«منذ يوم 7 غشت1907 لم تعد الدارالبيضاء مسكونة إلا بالموتى»، بهذه العبارة وصف القبطان الفرنسي «كراسي» في كتابه «اختراق الشاوية» منظر المدينة بعد إنزال الكوماندو البحري وقنبلة المدينة، بواسطة البوارج الحربية الفرنسية التي اصطفت على الساحل المقابل لها، وأمطرتها مدافع البوارج بزخات النار والموت، التي استمرت طيلة خمسة أيام دون انقطاع. لقد كان قدر المدينة أن تكون بوابة الغزو العسكري الفرنسي في المغرب، بالنظر للمزايا الاقتصادية والاستراتيجية للحملة المرتقبة على المستعمرة الجديدة-آنذاك- المغرب، حتى تكتمل رقعة احتلال فرنسا في شمال إفريقيا. لكن المغامرة الاستعمارية لم تكن طريقها مفروشة بالورود، إذ تطلبت الحملة الفرنسية العسكرية أزيد من ثلاثة عقود من التهدئة 1907-1936، عوضا عن المدة التي تتداولها الأدبيات التاريخية الاستعمارية وهي 1912-1936. ولم تستتب الأمور للجيشين الفرنسي والإسباني إلا بعد القضاء على مقاومة عنيفة كلفتهما خسائر فادحة كما هو الشأن بمناسبة احتلال مدينة الدارالبيضاء. ويبقى الملفت للانتباه، هو أن المصادر التي تعرضت للحادث، سواء الأجنبية منها ومعظمها فرنسي، أو المغربية. اعتمدت في تصوير الأحداث على رواية مشوهة، خدمة لأهداف الدبلوماسية الفرنسية، التي كانت واضحة في التغطية على المجزرة والتسويق لها على أنها «عمل شرعي». وإذا كانت أهداف الفرنسيين واضحة، يبقى المستغرب هو اعتماد المصادر المغربية على الروايات الفرنسية، دون تكلف عناء التحقيق في وقائع الحادث وتركيب صورة حقيقية عما وقع، مثل ابن زيدان الذي اعتمد في روايته للحادث على استنساخ أخبار وقصاصات الصحف والكتب الفرنسية، مع أنه مغربي ومعاصر للأحداث... مما حدا ب جرمان عياش إلى وصف مصادرة الحقيقة الموضوعية لما جرى ب«الحق التاريخي المجهول» كما أورد في تقديم مؤلف علال الخديمي الذي اعتنى بالتأريخ للحادث . تسارعت الأحداث بعد اغتيال الطبيب الفرنسي «إميل موشان» (E. MAUCHAMP) في 19 مارس 1907 بمراكش، وتوفرت الذريعة لفرنسا لاحتلال مدينة وجدة في 25 من الشهر نفسه. وحينها، عجز السلطان عبد العزيز عن التصدي لتداعيات الأوضاع المقلقة، مما سهل الطريق أمام أخيه وخليفته عبد الحفيظ ليعلن نفسه سلطانا بديلا للجهاد بعد تقاعس سلطان البلاد عن القيام بواجباته كاملة. وجاءت قنبلة مدينة الدارالبيضاء واحتلالها مع بداية شهر غشت 1907، لتزيد الأمور تعقيدا بعد أحداث استغاثة زعماء الجهاد بالشاوية وعلمائها يوم 11 غشت من السنة نفسها بعبد الحفيظ لمواجهة الغزاة المحتلين لمدينة الدارالبيضاء. ليكون يوم الجمعة 16 غشت الموالي يوم إجماع بمسجد القصبة بمراكش على خلع بيعة المولى عبد العزيز، وإعلان بيعة المولى عبد الحفيظ سلطانا جديدا للمغرب. الذي تصادف مع الإنزال البحري واحتلال المدينة. مؤذنا بإحدى المراحل المفصلية في التاريخ السياسي الحديث للمغرب، ومدشنا لمرحلة التدخل العسكري المباشر في شؤون البلاد والعباد. كما حسم أيضا هذا الاحتلال لمدينة الدارالبيضاء في أمر منازعة باقي الدول الطامعة بالمغرب لفرنسا، وحسم «المسألة المغربية» لصالحها. فهل كانت الذرائع التي اتخذتها الدبلوماسية الفرنسية كافية لتبرير قسوة التدخل؟ أم أن سياق الحادث والرغبة العسكرية الفرنسية في إرهاب «الأهالي» تمهيدا ل«الحماية» وسياسة الأمر الواقع، فرضتا احتلال وتدمير المدينة؟ وكيف كان لحادث بسيط كمقتل العمال التسعة كل هذه الآثار المدمرة؟. أسئلة ضمن أخرى، يجيب عليها هذا الملف الذي يفتح أول فصول التدخل العسكري الاستعماري بالمغرب. الدارالبيضاء.. مدينة نشأت حول الميناء ركزت عليها الأطماع الاستعمارية لأهميتها الاستراتيجية كانت تسمى قديما أنفا، وكانت أحد مراكز برغواطة الساحلية، التي لعبت دورا هاما في العلاقات المغربية الإيبيرية. منذ فتح الأندلس والجهاد ضد الإسبان والبرتغاليين. وقد عرفت أنفا ازدهارا كبيرا إلى حدود القرن 15م. حين وصف ابن الخطيب نشاطها التجاري في النصف الثاني من القرن الرابع عشر ميلادي قائلا: «جون الحط والإقلاع، ومجلب السلع، تهدى إليها السفن شارعة وتبتدرها مسارعة. تصارف برها الذهبي بالذهب الإبريز، وتراوح برها وتغاديه بالتبريز. وخارجها يفضل كل خارج وقانصها يجمع بين طير ودارج. وفواكه طيبة، وأطار عصيرها صيبة، وكيلها وافر. وسعرها –عن وجه الرخاء- سافر، وميرتها لا ينقطع لها خف ولا حافر».(الناصري، الاستقصا). كما قال عنها الحسن الوزان في (وصف إفريقيا)، أيضا إنها كانت في «غاية الحضارة والازدهار لأن أرضها خصبة تصلح لجميع أنواع الحبوب».ويبدو أن موقع أنفا، ومساهمتها في الجهاد في العهد المريني كما أورد «طاريو» في كتابه (مونغرافية الدارالبيضاء 1907-1914) وأهميتها التجارية، جرت على المدينة الأطماع منذ وقت مبكر. فقد هاجمها أسطول برتغالي كبير وخربها سنة 1468م، بعد أن انسحب سكانها إلى مدينة الرباط. وقد ظلت أنفا على حالتها المخربة، إلى عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله 1757-1790 الذي جدد بناءها (الاستقصا) وأحيى ميناءها، في إطار توجه جديد رام ربط علاقات واسعة مع الدول الأوربية للاستفادة من تطورها الاقتصادي، ومنذ ذلك العهد اشتهرت المدينة باسم مدينة الدارالبيضاء. وقد عرف ميناؤها نشاطا مطردا، كان مرده إلى الإقبال المكثف للأوربيين على شراء الحبوب من الدارالبيضاء وفضالة، نظرا لشرائهم كميات كبيرة. وتكفلت بذلك شركتان، إحداهما من مدريد، والأخرى من قادس (أندريه آدم، الدارالبيضاء والشاوية)وقد استقر وكلاء الشركتين بكل من الدارالبيضاء وفضالة (المحمدية) وكانوا يكتالون الحبوب يوميا بكميات مهمة، لأن القوافل المحملة بهذه المادة كانت لا تنقطع عن المدينة، مما دفع المؤرخ الضعيف بن عبد السلام إلى وصفها بالسحاب قائلا: «وكانت الإبل تأتي إليها كأنها السحاب ليلا ونهارا»، وقد أدت كثرة الحبوب، التي كان الفلاحون يجلبونها راغبين في بيعها، بالتجار الأوربيين إلى فرض شروطهم وأسعارهم. وفي عهد مولاي سليمان 1822-1792 عرفت الدارالبيضاء بعض الأحداث التي أثرت على مصيرها، ذلك أن السلطان ولى عليها ابن عمه عبد الملك بن إدريس عاملا على قبائل الشاوية. وأخذ هذا الأخير يتقرب إلى أعيان الشاوية بالإغداق عليها بالهبات والمكافآت من مداخيل ميناء المدينة. حتى تطورت الأمور إلى حالة من التمرد، الذي قضي عليه في المهد، وتم إعلاء ميناء المدينة وتحويل التجار إلى الرباط. الاستقرار الأوربي بالمدينة بقي ميناء الدارالبيضاء ممنوعا على الأوربيين إلى عهد السلطان مولاي عبد الرحمان، الذي فتحه في وجه التجارة الأوربية منذ العقد الثالث من القرن التاسع عشر، وذلك حينما سمح السلطان لمؤسسات تجارية بتأسيس