالفها. ولكون الأدب ينطلق من التجربة الفردية فإنه غير قابل للتكرار. كل أديب يعبر عن تجربته الخاصة، وهو يفعل ذلك منفرداً، حيث لا سبيل لتكرار ما قاله آخرون بذات التجليات الإبداعية. هنا لا قانون صارماً، وإنما فضاء رحب من حرية التعبير لا يتوافر للعَالِم المُطالب بالدقة والصرامة لكي يصح عليه الوصف بأنه عَالِم.
هل يبالغ المرء إذا قال إن روايات نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس تقدم صورة عن القاهرة زمان، والقاهرة التالية أكثر مما يفعل الكثير من البحوث الاجتماعية الاقتصادية؟ والأمر نفسه يصدق على روايات حنا مينة عن تحولات المجتمع السوري أو روايات غائب طعمة فرمان عن بغداد التي كانت، بغداد التي فقدناها، ويمكن قول الشيء نفسه عن ملحمة عبدالرحمن منيف: «مدن الملح» وهي ترصد تأثيرات إكتشاف النفط العاصفة على مجتمعات الخليج والجزيرة العربية.
وما يصح على المجتمع العربي يصح على المجتمعات الأخرى. إن تاريخ أمريكا اللاتينية الغريب والساحر يفهم بشكل أدق عبر روايات ماركيز وايزابيل الليندي وجورج أمادو، ونحن نتعرف إلى أوروبا القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بشكل أفضل عبر روايات فيكتور هيغو وتشارلز ديكنز، ونعرف أمريكا عبر همنغواي، وروسيا من خلال تولستوي وديستوفسكي وغوغول أكثر مما نعرفها عبر الوقائع التاريخية المجردة حين تسرد سرداً بارداً محايداً.
ليس الأدب وحده ما يفعل ذلك. كل الفنون لها ذات السحر، فالمتعة التي تجتاحنا حين نقرأ رواية أو كتاباً يشدنا، تشبه ما ينتابنا ونحن نغرق بنصف إغفاءة للعين، مصغين إلى حفل موسيقي سيمفوني، أو حين نسمع أغنية تطربنا، أو نتسمر أمام لوحة خالدة تجذب بصرنا إليها جذباً؟ ليست الحواس المألوفة وحدها وسيلتنا لتلقي المتعة، كالبصر والسمع، وإنما هناك بصيرة أخرى خفية تخلق بيننا وبين ما نقرأ ونسمع ونشاهد حالاً من التماهي. لماذا نشعر، في مثل هذه الحالات من التذوق، بأننا أكثر خفة من القيود التي تشدنا إلى الأرض حتى نكاد أن نحلق، وأكثر عمقاً في الرهافة، وأكثر تعلقاً بالحياة؟
مؤلف كتاب رفاق الروح توماس مور، وهو عالم نفس أمريكي، حائز شهادات في علم النفس والموسيقى والفنون واللاهوت يسعفنا في الإمساك ببعض خبايا هذا السر، حين يرى في عودتنا إلى شكسبير ودانتي وفيرجينيا وولف وانغمار برغمان وغيرهم، فالقائمة، برأيه، لا تنتهي، مسعى منا من أجل الحصول على تصور عميق وحيوي.
باستطاعتنا أن نجد شاعرية حياتنا في موسيقا الريف والجاز وموسيقا باخ والراب، فبإثراء مخيلاتنا بالصور المتحركة المحرضة للفكر والبناء، وما هو حكيم فإننا نجلب لعلاقتنا الحميمة عقلاً وقلباً منفتحين على التنوع في التعبير الإنساني، وعلى ما هو غير مألوف وعلى العواطف والبهجة والدائرة الكاملة للانفعالات.
القليلون منا ربما يلحظون تلك العلاقة بين العاطفة والفنون، رغم شعورنا بأن هذه الفنون تتوجه، تحديداً، نحو عالمنا الروحي، من دون أن ننتبه إلى أن التعرض المستمر للفنون هو أحد السبل كي نعد أنفسنا لعلاقة خلاقة، تسعفنا لبلوغ مقاربات أفضل للحياة. إن التربية العامة في أسلوب التفكير والعيش الشاعري اللذين تقدمهما الفنون تمدنا ببصيرة تجعل من تفكيرنا في الحياة أكثر اتساعاً، مما يعطي الروح، عندئذ، فرصةً كي تظهر بجلاء أجمل وأعمق وأرهف ما فيها .
