نفاق دبلوماسية النظام الجزائري في تحركاته تجاه دمشق.. للتاريخ ذاكرة لا تنسى أبدا !    البطولة الاحترافية "إنوي" للقسم الأول (الدورة 20).. المغرب التطواني يتعادل مع ضيفه اتحاد تواركة (1-1)    البطولة الوطنية.. أولمبيك آسفي يتعادل مع ضيفه الدفاع الحسني الجديدي (0-0)    التعادل يحسم ديربي مدريد في قمة نارية بين الريال وأتلتيكو    إطلاق نار في مواجهة الأمن.. تفكيك شبكة إجرامية وحجز أسلحة ومخدرات    مؤسسة مغربية تفوز بجائزة حمدان – الإيسيسكو للتطوع في تطوير المنشآت التربوية في العالم الإسلامي    موظفو وزارة العدل يتهمون مسؤولين إداريين بممارسة التهديد والتخويف ضد المضربين    المغرب يقرر الاستعانة بممرضات مصريات للعمل في مستشفيات المملكة    ندوة حزب الاستقلال بفاس: قراءة سياسية واستشراف لمستقبل مدونة الأسرة    نقابة تستنكر "تزييف أرقام الإضراب"    عبد الكريم.. قصة شاب توفي بالسرطان بسبب الإهمال في مستشفى مليلية تشعل غضب مسلمي الثغر المحتل    طنجة..كتاب جديد يعيد ملف الاختفاء القسري إلى الواجهة بالمغرب بعد عقدين من تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة    مولاي رشيد يترأس حفل تسليم جوائز الحسن الثاني وكأس للا مريم للغولف    الزمالك يتعاقد رسميا مع المغربي صلاح الدين مصدق    رجاء بني ملال يستعيد صدارة القسم الثاني بانتصار ثمين على أولمبيك الدشيرة    لبنان.. تشكيل "حكومة الإصلاح والإنقاذ" بدون منتمين لأحزاب سياسية    الوكالة الوطنية للمياه والغابات توضح: حجز ببغاوات بشفشاون تم وفق القانون وبإشراف النيابة العامة    طنجة تستعد لمونديال 2030: تنظيم جديد لمواقف السيارات مع إلغاء "الصابو" واعتماد تعريفة رمزية    انعقادالجلسة الأولى من دورة فبراير لمجلس جماعة العرائش    الحاج الصالحي يضطلع بخطة عمل دعم حُسن تموقع حزب الاستقلال في الانتخابات المقبلة    أطباق شهية في السينما والمسرح والأدب والموسيقى والإقامة الفنية ومحترفات الرقص والسيرك    مجموعة أكديطال توضح: لا اتفاقيات لاستقدام ممرضين أجانب وأولوية التوظيف للكفاءات المغربية    أسبوع إيجابي في بورصة البيضاء    العثور على جثة شابة مقيدة في مجرى مائي في ليلستاد الهولندية    أكادير: تدشين وحدات الدراجات الهوائية لتعزيز الأمن السياحي وتأمين الشريط الساحلي    أفراح ترافق تحرر معتقلين فلسطينيين    مظاهرات بألمانيا ضد أحزاب اليمين    قناة "إم بي سي 5" تميط اللثام عن خريطة برامج متنوعة خلال رمضان    مزاد علني ينجح في بيع كمان نادر ب11,3 ملايين دولار    العشابي يستبدل "فاصل ونواصل"    السفير الصيني في زيارة إلى تارودانت وأكادير.. لتعزيز التعاون الثقافي والاقتصادي بين الصين والمغرب    المغرب والعراق يؤكدان رفض مخطط تهجير الفلسطينيين وتجديد دعم وحدة المملكة    "فحوص بوحمرون" تسجل إصابات مؤكدة في 11 مؤسسة تعليمية بطنجة    القوات المسلحة الملكية تشارك في معرض أليوتيس 2025 تعزيزًا للابتكار والاستدامة في قطاع الصيد    مدينة طنجة تسجل أعلى مقاييس التساقطات المطرية    العراق تشيد بجهود الملك محمد السادس في دعم القضية الفلسطينية    دي بروين ينقذ مانشستر سيتي من "مفاجأة كبيرة"    فرنسا ترحل المهاجرين المغاربة غير الشرعيين    مبادرة تشريعية تروم اعتماد أسماء الأدوية