مراكز لها بالمدينة. وقد تزايد عدد تلك المؤسسات بتزايد نشاط الميناء، وتطورت العلاقات المغربية الأوربية خلال القرن التاسع عشر. ارتبطت ظروف تطور المدينة أساسا بتطور الأنشطة التجارية حول الميناء، كما عرف القرن التاسع عشر ثورة صناعية، التي أدت إلى نقلة نوعية في أنماط المبادلات التجارية والإنتاج، في إطار اقتصاد رأسمالي متطور وسريع الوتيرة، ساهمت هذه الظروف في أوربا الناهضة إلى البحث عن أسواق ومراكز جديدة، وبحكم موقع المغرب في جنوبها فقد كانت الرأسمالية الأوربية تهفو إلى موطئ قدم للاستقرار به وإدارة أعمالها الاقتصادية والتجارية بإفريقيا. ينضاف إلى ما سبق دخول ارتفاع الطلب الأوربي على القمح المغربي وارتفاع أسعاره، كما أدت المكننة المتزايدة للصناعات النسيجية، إلى طلب المزيد من المواد الخام وخاصة مادة الصوف، والبحث عن المنافذ لمراكمة الإنتاج، كل ذلك دفع بالتجار الأوربيين إلى اعتبار السوق المغربية مغرية وذات مزايا تجارية عديدة. وقد كانت المؤسسات الفرنسية سباقة إلى الاستقرار بمدينة الدارالبيضاء، حينما بادر أحد رجال الأعمال الفرنسيين الذي كان مقيما آنذاك بطنجة، وهو التاجر «ج . ب راي» الذي أناب عنه بالدارالبيضاء أسرة فرنسية اشتهرت بالمدينة وهي أسرة فريو..(مييج، المغرب وأوربا)، وقد أدى نجاح عمليات أسرة «فريو» إلى دفع شركات أخرى إلى إرسال وكلائها وممثليها إلى المدينة، وهو الأمر الذي قام به كل من مؤسسة البارون سيليير الباريسية منذ 1847، والشركة الفرنسية لوديفا سنة 1852، وكان اهتمام هاتين الشركتين مركزا على تجارة الصوف لإمداد مصانعها بفرنسا، وكانت أصواف المغرب توجه إلى مارسيليا ولندن ومدن أوربية أخرى، ومما يبرز الأهمية الاقتصادية المتصاعدة للمدينة توافد الأجانب عليها واستقرار أول نائب قنصل إنجليزي بالمدينة سنة 1857، وهو الذي شغل أيضا نائب القنصل العام بالمغرب. المبادلات التجارية للمدينة في دراسته لأصول تطور المدينة التي صدرت سنة 1953، أكد المؤرخ «مييج» على الدور الفعال للخارج، وللتجارة الأوربية خاصة، مذكرا أن أصل ثروة المدينة يرجع للعمليات التجارية الناشئة عن بيع الأصواف وتصاعد طبقة البرجوازية، ودخول الملاحة التجارية ميدان النقل. كما اتخذ أدريه آدم هذه النتيجة كمسلمة، على أن الدفع الاقتصادي للمدينة جاء من الخارج وبالضبط من المبادرة الأوربية. وتتفق العديد من الدراسات على منح فضل تطور وانتعاش الدارالبيضاء إلى العنصر الأجنبي، الذي يحمل بعض المبالغة، حتى إن أندريه أدم أكد: أن «بدون الأجنبي كانت الدارالبيضاء ستبقى بدون شك، قرية صغيرة، وسوقا هاما على الأكثر»يمكن إضافة عامل مهم ساهم في تعزيز مزايا المدينة اقتصاديا، ألا وهو توفرها على مرسى يستطيع استقبال السفن الكبيرة، التي لم تعد الموانئ النهرية قادرة على استقبالها، كميناء العدوتين بسلا، وتوسطها الجغرافي بين الحوز والغرب، فمنها كان يمكن جلب المواد الخام من الجديدة والقبائل المجاورة لها، وكذا من الرباط وسلا... كما أن تحكم الدارالبيضاء في الطريق الرابطة بين فاسومراكش، جعلها مدخلا استراتيجيا إلى ساحل أضحت أهميته بادية في زمن التوسع الإمبريالي، والتنافس حول المغرب، « إنه-المغرب- على الساحل، سواء الأطلس أو المتوسطي...» يقول «كاسطوني» في مقاله الذي نشره على مجلة إفريقيا في عددها 24 