الكاتب الساخر جيروم جيروم كتب شيئاً رائعاً عن العاطفة في أوج توهجهها، نعتقد أنه لم يكن بعيداً عن وصف ما تفعله الفنون في تهيئة النفس لأن تكون جاهزة لمثل هذا التوهج، حين يحض المرء في تلك اللحظة على أن يكون مستعداً لتزويد النار بالعطف، بالكلمات الدمثة، بضغطات اليد الرقيقة، بالدعابات، وبالصبر واللين، ثم يدع الريح تعصف والمطر يسقط مدراراً، فلقد غدا بيته دافئاً وبهيجاً، يشع فيه ضوء الشمس من الأوجه السعيدة، رغم ما يكتنف السماء في الخارج من غيوم.
حسن مدن *
* كاتب من البحرين
سبيلا: الانتخابات القادمة ستكون قاتلة وحادة وستغير خريطة التحالفات
قال إن تاريخ المغرب هو تاريخ دورات العنف وأن ليس هناك فترات سلم مطلق في مجتمعنا
يرى المفكر المغربي محمد سبيلا في هذا الحوار أن النقاش السياسي نزل إلى أدنى درجات الانحطاط لدرجة وصفه بالسيبة السياسية، التي تؤكد مدى الخواء الفكري والسياسي الذي أصبح يعيشه السياسيون وسط انعدام الضبط والانضباط وتدني المستوى الأخلاقي. كما يرى أن العنف في الجامعة وفي المجتمع والعنف اللفظي والجسدي في البرلمان والأحزاب، يدل على أننا بتنا نعيش ظاهرة العنف الكلي. ولذلك قال: "يجب ألا نكون واهمين ونتباهى بأننا مجتمع مسالم". أما بخصوص التعليم فقال إن الأسئلة الكبرى حول المدرسة المغربية لم تطرح بعد. أما بالنسبة لتوقعاته بخصوص الانتخابات القادمة فقال إنها ستكون قاتلة وستغير خريطة التحالفات في واقع لن يتراجع فيه التشرذم والصراع.
- كيف تقيم الواقع السياسي المغربي الحالي؟
لعله من الصعب تشخيص الوضع السياسي الحالي بسبب تعقده وتشابك معطياته، وبسبب الالتباسات التي تكتنف مكوناته وبرامجه. نحن مبدئيا نعيش ما يسميه البعض بالتحولات الخاصة بالمغرب، التي كانت ربما استباقية، من أجل تدارك الوضع حتى لا ينفجر. وفي هذا الإطار أدى إقرار دستور جديد وانتخابات جديدة إلى التحالف الحالي الذي تقوده الحركة الإسلامية. وطبعا هذا الوضع خلق صراعات جديدة، حيث يبدو كأن هنالك مقاومات من كل جهة، وربما تحكمات من أجل التحكم في منسوب عطاءات هذه التجربة. ولذلك نجد أن الآمال التي حملتها في البداية والشعارات واليوتوبيات التي رفعتها بدأت تتقلص تدريجيا أمام صخرة الواقع ومحك الواقع في مكونيه الأساسيين: صعوبة الواقع في حد ذاته ومشاكله وتعثراته، وأيضا تحكم القوى المختلفة، المالية والسياسية وربما النقابية وغير ذلك. إذن نحن أمام وضعية شائكة ومتشابكة. ولابد هنا من الاعتراف بأن الانتقادات التي تظهر في الساحة السياسية كثيرا ما لا تكون لها مصداقية كبيرة على اعتبار أن الكثير من التشكيلات التي توجه هذه الانتقادات سبق لها أن مارست السلطة. فليس جديدا إذن أن الحزب عندما يكون في موقع السلطة يكون محافظا ومدافعا عن الواقع، وعندما يكون خارج السلطة يميل إلى تبني لغة انتقادية، وربما لغة راديكالية أحيانا. وهذا يجعل المتتبع، وخاصة ذاك الذي لديه ذاكرة، ذاكرة العقود الأخيرة، يأخذ هذه الخطابات التقليدية أو المعارضة بكثير من الحذر.