العلمية بدل التجارية لإنهاء أزمة انقطاعها    هيئة النزاهة تدعو إلى ملاءمة قانون المسطرة الجنائية مع المتطلبات الإجرائية لمكافحة جرائم الفساد    خبراء يحذرون من مخاطر سوء استخدام الأدوية والمكملات الغذائية    باريس سان جيرمان يمدد عقده مدربه إنريكي إلى غاية 2027    الإنفلونزا الشتوية تودي بحياة 13 ألف شخص وتغلق المدارس بأمريكا    أزيد من 55 ألف منصب شغل مرتقب في جهة سوس باستثمار يبلغ 44 مليار درهم    انتشال ثاني جثة بسبتة خلال فبراير الجاري والسابعة منذ مطلع سنة 2025    فاس: لحسن السعدي يزور عددا من المشاريع المنجزة في مجال الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي والتضامني    الصين: انطلاق دورة الألعاب الآسيوية الشتوية بهاربين    أحلام ترامب بنقل سكان غزة إلى المغرب    موريتانيا تمنح للسائقين المغاربة تأشيرة دخول متعددة صالحة لثلاثة أشهر    قمة عربية أو عربية إسلامية عاجلة!    انتفاضة الثقافة    والأرض صليب الفلسطيني وهو مسيحها..    كاني ويست يعلن إصابته بمرض التوحد    وزارة الصحة تؤكد تعليق العمل بإلزامية لقاح الحمى الشوكية بالنسبة للمعتمرين    جامعة شيكاغو تحتضن شيخ الزاوية الكركرية    المجلس العلمي المحلي للجديدة ينظم حفل تكريم لرئيسه السابق العلامة عبدالله شاكر    أي دين يختار الذكاء الاصطناعي؟    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد "أسدرم " تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المجازي والمزاجي في لعبة كرة القدم
نشر في هسبريس يوم 25 - 11 - 2009

تأملات حول خسارة الفريق المصري أمام الفريق الجزائري ""
حتى السلطة نفسها لم تعد تنتج ومنذ فترة طويلة سوى علامات تشبهها-جان بودريار
حول تلك القطعة الصغيرة المنتفخة بالهواء وليس غير الهواء تدور كبرى المبادلات للعنف المادي والرمزي. عنف يستند إلى كثير من المجاز البعيد والمزاج السيء. لا ندري حتى اليوم لم تستأثر هذه اللعبة الطفولية الشكل والاهتمام بكل هذا الهياج الجمعي.
لقد مارست هذه اللعبة في فترة الطفولة وربما لي معها حكايات تتراوح بين المسلّي والدرامي. فأول إحساس كان ينتابني هو نوع من الاستخفاف بالمشهد لمجرد أن آخذ مسافة من الحشد الجماهيري المتدفق ببلادة إلى المدرجات لا يهتم بشيء اهتمامه بهذه اللعبة البليدة. وحتى الآن لا أفهم كل ذلك الذي يحدث في المشاعر العميقة حينما تنتقل العدوى في تموجات جمهور يحب أن يلعب خارج الملعب بشيء من الكلام المنتفخ بالهواء وليس إلا الهواء. لعبة لا تقل هرولة وعنفا كما يحدث داخل الملعب. لذا لم تكن اللعبة غير جماهيرية ولا هي لعبة كل الأعمار، أو بتعبير معمر القدافي : إنها ليست رياضة. بمعنى آخر هي لعبة أنانية لمجموعة تلعب وملايين البشر يحرقون أعصابهم. ماذا يقول الجمهور من كلام يخاطب العقل؟ هناك في المدرج لاعبون نظريون يحكمون ويمارسون كل شيء إلا الفرجة من التنظير لهذه الممارسة بصورة تعكس غرابة هذا الطقس الذي لا ينتمي إلى جنس رياضي بعينه. لكل منا أن يتساءل: ماذا لو كانت هذه اللعبة تمارس من دون جمهور وفي الملاعب المغلقة؟! إذن هي لعبة الجمهور. لذلك ومن دون جمهور لا تنفع تقنية اللاعبين. يبدو من تاريخ دراما كرة القدم أننا بصدد لعبة تمنح جمهورها فرصة للهياج : من يملك مشاهدة مبارة برباطة جأش؟!