سنة 1887. وقد تضاعفت قيمة المبادلات التجارية بالمدينة بين 1855-1848 بثلاث مرات، وأصبحت نتيجة لذلك تحتكر خمس نشاط الموانئ المغربية وهي تطوان وطنجة والعرائش والرباط وسلا والجديدة والصويرة. كما وصلت قيمة تجارة المدينة سنة 1867 إلى ستة ملايين فرنك ذهبي ونصف، وقد ارتبط هذا التطور بإقبال التجار على شراء البضائع المغربية من جهة، وتزايد شراء السلع الأوربية من جهة أخرى. وكانت أهم البضائع التي كانت تسوق بمرسى الدارالبيضاء هي الحبوب، كالقمح والشعير والذرة، والأصواف والجلود، ثم الحمص والفول والحلبة والقزبور والعظام والشمع الطبيعي. أما المنتوجات المستوردة فكان على رأسها الصابون والسكر والكتان والمنتوجات القطنية والتوابل والأصباغ والشاي والغاز والزجاج والورق، وبالنظر إلى تحولها إلى مركز لتوزيع البضائع الأوربية، عرفت المدينة توافد تجار من فاسوالرباط للاستقرار بها، حيث أصبحت مركزا تجاريا مهما، يلعب دورا حيويا في تغذية خزينة الدولة الشريفة. عائدات جمركية مهمة عرفت جمارك مدينة الدارالبيضاء انتظاما في تعيين الأمناء منذ 1874، مما يبرز المكانة التي باتت تحتلها، إذ أن السلطان مولاي الحسن الأول 1894-1874، أمر بتنظيم جباياتها سنة 1875، حين كلف الأمين محمد التازي الرباطي كأمين خاص، اضطلع بتنظيم حقوق الدولة المستخلصة كرسوم من العمليات التجارية التي عرفها الميناء، بحسب ما أشارت إليه الرسالة التي بعث بها السلطان الحسن الأول لأمناء الدارالبيضاء والتي نصت على: « وبعد فقد اقتضى نظرنا(...)ترتيب أمر مستفادات الأبواب والمنافع هناك على ما هو مرتب بفاس ومكناس، وقد وجهنا خديمنا الأرضى الأمين الطالب محمد التازي الرباطي، الذي كان متوليا ذلك بفاس ليرتبه على أحسن ترتيب، على ما يقتضيه الحزم من الضبط في أمرها...» . بحسب ما أوردته الباحثة المغربية نعيمة التوازني في مؤلفها (الأمناء بالمغرب في عهد مولاي الحسن). وفي سنة 1876 قام السلطان بزيارة للمدينة، وتفقد نشاط الميناء، ومحلات وضع السلع، بسبب الشكوى التي توصل بها من لدن التجار، التي كان موضوعها تأخر تفريغ السفن الكبيرة وتخزين بضائعها بالمرسى، وكذا تأخر إجراءات الديوانة وتراكم السلع عندها. بالمقابل وعدهم السلطان بإصلاح وتويسع المرسى حتى يسهل على القوارب الصغرى تفريغ السفن والعمل على إنزال السلع في أسرع وقت... في سنة 1875 كان للإدارة المخزنية أملاك بالدارالبيضاء ومنافع «تراخيص» تجبى منها مداخيل مهمة، كانت تشمل عددا من الدور والمحلات التجارية والمخازن المكتراة للأجانب والمغاربة بلغ عددها 30 عقارا بين محل ومخزن. إضافة إلى بعض الحوانيت التجارية مثل تلك التي كانت بفضالة، وكانت عبارة عن خمسة حوانيت وطاحونة وفرن ودار فخارة ودار للصابون، تابعة كلها لأملاك الدارالبيضاء. أما المنافع «التراخيص»، فكانت متعددة وكان يشرف على استغلالها وجبي عائداتها أمين المستفادات، وكان أهمها، الباب، والجوطية، وسوق البقر والغنم ورحبة الزرع وطابع الفضة والكبريت. كما كانت هناك «تراخيص» تباع بعد سمسرتها بالمزاد العلني وهي : الصاكة «التبغ» وسوق الجلد النيء ومهراس القهوة و»دولة الجمال والبقر والبهائم». وقد بيعت هذه التراخيص في سنة 1875 كالآتي : «الصاكة» ب 8000 مثقال، الجلد النيء ب4200 مثقال ومهراس القهوة ب 480 مثقال ودولة الجمال والبقر