- وماذا عن مستوى النقاش السياسي؟
إن الملاحظ الموضوعي تلفت نظره، ولاشك، مجموعة من المعطيات التي بات يعرفها الواقع السياسي المغربي، خاصة داخل المؤسسات التي من المفترض أن يرقى فيها النقاش إلى أعلى مستوى. إذ برزت إلى السطح ظاهرة جديدة اختصرها أحد الصحافيين بالشتامة على غرار الحكامة. إن هذه الظاهرة غدت سلوكا يوميا عند البعض، طبعا إلى جانب سلوكات أخرى على رأسها التعري. وهذا الأمر فيه من الغرابة والهجانة والاستهجان بالناس وعموم المواطنين ما فيه، خاصة أن هذا النقاش يدور أمام الجميع وداخل مؤسسة دستورية، من المفروض أن يرتقي فيها النقاش، ويقدم نموذجا للحوار السياسي الراقي والحضاري، الذي يعتمد على الفكر والنقد البناء حتى نسير بمؤسساتنا الدستورية إلى الأمام، ونجعلها تقوم بدورها المنوط بها على أكمل وجه، وليس السير بها نحو الهاوية. إننا نلاحظ أن هناك انحطاطا في النقاش السياسي، بل نعيش زمن السيبة السياسية، التي لابد من الحد منها، من خلال تفعيل القوانين التي تحكم العمل السياسي، وإلا فإن الأمر سيكون عبثا. إن استمر مثل هذا النقاش فلن يساهم إلا في التردي والإسفاف. وللإشارة، فإن ظاهرة الانحطاط السياسي صارت ظاهرة عالمية. وهي تؤكد مدى الخواء الفكري والسياسي الذي أصبح يعيشه السياسيون وسط انعدام الضبط والانضباط وتدني المستوى الأخلاقي.
- ما يثير الانتباه أن النقاش المنحط يديره نواب منتمون إلى الأحزاب، وهذا يقدم صورة عن واقع الأحزاب نفسها.
صحيح، وهذا ما يدعو إلى تحريك المساطر من أجل ردع من لا ينضبط للنقاش الفاعل والمتفاعل. لابد من قوانين ضابطة وأخذ إجراءات صارمة لتأديب من لا يلتزم بهذا النقاش، الذي يتوق الجميع إلى أن يساهم في تحريك الواقع السياسي وتطويره وليس قيادته إلى الانحطاط الذي بتنا نشاهده اليوم حتى أصبح أدق وصف مناسب هو أننا نعيش في زمن السيبة السياسية.
وحقيقة، فإن السياسة هي ظاهرة معقدة تتكشف من خلالها كل المكبوتات الإنسانية بمختلف مكوناتها الثقافية والفكرية والنفسية والاجتماعية وما إلى ذلك من مصالح ذاتية يتم تقنيعها وإلباسها لباس المصلحة العامة.
- ولكن ألا ترى أن الاكتفاء بمنتمين لا يرون في الأحزاب إلا مجرد سلم للوصول إلى السلطة دون فتح الباب أمام الشباب الواعي والمتعلم هو أحد أهم الأسباب التي أوصلت الوضع السياسي إلى هذا الحال؟
نعم. التغير داخل الأحزاب يتم بشكل بطيء ولا يسمح كثيرا بظهور أفكار جديدة وقبولها، وبالتالي بلورتها من أجل تحقيق التطور، لذا تتم فرملة هؤلاء الشباب الذين يكونون أيضا مسكونين بالتغيير والتغيير السريع، مما يجعل الكبار داخل الحزب يرون بأنهم متحمسون فوق اللازم وتنقصهم الخبرة والتجربة، وهذا يدفعهم إلى فرملة تحركهم في انتظار اكتساب التجربة والتأني في التحليل من أجل إعطاء البدائل الممكنة للمشاكل والمساهمة في التحول. ولكن، كما قلت سابقا، لابد من وجود قوانين ضابطة للنقاش السياسي الهادف، سواء داخل الحزب أو داخل المؤسسات، وإلا سنضيع ونضيع على أنفسنا وقتا ثمينا من أجل التطور والارتقاء.
- حين جاء الربيع العربي كبرت الأحلام وصار الناس يرون أن قطار التغيير انطلق، ولكن بعد سنوات صار الكثيرون يرون أننا دخلنا خريفا عربيا. ماذا يمكن أن تقول في هذا الصدد بالنسبة للمغرب والعالم العربي؟
ما ميز الربيع العربي هو عنصر المفاجأة، حيث إنه فاجأ العالم العربي وسار بسرعة، فاعتقدت الشعوب العربية أن قطار التغيير والسير نحو الديمقراطية وضع على سكته وانطلق، خاصة بعد هروب بنعلي من تونس وتنازل مبارك عن الحكم تحت ضغط الشارع. وهكذا علقت هذه الشعوب آمالا وأوهاما على هذا الربيع. لكن وصول الإسلاميين إلى الحكم، وبالخصوص في مصر، وما لوحظ من تراجعات ومواجهات بين الجيش والقوى الحداثية والليبرالية، جعل هذه الأحلام تتبخر سريعا كما ظهرت سريعا وكأنها حلم ليلة صيف. وقد وصلت هذه الخيبة أعلى مستوياتها مع ما باتت تعيشه بعض الشعوب العربية من تدمير وقتل كما هو الحال في سوريا وليبيا. إن الأمل في نزع الديكتاتوريات وتغييرها بنظام ديمقراطي يحترم كرامة الإنسان العربي صار بعيدا، خاصة بعد سقوط نظام الدولة، إذ سقطت الشعوب في الفوضى والصراع الدموي دون القدرة على حسم الأمور وكأنها تبقى في حاجة جينية إلى الدولة القامعة من أجل تحقيق الاستقرار والسلم بين المواطنين.
- وماذا عن المغرب؟
بالنسبة للمغرب كان الأمر مختلفا. فقد كانت هناك خطوات استباقية لتطويق الأمر وعدم الدخول في دائرة الانفجار والتقاتل، حيث إن الأمر بدأ مع التغيير السياسي البيولوجي مع رحيل الحسن الثاني ومجيء الملك محمد السادس. بل إن نظام الحسن الثاني بدأ في رتق الواقع السياسي من خلال محاولته، وهو في آخر مراحله، القيام بتجميل مجموعة من القرارات التي اتخذها في مرحلة من مراحل حكمه وعلى رأسها سنوات الرصاص. ولكن التغيير السياسي البيولوجي لن يكون إلا عند رحيل ملك ومجيء آخر لم يكن له يد فيما حدث، مما جعل الناس يتطلعون إلى وضع أحسن ومفارق لما كان. وقد شكل تغيير الدستور خطوة استباقية جنب المغرب الوقوع فيما وقعت فيه بعض البلدان، التي بقيت مصدومة بسبب ما وقع . لكن الطموحات التي راهن عليها المغاربة بقيت متواضعة.
- وماذا عن العنف الذي بات يعرفه المجتمع المغربي، وانتقل إلى الجامعة التي من المفروض أن تكون فضاء للحوار والنقاش وليس للصراع الدموي؟
هذا العنف الاجتماعي هو دائما مختزل وثاو في الاعماق، ولا يظهر إلا في فترات التوتر السياسي أو في فترات الصراع، ونحن نعرف أن تاريخ المغرب بعد الاستقلال هو تاريخ دورات العنف، حيث كانت تقع ثورات أو تمرد في المدن بمعدل كل أربع أو خمس سنوات. وبعد ذلك انتقلت هذه التمردات إلى مستوى الجيش، وبدأ نوع من إيقاع الحراك ينتقل ويتراوح بين المجتمع والدولة. فليست هناك فترات سلم مطلق في تاريخ مجتمعنا. نحن نميل إيديولوجيا إلى القول بأن المجتمع مسالم، وبأن السلم أساسي والاستقرار السياسي وما إلى ذلك، وكما أشار الأستاذ فريد الزاهي في حواره مع «المساء» فإن «الاستقرار والسلم السياسي هو ميثولوجيا سياسية مقدسة» لها وظيفة على كل حال. يجب أن نعترف بأن العنف مخزن في النفوس وفي الأجساد، ومخزن في التنظيمات في انتظار لحظة الانفجار، ويجب ألا نكون واهمين ونتباهى بأننا مجتمع مسالم، وبأن عندنا إنسان مسالم، فهذه على كل حال مقولات إيديولوجية جميلة ورائعة، لكنها لا تعكس حقيقة الأشياء، وتاريخنا كتاريخ كل المجتمعات هو تاريخ التواتر الدوري للعنف أو التوتر الدوري بين العنف والسلم، أو التناوب السلمي بين العنف والسلم. هناك أيضا لحظات يظهر فيها هذا العنف بشكل حاد.