هناك خداع عنفي ممارس ومقبول. وحينما تتداعى مشكلات كرة القدم أكثر من تداعيات الحرب والأزمات الاقتصادية ، فلا مجال للحديث إذن عن أزمة في الروح الرياضية ، بل المطلوب أن نتحدث عن عوارض وتدفق غير مسيطر عليه من رعونة كرة القدم. سأعود وأقول لماذا فشلت في أن أمارس لعبة كرة القدم بعد أن جعلتها من ذكريات الطفولة. لقد تنبهت مبكرا إلى عنفها المقنع وطفوليتها. ولكنه العنف غير المستوفى دائما. هناك شيء مما يتبقى من العنف في صورة احتقان لا يجد مخرجه كاملا في هذه اللعبة. وهذا هو جوهر وسياسة هذه اللعبة ، الذي يجعل مجرد الانتصار في مبارة لا يمنع من مواصلة العنف المادي بين الجماهير. لقد وجدت نفسي داخل الملعب أتعرض لاعتداءات جبانة من قبل لاعبين لا يملكون أن ينازلونك خارج هذه اللعبة. فضلت بعدها فنون القتال، لأنها بقدر مباشرتها ومظهرها العنفي هي أقل تهييجا من كرة القدم وأكثر قدرة على التفريغ الكامل لشحنات العنف لا تبقي في النفس منها شيئا . لأن سياستها تهدف إلى نزع العنف وليس إذكاءه. والمهم من ذلك كله هو أنها أقل شعبوية من الكرة.
لا شيء أمكنه قهر الرأسمالية كما فعلت أيديولوجيا كرة القدم. فلا نهاية لتاريخها. فجمهورها يبحث دائما عن غلب لا يتحقق كما يريد ، وعن تفريغ للعنف لا يتم بشكل كامل. فالولايات المتحدة الأمريكية وهي تملك أكبر صناعة إعلامية فشلت في أن تجعل من البيزبول بديلا عن كرة القدم. ولكنها على الأقل استطاعت أن تحرر جمهورها من أن لا يشارك العالم عنفه الكروي. ربما يعود ذلك إلى نجاحها في التعويض بكرة القدم الأمريكية التي تملك من الممارسة العنفية ما يفوق كرة العالم التقليدية. لا يعوض العنف إلا العنف في مسار جنون رياضي خرج عن حده الرياضي. لا أحد في واقع الأمر يلعب كرة القدم ولا أحد يشاهد مبارياتها. هناك فقط خدعة بليدة لأنها تتكرر باستمرار لممارسة التحشيد والتهييج والتهريج في مناسبة لتشابك العنفين المادي والرمزي. هناك لعبة أثبتت تفوقها لأسباب نجهل الكثير من حيثياتها على كل أشكال اللعب في منسوب الانفعال. لا يكاد يضاهيها في هذا التهييج إلا طقس مصارعة الأسود في اليونان القديمة ومصارعة الثيران في المجتمع الإسباني. ولكنها تتفوق عليهما في جوانب ليس آخرها قوة تداخل العنفيين المادي والرمزي ولعبة المجاز وسوء المزاج بصورة تفوق الخيال. ولعله من المفارق القول أن كرة القدم يجب أن تلعب بروح رياضية هذه العبارة الغامضة والتعامل معها بعقلانية. ليس في الأمر سوى خداع يخفي أكثر أشكال العنف بدائية ، يعاوض بالعنف الرمزي ويشرعن العنف المادي بقواعد جزافية ؛ أي بضرب من المواضعة لإدارة عنف مؤطر بقواعد لعبة ، ربما ما زالت لم تقنع العقلاء بأنها لعبة كما لم تقنع أصحابها بمعقولية قواعدها. وهذا هو الفارق الخادع بين العنف المشروع والعنف الممارسة وفق قواعد اللعبة، التي هي في نهاية المطاف لا تعدو أن تكون مجرد لعبة قواعد جزافية. ما يوجد في اللاوعي الكروي ليس هو مجرد ممارسة عنف مقوعد ورمزي بشيء من المزاج المصاغ بمزاج سيئ ، هناك شيء لا تستطيعه قواعد اللعبة لأنه يفضحها و يجعلها مستحيلة : أن تكون كل الضربات مشروعة. ولهذا السبب تحديدا كان لا بد من قواعد جزافية ومن إبقاء الكثير من العنف والكراهية العميقة محتبسا في النفوس.إنها لعبة لا يمكن أن تلعب إلا بمنتهى الانفعال. أي بتعبير أوضح: إنها ليست لعبة للاسترخاء بل هي لعبة التهييج بامتياز. إنها ليست لعبة عقلانية. فما معنى إذن أن يكون اللاعقلاني عقلانيا.. والهياج روحا رياضية.. والانفعال الأناني تسامحا.. وكيف تصبح الهزيمة بعد كل هذا نتيجة مقبولة بضمير بارد؟!