والبهائم ب 1152 مثقال. وكانت إلى جانب هذه المداخيل تقع مستفادات أخرى مثل مستفاد القوارب العاملة بالمرسى، ثم الجزية و»أبي المواريث» والزكاة. وفي سنة 1892 بلغت مداخيل المرسى شهر أبريل فقط 66618 ثماني عشر ألفا وستمائة وستة وستين مثقالا، هذا عن الواردات، ليبلغ إيراد المرسى سنويا حوالي 223 993 مائتي وثلاثة وعشرين ألفا وتسعمائة وثلاثة وتسعين مثقالا، بالرغم من ذلك كانت مداخيل مرسى المدينة غير قارة، فمن مراجع لكنانيش مستفادات مرسى الدارالبيضاء، نلاحظ زيادة مطردة عبر السنوات اللاحقة، حيث بلغت هذه المداخيل في شهر شتنبر من سنة 1901 سبعة وخمسين ألفا ومائة واثنين وخمسون ريالا 57152 عن الصادرات وخمسة عشر ألفا وأربعة مائة وأربعة عشر عن الواردات أي حوالي اثنين وسبعين ألف وخمس مائة وسبعة وستين ريال. أطماع فرنسية مبكرة بدون شك، لم تكن الأهمية التجارية والاستراتيجية لمدينة الدارالبيضاء خافية على المؤسسات الأجنبية، وخاصة صناع قرار السياسة الاستعمارية الفرنسية، إذ بدأ الرأسمال الفرنسي يولي اهتماما ملحوظا للسوق المغربية الواعدة، ويظهر ذلك عبر الاحتكارات التي استطاعت الشركات الفرنسية الحصول عليها، وكذا الفوز بصفقات التعمير والتجهيز الكبرى مع إدارة المخزن، التي جاءت كنتيجة مباشرة لقرض الإدارة المخزنية سنة 1904، الذي مولته مؤسسات بنكية فرنسية. كما بدأ الفرنسيون قبلا، منذ سنة 1903 في القيام بدراسات حول الثغور الأطلسية وعلى رأسها الدارالبيضاء، حين قام «أوغستان برنار» بمهمة بالمدينة بتكليف من الحاكم العام للجزائر في السنة نفسها. كتب برنار المكلف بالدراسة قائلا: «إن النشاط التجاري بالمدينة كثيف جدا ومن النادر أن ترى فيه 8 أو 9 بواخر بالمرسى تنتظر الشحن أو الإفراغ...».(أ.برنار، بعثة المغرب : تقرير للحاكم العام بالجزائر، 1904) وفي سنة 1904، قام «لوموان» ببعثة مماثلة للمغرب في جهته الغربية، وكتب يصف المدينة : «إن الدارالبيضاء مدينة هامة للغاية، وهي ربما أهم مدينة مغربية من وجهة نظر تجارية، فهي تقع وسط سهول الشاوية الساحلية الجيدة الخصوبة، وهي نقط التقاء القوافل الآتية من الداخل، كما هي ميناء نشيط جدا. وتجارة القمح والشعير بها ضخمة ولا يمكن إلا أن تزداد..». إضافة إلى هذا الاهتمام الاقتصادي، كان هناك اهتمام مماثل من الناحية العسكرية، إذ اعتبرتها التقارير العسكرية أهم نقطة يمكن الانطلاق منها في أي عمل عسكري لاحتلال المغرب، وقد جاء في تقرير للجنرال «فاريو»، قائد البعثة العسكرية الفرنسية بالمغرب ما يوضح هذا الاهتمام قائلا : «إن الدارالبيضاء هي النقطة الوحيدة بالساحل التي يمكن الإنزال فيها في كل وقت تقريبا، وهي منفذ للمنطقة الغنية بالحبوب، ونقطة إنزال ذات مزايا لطابور يكون من مهامه مراقبة قبائل الوسط والجنوب. بحيث يمنع نقل مساندتها في حالة القيام بحملة إلى فاس، وعند اللزوم يمكن أن تصبح الدارالبيضاء قاعدة للزحف نحو مراكش». إدارة المخزن كانت تؤطر سكان الدارالبيضاء إدارة محلية متكاملة ومنظمة تنظيما محكما، فالعامل كان على رأسها مكلفا بأمن المدينة والمسؤول أمام الإدارة المركزية لسلطة المخزن، وكان يساعده في تصريف مهامه خليفة وعدد من العسكريين. ثم مقدمي الأحياء وأصحاب «الدور» الذين كانت تناط بهم مهمة الحراسة الليلية. إلى جانب هؤلاء، كان هناك شيخ اليهود المكلف بشؤون الطائفة الإسرائيلية بالملاح. وكانت الأحكام الشرعية وتطبيقها بيد قاضي المدينة الذي كان يساعده على تطبيقها عدلان، أما مراقبة الأسواق فكانت من مهمة المحتسب. في حين كانت الجبايات والمكوس يتكلف بها أمين المستفادات. كما كان ناظر الأحباس يدير أملاك المخزن. ينضاف كذلك إلى هؤلاء الموظفين المخزنيين أمناء الديوانة، وهم أمناء المرسى كانوا مكلفين بالجمارك. وكان قائد المرسى أو كبير البحرية، هو الوسيط بين الإدارة والبحرية والحمالين في كل ما يهم نشاط التجارة بالميناء. إلى جانب ممثلي الإدارة المخزنية، كان قناصل الدول الأجنبية كثيرا ما يتدخلون لدى عامل المدينة، لحثه على اتخاذ بعض الإجراءات، التي كانوا يرونها لفائدة مواطنيهم أو بعض المحميين. كما كانوا يتدخلون لدى أمين المستفادات للقيام ببعض الخدمات لصالح الجالية الأجنبية، لأنه كان مسؤولا عن مراقبة تنظيف المدينة وبناء الدور والمخازن التجارية. والقناصل الأوربيون الذين مثلوا بلدانهم إبان إنزال البحرية الحربية الفرنسية سنة 1907 هم: مادن قنصل لإنجلترا ومالبيرتي قنصل فرنسا ورويز قنصل إسبانيا وغراسينو قنصل إيطاليا، وفيرنو نائب قنصل الدانمارك، جفروس نائب قنصل البرتغال، في حين مثل ألمانيا القنصل لوديرز. صفارة القطار التي أرعبت سكان المدينة مع مطلع سنة 1907، بدأت العلاقات تزداد سوءا بين سكان الشاوية والتجار الأجانب وخاصة الفرنسيين منهم والإنجليز، وظهر ذلك جليا لما شرع الفرنسيون في الأعمال التمهيدية لبناء رصيف ميناء الدارالبيضاء منذ مارس 1907، آنذاك تبين أن الخطر الذي أصاب وجدة متمثلا في احتلالها من طرف القوات العسكرية الفرنسية، قد يتكرر بالدارالبيضاء، حيث بدأ سكان المدينة يهددون بطرد الفرنسيين منها وإيقاف تسربهم للمنطقة. كان الهدف من سخط المغاربة واستيائهم من الأشغال الفرنسية بالميناء، هو التخلي عن تلك المشاريع الاستغلالية، وليس بسبب الرغبة في نهب المدينة كما أشاعت الأوساط الاستعمارية التي مافتئت تؤكد –آنذاك- أن الأمر متعلق بفوضى عارمة وعودة مظاهر السيبة. إذ أن الأمر ببساطة تلخص في تهديد أجنبي ذي أهداف امبريالية حاول سكان الشاوية إيقافها...وقد طغى ذلك التدخل بفرض مراقبين فرنسيين بمرسى المدينة، وهو الأمر الذي كان من شأنه إنتاج ردود أفعال عملية. حاول أندريه آدم تصوير رواية لحادث 30 يوليوز 1907 (مساهمة في تحولات المجتمع المغربي عند التقائه بالغرب، 1968) ، وإبراز الأسباب الحقيقية لهجوم البحرية العسكرية الفرنسية على المدينة، تحت عنوان «دراما 1907». لكن محاولة المؤلف اعتمدت على ما كتبه الصحفي جورج بوردون الذي عايش الأحداث، كما اعتمد رواية صحفي آخر، وهو كريستيان هويل الذي التحق بمولاي عبد الحفيظ إثر بيعته، وكتب عن مغامراته بالمغرب في وقت متأخر، وهما الصحفيان اللذان حاولا تصوير الأحداث بناء على ما رشح من الدراسات الاجتماعية التي اعتنت بالمغرب قبل الحماية، والتي مفادها أن هناك عقدة مركزية عند المغاربة من التعامل مع الأجنبي الأوربي «الكافر»... لكن، يبقى السبب المباشر كما سلف، هو سياسة التغلغل النشيط، وبسط النفوذ الفرنسي، والتي تجلت في مشاريع كان أهمها مشروع توسعة الميناء، خاصة لما شرعت «الكمبانية المغربية» في أشغاله لبناء الرصيف، الذي ضاعف من قلق المغاربة بعد جلوس المراقبين