- وبالنسبة إلى العنف في الجامعة؟
العنف في الجامعة ليس جديدا، فالجامعة المغربية عرفت العنف منذ نشأتها، وأنا أذكر ذلك جيدا، وخاصة في فاس، حيث كنت هناك. فقد كانت معظم الأيام تعرف إضرابات متتالية وصراعات. بل هناك عدد من الطلبة ماتوا هناك، ومن مختلف الأطراف، خاصة أن بعض الجامعات يتوافد عليها أبناء من مناطق ريفية وفقيرة تختزل الكثير من العنف وتختزل الكثير من الانفعال الذي يتم إذكاؤه إيديولوجيا عن طريق الصراعات الإيديولوجية والحزبية وغير ذلك. إذن العنف معطى موجود وكامن فينا وينتظر فقط لحظة الانفجار. وما يجب فعله الآن هو ضبطه، قانونيا ومؤسسيا، ليعرف الجميع وكل من يمارس في الحقل الطلابي أو في الحقل السياسي بأن ممارسة العنف تدخل تحت طائلة العقاب. العنف هو لغة استثنائية في السياسة، فالسياسة هي صراع أفكار أكثر منها صراع أجساد. والسياسة ممارسة للحرب بأساليب سلمية قياسا على تعريف كلاوس فيتس بأن الحرب هي ممارسة السياسة بأدوات عسكرية وحربية. والعكس أن السياسة هي حرب وصراع يمارس بأدوات سلمية وفكرية وصراع أفكار وإيديولوجيات ورؤى، ويجب أن يقف عند هذا الحد. وأعيد التأكيد على أنه يجب أن تكون هناك ضوابط قانونية ومؤسسية لتسييج السياسة في هذا الإطار، حتى لا تتحول إلى معارك أجساد.
طبعا في بعض الحالات ينفلت الأشخاص، وخاصة الشباب المؤدلج، في هذا الحزب أو ذاك، في هذا الاتجاه أو ذاك، حيث يتم تسخينه وتسخين عضلاته فيجد نفسه ينفلت ويندفع الى العنف.
أنا لا أرى أن هذا الأمر جديد، لكن يجب التفكير في ضبط العنف السياسي، وخاصة في الحقل الجامعي، قانونيا ومؤسسيا، بهدف ردعه لأن الأساليب الأخلاقية لا تكفي والوعظ والإرشاد في هذا الباب لا يكفي. إذ إن لم يكن هناك ردع قانوني ونصوص قانونية تردع الذي يمارس العنف في الحقل السياسي سيستشري العنف ويتوسع، وقل نفس الشيء بالنسبة إلى المجتمع.
- ولكن ألا ترى أن بولسة الجامعة سيؤدي إلى خنقها، وإلى قتل دورها في إنتاج الفكر وتكوين الإطارات ولِما لا الزعامات التي ستخرج في يوم من الأيام لممارسة السياسة في المجتمع؟
أذكر أن الأمر ليس بجديد وقد حدث هذا في فترة ما يسمى بدخول «الأواكس» إلى الجامعة. كما وقع في مصر مثلا نتيجة الصراعات في الجامعات والممارسات التي قام بها الإخوان في جامعات الأزهر وغيرها، حيث تم تخريب كل شيء، فاضطر المجتمع إلى القبول ببولسة أو عسكرة الجامعة. طبعا هذا إجراء مؤقت، ومبدئيا ليس دائما، ولكن ما العمل؟ هناك ضرورة ضبط العنف في الجامعة، ولا يمكن ضبط العنف بإجراءات إدارية وبمواعظ أخلاقية أو بشيء من هذا القبيل.
- أغلب هؤلاء الطلبة الذين يمارسون العنف والنقاش السياسي في الجامعة ينتمون إلى أحزاب أو تيارات ما، وهذا يطرح السؤال حول التأطير.