هذا الهذيان الكروي الغاط في مفارقاته، هو ما يمنح لهذه اللعبة شعبويتها البليدة ويجعلها أفضل تعبير عن غرائز الحشد الاجتماعي والوعي الشقي..في هذه اللعبة لا يمكننا تصور أنفسنا خارج أجواء الحرب ومفرداتها. هنا تحضر لغة الحرب وسيكولوجيتها. فالمقابلة تقوم بين فريقين مؤلفان من هجوم ودفاع ووسط وحارس (مرمى)..وجمهور يحرض على المواجهة ونشيد وطني يلهب الحماسة الوطنية. هو عدو يجب هزمه وتسديد ضربات قوية باتجاه مرماه والانتصار عليه. هناك فريق يطير فرحا عند نهاية المبارة وآخر يبكي حظه العاثر. ومع ذلك لم تعد لعبة كرة القدم محلا لكبرى الاستعارات الحربية فحسب ، بل إن عالم الحرب نفسه بدا يستلهم لغته من داخل هذه اللعبة. أحيانا لا نجد أروع من القول في لحظات العدو الأكثر حرجا: الكرة اليوم في مرمى العدو.
هوس كروي واختلال سياسات
يمكن لكرة القدم أن تتعدى حدودها. أي يمكن أن تتسبب في قطيعة ديبلوماسية بين الدول. فاللعبة تستمر ما بقي الاحتقان. وهذا ما تتجه إليه تداعيات المبارة التي جمعت بين الفريقين المصري والجزائري في الخرطوم برسم التأهيل لنهائيات مونديال في جنوب أفريقيا. فما حدث بين الفريقين لم يكن من أعاجيب هذه اللعبة التي تحمل القابلية لكل أشكال المهازل. هناك وراء هذه اللعبة لعبة أخرى سياسية.وهو الأمر الذي يتعدى كونها مجرد تفريغ شعبوي لأزمات اجتماعية أو تعويض عن إخفاق سياسي لكيانين تؤكد المؤشرات على أنهما يعانيان من وضعية هشة؛ بل الأمر يتعلق بعملية فاشلة لكسر روتينية الحصر السياسي وخلق تمثلات للإلهاء. الخوف هو ماذا بالإمكان تمريره من مشاريع وسط هذا الصخب الشعبوي الذي لم يعد يسمع ولا يتكلم ولا يرى؟ وككل لعبة لا بد هنا من رابح وخاسر. غير أن المؤسف أن حظ مصر كان هو الخسارة بكل ما تحمله الكلمة من معنى: خسارة " ماتش" وخسارة لعبة سياسوية غبية. فالعنف دو طبيعة ارتدادية. لا نتحدث عن العنف حينما يصبح رد فعل ويتحول إلى واقع بمقاييس وعدالة ، هنا الحديث عمن هو المسئول عن قدح شرارة العنف في لعبة تملك القابلية للجنون. كانت هناك ثقوب في اللاوعي الجمعي لكلا البلدين فضحته الممارسة الشعبوية المنفلتة. تسرب منها شكل هجين من التعبيرات العدوانية البدائية الطفولية امتد إلى الرأسمال الرمزي للبلدين . ربما اهتممت بردود الأفعال من داخل الإعلام المصري أكثر. وجدت الكثير من المبالغة التي ساهمت فيها نخب من المجتمع الفني الذين نسوا أن لهم معجبين من داخل المجتمع الجزائري أيضا. كان المصرييون يتحدثون عن أنفسهم باعتبارهم