أعادني حادث إطلاق النار الذي شهدته منطقة «الدزيرة» بالعيون، والذي ذهب ضحيته جندي وأربعة جرحى، بالإضافة إلى الجندي الذي أطلق النار وانتحر بعد ذلك بسلاحه، أعادني إلى لقاء سابق جمعني في سيارة أجرة مع جندي سابق في الصحراء. فهذه الشريحة من الشعب المغربي لا نتذكرها إلا عندما تأتينا أخبار «متضاربة» حول نيرانهم الصديقة التي يفرغونها نحو صدور بعضهم البعض في لحظات الغضب أو نوبات الجنون. وبما أنه يروق لي كثيرا أن أكتشف قصص الناس التي تختفي وراء ملامحهم، فقد كنت جالسا في المقعد الخلفي لسيارة الأجرة، فإذا بي أستمع إلى واحدة من قصص هؤلاء الجنود التي تجسد شريحة كبيرة من المغاربة رمى بهم الخبز في أقاصي الصحراء، رجال تعودوا أن يأكلوا طعامهم مخلوطا بحبات الرمل. وأن يشربوا مياها مخزنة في خزانات تفوح منها رائحة الصدأ. رجال يسهرون على أمننا ويحمون حدود الوطن، في الوقت الذي لا نكاد نقرأ شيئا عن معاناتهم في الصحافة. عندما استوقف رجل أمن سائق التاكسي خرج عنده وأعطاه تحية عسكرية، ثم عاد سريعا إلى مكانه أمام المقود. سألته لماذا يوقفه البوليسي دون أن يكون قد ارتكب مخالفة، فقال لي إنه يريد قهوته، سألته كم أعطاه فقال لي إنه لم يعطه شيئا، وأضاف : - «آش غادي يصور من بحالي، أنا راني دوزت سبعطاشر عام من عمري فالصحراء، عرفتي شنو هيا الصحراء، بنادم وخا ما يكونش راجل يرجع بوه راجل بزز منو»! ونظر إلي في المرآة لكي يرى وقع كلماته علي، وشرع يحكي عن تلك السنوات التي قضاها يسوق شاحنات التموين في الصحاري، لكي يحمل إلى الفيالق المرابطة عند الحدود المؤونة. كل شيء بدأ في أواخر السبعينيات عندما سجل نفسه في الجندية، آنذاك كان الجنود يتقاضون 375 ريالا في الشهر. انتهت مدة التجنيد وعادوا إلى بيوتهم، لكن عندما اندلعت أحداث 1981 في الدارالبيضاء، نادوا عليهم لينخرطوا في الجيش، وأخذوهم إلى شوارع الدارالبيضاء، لكي يسحقوا انتفاضة الخبز، أو «شهداء الكوميرا» كما أطلق عليهم البصري آنذاك. يحكي أن بعض أصدقائه من الجنود سلخت جلودهم بسبب الزيت المغلي الذي كانت ترميه فوق رؤوسهم النساء من أسطح بيوتهن، بعضهم احترقت أطرافه بسبب المجامر التي كانت تتساقط عليهم من النوافذ. مات من مات وجرح من جرح واختفت الجثث فجأة، كما يختفي الحمام في قبعة الساحر، ودفنت في حفر جماعية ومرت فوقها طرق وشيدت فوقها بنايات. ومباشرة بعد هذه الأحداث الأليمة أخذوه إلى الصحراء. سيتوقف لحظة ليتزود بالوقود، وعندما سيعود سيدير محرك السيارة وسيلتفت ليقول : - شفتي هاد بنادم اللي كاتشوف قدامك، راه شرب الما ديال الرادياتور فالصحراء، والله حتى داز فمصارني الما ديال رادياتور... وبحسرة تذكر ذلك الكولونيل الذي كان يأتيه خزان من المياه بمفرده يخصصه للاستحمام، فيما كل جنود الفيلق مجبرين على اقتسام خزان واحد في الشرب. وذات يوم لم يجد أحد الجنود قطرة ماء يشربها فأشهر رشاشه وثقب خزان مياه الكولونيل بالرصاص. عندما جاءت لجنة عسكرية خاصة للتحقيق في الحادث، أخبرهم الجنود أنهم كلهم كانوا يحلمون بالقيام بالشيء نفسه، لكن الشجاعة كانت تخونهم. يحكي عن أصدقاء كثيرين له في الفيلق أطلقوا الرصاص على رؤوسهم، وعلى رؤسائهم، جنود لم يستطيعوا أن يتحملوا قسوة الجوع والعطش والحرمان، جنود فقدوا عقولهم وآخرون فقدوا القدرة على الاندماج من جديد داخل عائلاتهم. -«أنا بعد لارمي قتل فيا الحنانة، ما بقاش عندي الكبدة، ماتت...». ويسألني، كيف يمكن أن يشعر بالحنان من اصطاد الثعابين وشواها فوق النار ليطفئ جوعه، من بلل الخبز الجاف بالماء الصدئ لكي يسكت أمعاءه؟ - «أنا اللي كاتشوف فيا سكرت حتى عييت بقراعي ديال الريحة، ديك الساعة كانت الماركة ديال «Reve D or» هي اللي موجودة...». عندما سألته لماذا كانوا يسكرون بقناني العطر، أجاب بأن ذلك كان هو الحال الوحيد لكي لا نصاب بالجنون وسط تلك الكثبان التي لا تنتهي من الرمال. عندما كان يصل بشاحنة المؤونة إلى المعسكر كان الكولونيل يأمر أحد أعوانه أن يمتص اللترات المتبقية في الخزان لكي يبيعها لحسابه الخاص. عندما كانوا يرسلون من الرباط بأربع شاحنات من المؤونة، لم تكن تصل إلى الصحراء سوى شاحنة واحدة، ثلاث كانت تباع في أكادير ويقبض العسكريون الكبار ثمنها نقدا. وفي الوقت الذي كان فيه الجنود يتضورون جوعا، كان بعض الجنرالات يشيدون العمارات والفيلات في البحر، على حساب خبز وعرق جنود منهكين، منسيين، كل طموحهم أن يوقع لهم رؤساؤهم إذنا بالخروج لثمان وأربعين ساعة، ما يكفي للذهاب إلى أقرب ماخور والعودة بجيوب فارغة إلى الصحراء. بعد سبع عشرة سنة في الصحاري، سيقرر أن يطلب تقاعده من الجيش، وطيلة سنتين سيعيش بلا راتب. كان يجب عليه أن يذهب إلى الرباط وأن يتعرى في إدارة المصالح الاجتماعية للجيش بأكدال، وأن يصرخ بأعلى صوته : -«والو ما بقيت باغي نهضر حتى مع شي ميخي. بغيت نشوف الملك، ياك أنا كنت خدام مع الملك، وبغيت نشوفو باش نعرف واش أنا كنت خدام مع الجيش ديال المغرب ولا مع الجيش ديال العدو، واش أعباد الله عامين هادي وولادي كايموتو بالجوع ووراقي فين ما مشاو كايبركو شهرين تلت شهر وكايرجعو...». كانت هذه المسرحية التي غامر فيها بمستقبله ضرورية لكي تنكب الإدارة على ملف معاشه، صرفوا له في نهاية المطاف ثلاثة ملايين سنتيم، وراتبا شهريا لا يتعدى ألف درهم، هو بالضبط ثمن كراء البيت الذي يعيش فيه مع زوجته وأبنائه. الآن يسوق سيارة الأجرة ويشتغل طيلة العام لكي يؤمن مصروف عائلته، ليس من حقه أن يمرض، وعندما يمرض لا يستطيع أن يذهب عند الطبيب. -«الله يجعل البركة فالمخينزة، ملي كنمرض كاتبقا تطليها ليا المدام حتى كا نبرا، ونكذب عليك، ما نقدرش نشري الدوا من الفرماصيان...». أمثال هذا المواطن يعدون بعشرات الآلاف. أغلبهم يوجدون في الصحراء، أو عادوا منها بعاهاتهم مستديمة، وابتساماتهم الحزينة التي يخفونها بشواربهم الصفراء بسبب التبغ الرديء. أمثال هذا المواطن هم الجنود الذين يصطفون أمام شبابيك القباضات لكي يتسلموا رواتبهم المخجلة التي لا تكفي لإعالة كلب في دولة محترمة. أولئك الجنود الشجعان الذين خرب أمعاءهم العدس المخلوط بالحجارة، وامتلأت كلياتهم بالحصى، وأتعبت عيونهم العواصف المشحونة بالرمال. أولئك الشجعان المرابطون على أطراف حدود المملكة، الساهرون لكي ننام نحن، والواقفون لكي نجلس نحن، والمتأهبون دوما للموت في الوقت الذي نتأهب فيه نحن كل يوم للحياة.