طبعا الحقل السياسي مسؤول، والأحزاب السياسية لها مسؤولية كبرى في ضبط المنخرطين فيها والمؤمنين بها. ولكن ربما تجد الدولة نفسها مضطرة أيضا لذلك لأن هناك، على كل حال، دولة عميقة، وهناك مقتضيات أمن تنعكس على الاستثمارات وعلى السياحة وعلى مختلف النشاطات. كما أن النظرة الأخلاقية للمسألة الأمنية ناقصة. أعتقد أنها ناقصة لأن هذا واقع سياسي له تبعات كارثية على الاقتصاد والسياسة وصورة البلد وغير ذلك. ومع الأسف، فالفاعلون في الحقل السياسي لم يتدربوا بعد على أن الأداة الأساسية هي النقاش والحوار والاختلاف وتدبير الاختلاف، ولكن في حدود العقل وفي حدود الفكر وفي حدود الرأي، وليس باستعمال أدوات العنف. ويجب أن نتذكر بأننا مجتمع لا يزال يعيش على ذكريات السيبة، فنحن مسكونون بها، ونفسية السيبة هي في كل مغربي. وعندما أقول السيبة فإنني أقول الجوع لأن السيبة كانت مرتبطة بالجوع وبنهب الآخر. إذ لا يمكن أن تكسب شيئا الا بمهاجمة الآخر. فكانت القبائل التي تعاني من الجوع تهاجم القبائل الأخرى. والمسألة لم تهدأ إلا مع دخول الاستعمار في فترة ما اصطلح عليها بفترة التهدئة. ولذلك عندما قلت إن العنف ليس شيئا جديدا وطارئا فيجب أن ندخل أيضا هذا العنصر. إن تاريخنا هو تاريخ العنف، وتاريخ السيبة التي هي عنف، هي عنف بين القبائل، وبعض السوسيولوجيين والمؤرخين يذهبون إلى القول بأن المغرب لم يشهد دولة مركزية من شماله إلى جنوبه، فدائما هنالك أجنحة وقبائل لا تعلن الولاء لأنه كان هناك دائما استقلال لهذه القبائل، وكان المخزن في لحظة القوة يفرض على هذه القبائل الإتاوات والعلاوات، وأحيانا يمارس عليها نوعا من النهب بحكم قوته. ولكن بمجرد أن تتقوى هذه القبائل حتى تثور على المخزن. إذن هذه مناسبة لأقول إن العنف في الجامعة، والعنف في المجتمع، أي ما يسمى ب»التشرميل»، وعنف الأحزاب، والعنف اللفظي والجسدي في البرلمان، يدل على أننا نعيش ظاهرة العنف الكلي. هناك ظاهرة للعنف في المجتمع المغربي، سواء على المستوى اللفظي أو العراك الجسمي، أو على مستوى التعرية داخل البرلمان. إذن لنكن جريئين ونقول إننا نعيش فترة استفحال واستشراء العنف الاجتماعي والعنف السياسي.
- ألا يمكن القول بأن المغاربة مرضى نفسيون، يصرفون ما يعيشونه من ضغوطات بشكل من الأشكال في هذا العنف بما في ذلك المسؤولون والأحزاب؟
البعد السيكولوجي حاضر، ولكن ليس هو الذي يفسر الظاهرة. فعندما تتحول هذه الظاهرة إلى ظاهرة اجتماعية كلية معناه أنها تطال كل الأفراد أو جلهم. طبعا فرويد كان يقول إن المجتمع هو مارستان كبير، ومستشفى نفسي كبير، ولكن ليس معنى ذلك أن الجميع مرضى. وحتى إذا أخذنا بهذا المفهوم، فهناك أمراض متنوعة: البارانويا، الشعور بالعظمة، الشعور بانقسام الشخصية، الشعور بالاضطهاد المستمر، وغير ذلك من الأمراض. ولكن هذه المشاعر السيكولوجية إنما يتم إذكاؤها عبر المشاكل الاجتماعية أو تستفحل عبرها، أو أن الأرضية النفسية هي أرضية هشة تجعل المشكل الاجتماعي يستفحل عندما ينعكس على الذات. نحن نعيش مخاضات وصراعات وتحولات، والجميع يتنافس من أجل التملك، ليس فقط التملك الصغير، بل كل درجات التملك، وبأي الطرق، سواء كانت مشروعة أو غير ذلك، فمن يملك شيئا يريد ضعفه، وهكذا لأن الدينامية الاجتماعية المتمثلة في الانخراط العنيف لمجتمعنا في النظام الرأسمالي وفي الآلية الرأسمالية الدولية هو الشرط الذي لا نراه ولا نشاهده ولا نتذكره. هناك حضور للشرط الاجتماعي العام أو الشرط التاريخي وشرط التنافس والتنافس الحاد من أجل التملك، تملك الممتلكات والأشياء، وربما تملك السلط والرموز. فهذا هو الآخر مستوى من مستويات التملك. لذلك فالصراع حاد في بلدنا لأن الدينامية الاجتماعية قاتلة ولا ترحم، والجميع يريد أن يتسلق السلم، وربما محدودية الخيرات والمكتسبات وتكاثر الطلبات والحاجات هو الذي يضيف حدة أكبر على هذا الصراع.