الفرنسيين بديوانة المدينة. شرعت المؤسسة المذكورة في أشغالها التمهيدية، إذ بنت سكة حديد طولها حوالي 1500 متر بين المرسى ومقلع الحجارة الذي كانت ستنقل منه الحجارة لبناء الرصيف، ومنذ ماي 1907 بدأت الأشغال الفعلية، إذ استخدمت قاطرة من نوع «ديكوفيل» لنقل الأحجار. فهل منظر القاطرة هو الذي أسرع ب»الدراما» على حد توصيف أندير آدم الذي قال : «إن صفارة القاطرة أذكت الهياج الخامد في نفوس البسطاء»، ويضيف كذلك الصحفي «هويل» الذي كان مسخرا من الأوساط الاستعمارية «إن هذه الآلة كانت اختراعا شيطانيا» وإن المغاربة كانوا يتأملون فيها ويقولون : «إن هذا الشبح الحديدي يمكن أن يمتد إلى بلادهم ويزرع في دواويرهم دخانه الشرير، وكتب قبله «ر. رانكين» يقول كذلك في مذكراته ( مع الجنرال داماد) : «إن التدخل الفرنسي في الدارالبيضاء كان سببه صيحة صفارة» . إن حادثة مقتل العمال الأوربيين وقعت يوم 30 يوليوز سنة 1907، وأشغال ميناء الدارالبيضاء بدأت منذ مارس 1907، وبدأت القاطرة في حمل الأحجار عمليا منذ ماي. والسؤال الذي نثيره هنا، إذا كان صفير القاطرة هو الذي أثار سكان الشاوية والمدينة، فلماذا انتظر هؤلاء هذه المدة ليخربوا السكة الحديدية ويوقفوا أعمال الشركة الفرنسية؟ هل كان خليفة المدينة آخر من علم بخبر الإنزال؟ في دوريته التي أطلع بموجبها القنصل الفرنسي بالمدينة باقي قناصل الدول الأجنبية المعتمدة بها، بخبر الإنزال العسكري، جاء في آخر فقرة منها: «وسأتكفل بتوجيه هذا الإشعار إلى مولاي الأمين –خليفة- في الوقت المناسب» أي أنه أخبر بعد توصل القناصل بالإشعار. ومن المحتمل أن يكون القنصل الفرنسي قد أطلع مولاي الأمين، بكيفية أو بأخرى في وقت متأخر من ليلة 4 – 5 غشت، وأمره بأن يصدر تعليماته بترك باب المرسى مفتوحا. ولكي يتجنب الخليفة السلطاني كل خلاف مع الجنود الفرنسيين، تذكر بعض الروايات أنه أوحى لبعض الحراس بفتح باب المرسى مبكرا وتركه مفتوحا، دون أن يسرب خبر الإنزال الفرنسي، لأن ذلك كان من شأنه أن يثير مقاومة المغاربة، أما الباشا بن بوزيد فقد ناصبه الفرنسيون العداء منذ 1906 ونظرا للاتهامات التي وجهت له منذ حادث مقتل العمال التسعة، بعدم فرض الأمن بورش المرسى وحماية العمال الأجانب. هكذا، تبدو رواية عبد الرحمان ابن زيدان ضعيفة، بخصوص فرضية المعرفة السابقة للباشا أبي بكر بن بوزيد، بخبر وساعة الإنزال. وملخص هذه الرواية مفاده أن القنصل أخبر الباشا بالنزول وحذره من التعرض للبحارة الفرنسيين بسوء، وأن الباشا المذكور أطلع الخليفة، ليجيبه هذا الأخير: «بأنه لا دخل له في صعود أو هبوط». فرنسا تدق طبول الحرب على الدارالبيضاء حالما توصلت المفوضية الفرنسية بطنجة، بخبر مقتل العمال التسعة بالمرسى يوم 30 يوليوز، عمد المكلف بمهامها «سان أولير» إلى سلسلة من الإجراءات التي ارتكزت على معطيات مشوهة ومبالغ في صحتها، وعيا منه بقدوم اللحظة المناسبة للاحتلال الفعلي للأرض المغربية، وانتهاز الفرصة لحث الحكومة على القيام بتدخل عسكري، وقد أشار إلى ذلك في مذكراته بعد مضي '» سنة عن الحادث قائلا: « كنت مهيئا لمواجهة الحادث بواسطة سيناريو اتفقت عليه مسبقا مع «رينيو» (الوزير الفرنسي المعتمد بطنجة) وهو الانتقام السريع...». وقد استدعى «أولير» بالفعل قائد البارجة «غاليلي» التي كانت رابضة