الشقيق الأكبر والمعلم الأول لجماهير عربية يحسبها المرء إن كان يجهل التاريخ أنها لم تكن تعرف ما الكتاب ولا الإيمان لو لا الفراعنة. ومن هنا ولكبرياء مصر سوف أتحدث عن مصر لأننا لا نريدها أن تصغر في خطابها وتسمح ل " زعران" كرة القدم أن يوردوها موارد الإسفاف والهلكة. وعندي حكاية مع عبارة " الشقيق الأكبر". ذات يوم وعلى هامش لقاء جمعني مع المفكر المصري حسن حنفي في برنامج تلفزيوني ، سألته: إيه.. دكتور حنفي كيف هي أحوال الشقيقة مصر؟
قال : مصر حزينة.
وبعد أن فصل لي مظاهر هذه الأزمة، قلت له كلنا في الهم شرق.. هذه مشكلة كل الأشقاء العرب..
قال لي : ولكن مصر هي الشقيق الأكبر
هي إذن حكاية الشقيق الأكبر. هذا جواب الوجدان المصري. وهي كلمة في محلها تاريخا وجغرافيا. لكن هناك من يستعملها في غير محلها. وهنا تكمن المشكلة. أي حينما تستعمل لإنهاء أو قمع أي كلام من الشقيق الأصغر إلى الشقيق الأكبر .. ولتبرير كل هزيمة: مصر الشقيق الأكبر. وفي كرة القدم نسمح الحكاية نفسها. هل للأشقاء المصريين أن يتعودوا على غير هذه العبارة؟
في المبارة التي جمعت بين الشقيقين ، رأيت أن مصر جرحت حقا. وهذا مؤلم. كيف ننصر مصر وننتصر لكبرياءها إذن ؟! لو سلمنا بكل الشكاوى المصرية وفرضنا حصارا سياسيا واقتصاديا على شقيقها الجزائري، لما كنا قد نصرنا مصر حقا! إذا كان ولا بد من نصرة الأخ ظالما أو مظلوما، فذلك بإيقاظه من سباته. لكنني أيضا لاحظت مبالغة لا تستحق كل هذا الهياج. بل أكثر من هذا هناك إسراف في كل هذه اللغة، لا سيما من النخب التي شاركت في إذكاء هذا الغضب. إننا لا نحاسب " زعران" كرة القدم في كل مكان حينما يبلغ بهم الجنون إلى حد الإساءة للرموز الوطنية. ولكننا نحاسب المثقفين والفنانين والسياسيين... أي النخب التي ليس لها مبرر في أن تنخرط في هذا الهياج بينما دورها الأساسي يكمن في التربية والتوجيه والتخفيف من الاحتقان بالثقافة والسياسة والفكر. الإخوة المصريون تحدثوا عن النشيد الوطني الجزائري كونهم أصحاب فضل في تلحينه. هكذا ينط الهذيان الكروي من الكرة إلى "الغنا" كأن الجزائريين يخوضون حربا ضد أم كلثوم أو عبد الوهاب؟! وهذا كان فخرا للجزائريين لأنهم شاركوا مصر جمال عبد الناصر في تلحين نشيدهم الوطني إذ لا يعدمون فنانيين يمكنهم أن يلحنوا لهم أناشيدهم الوطنية. لأن المشكلة هنا: من سيسلم للإخوان المصريين هذه المرة شرف التدخل في تشكيل رموزهم الوطنية بعد هذا المن الكبير وغير النافع؟ ثم قالوا هؤلاء همجيون ومتوحشون ومتعصبون وليست عندهم لغة مثل المصريين وإنهم بربر. وهذا يجعل الأمر محيرا ، مادام أن كلاما كهذا يزعج كل الأمازيغ وهم موجودون في مصر نفسها. هذا كلام ليس مثقفا لأن تاريخ كلمة بربر هو من إطلاقات اليونان على كل من ليس يونانيا، وأطلقوها على شمال أفريقيا من الأسكندرية حتى المغرب الأقصى. ما يجهله أصحاب هذه التعبيرات ، أن المجال الأمازيغي في المغرب العربي مجال يخلوا من العنف بالقدر الذي يزدهر في المجال الذي يقطنه العرب. ولا عليك. أنا عربي حتى النخاع وأدرك ذلك. الأمازيغ مسالمون جدا ومتحاورون جدا. وأما عرب شمال أفريقيا فهم من أصول مشتركة. كان على الإخوان المصريين أن يدركوا أن العرب من الصعيد المصري إلى وهران الجزائرية إلى دكالة المغربية هم في الأعم الأغلب من أبناء التغريبة الهلالية. وأن "زعران" كرة القدم من مصر أو من الجزائر أو من كل بلاد أخرى هم جنس ثالث لا يصنف في الأعراق ، ولكنهم من حيث الأصول هم من عرب الهلالية كما لا يخفى. وهكذا لسنا في حاجة أن نجادل في كل ما ينطق به الغضب والتعصب هنا أو هناك. فمصر جمال عبد الناصر لا يمكنها أن تخفي جزائر ابن باديس ومالك ابن نبي. كان على الإخوة المصريين أن يضعوا كبرياء مصر في محله. لا في تعويضات خادعة تساهم في الإلهاء والتخدير واستبدال الكرامة المغشوشة بالكرامة الحقيقية. لو ربحت مصر معركة السياسة والوجود مع إسرائيل لما همها أن تلقي بكل كبريائها في نزاع كروي صغير. ولكن ما هو إيجابي في هذه الحكاية أن الجمهور المصري كان جمهورا حماسيا وحيّا. وأن يمارس التعويض والتفريغ من جهته هذا أمر إيجابي للشعب المصري لا لسياساته. بقدر ما تبدو روحية الجمهور المصري كبيرة تبدو سياساته هزيلة. هنا تحديدا نفهم كيف خسرنا الحرب مع إسرائيل فيما ظل الشعب المصري يحمل روحا أرغمته السياسات للتعبير عنها في ملهية كرة القدم.
أعتقد أن هزيمة الفريق المصري كانت مهمة للغاية. وهي نعمة وجب أن يشكروا الرب عليها. هذه الهزيمة درس للمصريين في أن يتأملوا وضعهم الملهاتي داخل مهزلة استبدالية للعبة أتقنوها كتعويض لا كاستراحة مقاتل. لقد بدا أن إحساس المصري بالإخفاق السياسي والتنموي هو نفسه إحساسه الذي تفجر على إثر خسارة " ماتش" كروي. وبدا أن الكرامة التي يبحث عنها المصري هي كرامة مجروحة على خلفية النكسة والهزيمة أكثر مما هي الكرامة المتحدث عنها بمظاهر البارانويا الكروية. متى كان هدر الكرامة في خسران مبارة أو حتى ضمن معركة أبطالها "زعران" كرة القدم وليس على الأقل عقلاء الجمهور؟!