- لننتقل إلى مسألة إصلاح التعليم. فبعد القول، كما هو معروف، بفشل المدرسة العمومية، طفت على السطح دعوات تزعم بأنها تهدف إلى إصلاحه، ولعل أبرزها الدعوة إلى اعتماد الدارجة، ثم الحوسبة التي لم يطرحها متخصصون وإنما طرحها شخص معروف باشتغاله بالاقتصاد والتجارة. كيف ترى مسألة الإصلاح وأفقه؟
هناك وجهان لمسألة التعليم. هناك الوجه الإيجابي الناجح الذي يمثله أنا وأنت، فنحن نتاج هذا التعليم العمومي، نحن خريجو هذا التعليم. وهذا يعني أن التعليم المغربي والجامعي ليس كله سيئا. ربما درجات السوء بدأت تتكاثر نتيجة تكاثر المتمدرسين ونتيجة عوامل متعددة، لكن يجب أن نشير إلى أن الجامعة المغربية والتعليم المغربي أعطيا نخبا، أتحدث هنا عن النخب القريبة مني، النخب الثقافية والنخب الفكرية، في مجال الإنسانيات، وفي مجال الترجمة والسوسيولوجيا، وفي مجال الفلسفة... وهي كلها تجعل المغرب رائدا على المستوى العربي. والنتاجات الفكرية المغربية يتم التهافت عليها في المعارض العربية. ويعتبر المغرب نموذجا للإنتاج الثقافي والفكري الراقي في مجال العلوم الإنسانية. وقد أعطى نخبا رائعة يمثلها الجيل الرائد، جيل العروي والجابري والأجيال اللاحقة. إذن هذا وجه إيجابي وناجح للتعليم المغربي.
صحيح أنه في السنوات الأخيرة بدأ يظهر نوع من الارتخاء في المدرسة وفي الجامعة نتيجة عوامل متعددة، وهذه مسؤولية الجميع، من سلطات عمومية وأحزاب ونخب، من أجل معالجة هذه الوضعية.
لكن يجب الإشارة طبعا إلى أن التعليم لا تستطيع التحكم في المتدخلين فيه بما أنه مجال عمومي. فعندما يتدخل شخص يأتي من القطاع التجاري ويقترح حلولا، فهذا يجعلنا نطرح الخلفيات الكامنة وراء ذلك: هل هناك دوافع تجارية؟ أم هناك دوافع أخرى؟ فبعض النخب التي تشتغل معه تؤمن بالدارجة ودورها فأقنعوه بذلك. وهو رجل على كل حال محدود التكوين في هذا المجال، وقد لقنه الأستاذ العروي درسا يجب ألا ينساه، حيث عليه أن يتذكر بأنه إذا كان بارعا في التجارة، فهناك نخب أخرى لا علاقة لها بالتجارة، وهمها هو الفكر والتفكير في المغرب ومستقبله، وهي قامات في المستوى العالمي.
مع الأسف، الحقل العمومي يشبه ميدان كرة يدخله من هب ودب لاعتبارات خاصة. طبعا الرهان الذي دافعت عنه النخبة المغربية المستنيرة هو رهان العربية وليس رهان الدارجة لأن الدارجة ستعيدنا إلى الوراء، بينما اللغة العربية لغة عالمية قطعت أشواطا كبيرة في الرقي، ومؤهلة لتكون أداة للتطور بحكم أنها لغة مقننة ولغة مكتوبة ولغة يحكمها نحو وقانون ولها تراث ضخم.
وبالإضافة إلى مسألة الدارجة، التي طغت على النقاش السياسي، يجب ألا ينسينا هذا تلك الأشياء الأخرى. فما هي الوظيفة الأساسية للمدرسة المغربية أو للمؤسسة التعليمية المغربية؟ هل هي وسيلة تكوين المواطن؟ هل هي وسيلة لإدماجه؟ أم هل وسيلة لترقية المواطن وتزويده بالمعارف وبالمؤهلات التي تجعله فاعلا اجتماعيا ناجحا، أي تؤهله للنجاح الشخصي وتؤهله للمجتمع وللتطور؟ أعتقد أن هذا هو النقاش الذي غاب في هذه الفترة، والذي هو الأساس، وهو: ما هي الوظيفة الأساسية للمدرسة المغربية؟ هل هي تعليمية تكوينية؟ وظيفة إيديولوجية أم ماذا؟ يجب ألا نغفل عن هذا النقاش.
مع الأسف، الحقل التعليمي كان محط صراع سياسي بين النخب وبين الأحزاب والمكونات السياسية، إما بشكل صريح أو بشكل مضمر وقوي، وهناك من تعرف ارتباطاته، بمعنى أنه لم يكن نقاشا بريئا. وهذا هو سر التعثر والتلكؤ في إصلاح التعليم لأن هناك قوى اجتماعية متحكما فيها، وترددها ناتج عن ارتباطها بتوجيهات وتوجهات أخرى. ومبدئيا، فإن النقاش العمومي كلما كان صريحا كلما ساهم في بلورة اختيار مجمع عليه من طرف القوى الاجتماعية ومن طرف الأحزاب ومن طرف الدولة. فهذه مسألة تتعلق بمصير البلد وبمكانته وقيمته.
- ألا ترى أن الحكم على فشل التعليم العمومي هو نقطة من النقط للإجهاز على التعليم، لفتح الباب أمام أصحاب الأموال للاستثمار في هذا المجال من خلال المدرسة الخصوصية، وفي هذا الإطار أتذكر ما قاله الراحل الحسن الثاني حول ضرورة أن يؤدي المغربي ثمن تعليمه؟
الخطابات الفئوية والحزبية أو المناطقية أو شيئا من هذا القبيل، وخطابات الجهات المختلفة فيها جزء من البراءة والحس الوطني، لكن يمكن أن يكون فيها نوع من الدس ونوع من التعبير عن المصالح. نحن مثلا كشفنا أن وراء الدعوة إلى الدارجة مصالح خاصة، مصالح القطاع الخصوصي في مجال التعليم. أعتقد أن التشخيص الذي يميل إلى القول بأن المدرسة العمومية المغربية فشلت ليس تشخيصا بريئا. إنه خطاب جنائزي يقصد به، كما قلت، الإجهاز على المدرسة المغربية. لذلك أقول إن النقاش العمومي استطاع أن يبرز الخلفيات المختلفة الثاوية وراء كل المواقف. كما استطاع أن يبرز السلبيات والإيجابيات. وأعتقد بأنه الآن مثلما كان الميثاق في إحدى المراحل هو بلورة رؤية عمومية أو جماعية أو مشتركة، فاليوم مع المجلس الأعلى للتعليم هناك تهييء على ما يبدو لي لإعادة النقاش العمومي إلى السكة الأساسية لإنقاذ المدرسة المغربية والمؤسسات التعليمية المغربية من مسارها الذي لا نختلف في أنه يعاني من كثير من السلبيات.
سبيلا: هناك نخب جديدة ستساهم في تشخيص الوضع واقتراح الحلول
- كيف تنظر إلى مستقبل المغرب، انطلاقا من قراءتك للواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي حاليا؟
إذا انطلق المرء من المعطيات الملموسة القائمة اليوم سيكون متشائما، لأن السلبيات كثيرة والصراعات حادة، والمصداقية تتناقص، خاصة أن الجميع مر في المسؤولية وتم اختباره، ولذلك فخطاب الطهرانية والإنقاذ محط تساؤل، ويجب أن يوضع بين قوسين. المنقذ والمخلص لم يعد واردا. ولكن مع ذلك أقول كانت تمر فترات حالكة وفترات ظلامية والأبواب تنسد، لكن يأتي الأمل من جديد. أنا أراهن مع ذلك على حيوية النخب وعلى حيوية التاريخ. فالمجتمعات لا تطرح إلا المشاكل التي هي قادرة على حلها. وأفترض أنه إذا استطاعت النخب الثقافية والفكرية اليوم أن تشخص أدواءنا وأمراضنا، فإنها ستلهمنا الحلول الملائمة. لكني لا أريد أن أسد الباب أمام المستقبل، فلا شك أن نخبا جديدا يمكن أن تساهم في تشخيص الوضع وفي اقتراح حلول. لذلك لست متشائما في هذا الباب لأني أفترض عنصر الحيوية التاريخية في كل الشعوب، بما فيها شعبنا، وفي نخبنا.
- كيف تتوقع الانتخابات المقبلة؟
أتوقع أن تكون انتخابات قاتلة وحادة، وستغير خريطة التحالفات. يبدو لي أن واقع اليوم هو واقع التشرذم والصراع والحدة في النقاش، والحدة في المواقف، ويبدو لي أنها لن تتراجع على المدى القريب. ولذلك أفترض أن الأمور لن تكون بالصورة الوردية التي نأمل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.