من هنا كان من الواجب على المصريين أن يشكروا الفريق الجزائري وحتى الجمهور الجزائري الذي مارس العنف في لعبة يجب أن نتوقع فيها العنف والعنف المضاد، لأنه وضعهم في وضعية المراجعة والصحوة من سبات التعويض الخادع. فمعركة مصر هي أكبر من ذلك؛ هي معركة السياسة والاستراتيجيا والتنمية. هي لعبة بين مصر وإسرائيل. وليس بين الشعوب العربية. ووجب على السياسة المصرية أن تذكي خيال الجمهور المصري في هذا الاتجاه لربح معركة، وحدها المعركة التي سنصدق فيها الأشقاء المصريين حينما يقولون: مصر هي الشقيق الأكبر. هذه الهزيمة تضع مصر أمام تحدي الحقيقة. مصر الممكنة لا مصر الغارقة في خيمياء تمجيد الذات ولو بالباطل وتحويل الهزيمة الحقيقية إلى انتصارات وتغليف الإفلاس السياسي بسيلفون تاريخ مصر المجيد. الوجه الذي لا يريد الأشقاء معرفته، هو كيف تنظر شعوب المغرب العربي إلى مصر والمصريين؟
لا يوجد في هذا المجال من يحمل كراهية لمصر التي شكلت بانتصاراتها قبلة اهتمامهم قبل أن تعيدهم نكساتها إلى أن يكفروا بالشرق إلا من رحم ربك. لقد تعرفت شعوب المغرب العربي على اليومي المصري بكثافة حتى صارت المسلسلات التلفزيونية المصرية أنيس الأسرة المغاربية. وحتى حينما انهار هذا الهرم الفروعي لتحل محله الدراما السورية كان دائما هناك حنين إلى الدراما المصرية. ومن هنا أعجب كيف نادى بعضهم بقرار منع الفيلم المصري عن المشاهد الجزائري.. وأغرب من ذلك من دعا إلى عقوبات اقتصادية ضد الجزائر.. ومع ذلك هذا لا يخفي أن ثمة مصدرا آخر لهذا الإحساس المصري بالإحباط . ليس لأن المصري فقد القدرة على الإبداع ، بل لأنه بات يتمدح بكبرياءه المجروح ؛ كبرياء الديمغرافيا لا بكبرياء التاريخ والإنسان. إنه إحباط في الصناعة التلفزيونية وفي كرة القدم وفي التنمية... وكل هذا ليس سوى فرع لإحساس عميق بالإحباط من مواقف الهزيمة السياسية تجاه إسرائيل التي فقدت الإحساس بالوقاحة وهي تطالب مصر والجزائر بضبط النفس. يجب أن لا نكذب على المصريين. ونقول لهم لماذا معظم الجماهير العربية فضلت انتصار الفريق الجزائري على الفريق المصري على الرغم من أن كل فريق هو في نهاية المطاف ممثل للعرب جميعا في المونديال؟ إن الحديث عن الكرة بلغة الحرب معناه أن الجمهور العربي غير راضي على الدور السيئ لمصر في حصار غزة طيلة الحرب. لقد بات الوضع مختلفا. فالشعوب التي علقت آمالا على الدور القومي المصري أصيبت هي الأخرى بإحباط يفوق إحباط الجمهور المصري. وهذا العنف الشعبوي ليس سوى تصريف لجلد الذات بعد هزيمة كنا فيها جميعا في الهم شرق. لقد تمنت الجماهير العربية أن يفوز الفريق الجزائري ليس كراهية لمصر أو المصريين ولكن تأديبا للسياسة المصرية. لقد دفع الفريق المصري ثمن أخطاء السياسة والموقف من القضية الفلسطينية. على الرغم من أن لا أحد ينسى أو يجهل أن الشعب المصري لا يزال رافضا للتطبيع صامدا في وجه الهزيمة التي تحاصره بفضل الاختيارات السياسية التي يرفضها. وهذا مصدر إحباط إضافي ؛ كون الجمهور المصري يشعر بأنه غير مسؤول عن هزيمته ومع ذلك يدفع فاتورتها غاليا عند الشعوب العربية. يجب أن تكبر مصر لنحبها ونجعلها تنتصر علينا في كرة القدم رغما عنا. تكبر حتى نكبر معها. ولا ينفع الحديث عن ضرورة اعتذار هذا الطرف أو ذاك. ليس على مصر إلا أن تعود إلى موقعها المناسب وستجد كل العرب جمهورا لها. هل يملك السياسيون أن يقولوا الحقيقة للجمهور المصري أو هل تملك النخبة المصرية أن تقف الموقف الصحيح كما مثله مناضلون مصريون لم يجدوا في القنوات التجارية المصرية منبرا لكي يقولوا كلمة العقل. ستظل مصر هي فعلا الشقيق الأكبر . ولكن على مصر أن تكبر في سياستها ولا تصغر فتجرئ عليها "زعران" ملاعب كرة القدم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.