بالمياه المغربية مزودا إياه بتعليمات-حسب روايته- بأن لا يتردد في قنبلة المدينة. كما أبرق لباريس بأخبار زائفة مفادها «بأن عددا من الأوربيين قد جرحوا نتيجة الحادث، «الذي تسبب في مقتل خمسة فرنسيين بعد أهانتهم من طرف الجمهور، الذي بعد أن أبدى ضراوة نحو جثثهم، رمى بها إلى البحر»، وفي هذه البرقية أرجع «سان أولير» سبب الحادث إلى رؤية المغاربة للقاطرة، كما دعا مراسلي الصحف الفرنسية إلى عدم الإلحاح على مسألة مراقبي الديوانة، وهكذا نفهم لماذا تجاهلت الصحف الفرنسية حقيقة المشاعر الوطنية للمغاربة، التي كانت تناهض وجود مراقبين فرنسيين في الجمارك بجانب الأمناء، وركزت على مسألة القطار الصغير وأشغال الميناء، لتظهر المغاربة في صورة معارضين لكل إصلاح وتجديد، وتحاول البرهنة على «توحشهم وتخلفهم». كما حث «أولير» في برقية أخرى وزير الخارجية على الإسراع إلى احتلال الدارالبيضاء، لأن الفرنسيين هم من استهدفوا يوم 30 يوليوز/ ولذاك «لا ينبغي أن تتأخر ويجب أن يقوم تعاون مستعجل بين الأسطول وبين الجيش الفرنسي بالجزائر لاحتلال الدارالبيضاء»، كما اقترح المطالب التي يجب إضافتها للمخزن جراء الحادث، فزيادة على المطالبة بالتعويضات ألح «أولير» على: إعدام المسؤولين الرئيسيين عن الحادث، وعزل الباشا وخليفته، وعزل الصدر «الذي يقوم بمهام وزير الداخلية والمسؤول عن إبقاء باشا الدارالبيضاء بمنصبه. هكذا ألح «أولير» على الشروع في احتلال المغرب، انطلاقا من الدارالبيضاء ومعاقبة «الجناة» حتى لا يقاوموا مستقبلا أي تدخل فرنسي في الشؤون المغربية، ولإضفاء الصبغة الدولية على تدخلها العسكري، قامت فرنسا بجر إسبانيا وراءها، فقد كتب «بيشون» إلى سفير فرنسا بمدريد، يطلعه على الإجراءات المتخذة التي لخصها في النقط التالية: بعث سفن حربية من أسطول الشمال بقيادة الأميرال «فيليبر» إلى الجزائر لحمل قوات التدخل في الدارالبيضاء، وتعيين فريق لقيادة هذه القوات نظرا لأهميتها تحت إمرة الجنرال «درود» وتحديد مهمته في احتلال المدينة ونواحيها المجاورة، بعد تثبيت النظام وحفظ الأمن وحماية الرعايا الأجانب، وتنظيم البوليس بالمدينة بقيادة «مانجان»، ومعاقبة القبائل المجاورة للمدينة بحكم مسؤوليتها المزعومة عن الاضطرابات و»حوادث القتل».(برقية دبلوماسية، عدد 365 بتاريخ 5 غشت 1907) مقاومة المغاربة أرغمت بحارة الإنزال الفرنسيين على التحصن بالقنصلية أمام الموقف المهادن والمتردد للمخزن من حادثة الإنزال وقنبلة المدينة، انبرى من ظل حيا من سكان المدينة وبعض جنود المولى الأمين إلى الدفاع عن أنفسهم من وابل نيران البحارة الذي انطلق من كل اتجاه، إضافة إلى القصف المتوالي للبوارج الحربية التي أمطرت أحياء المدينة بالقنابل الحارقة. كما توافد فرسان القبائل المجاورة، للانتقام من الغزاة، وحوصر البحارة الفرنسيون في حي القناصل، واتجهت نيران المقاومة إلى القنصلية الفرنسية خصوصا، في الوقت الذي تواصل القصف المدفعي من جهة البحر لمنع دخول فرسان القبائل. هكذا أسرع سكان المدينة إلى إغلاق باب المرسى ومنع الدخول أو الخروج منها، إذ تحمل السكان عبء القتال والمقاومة دون انتظار تعليمات الإدارة المخزنية، التي كانت ترى عدم جدوى المقاومة، بسبب تواضع التجهيزات العسكرية المغربية، مقابل هول الهجوم واستعمال أسطول حربي جد متطور لقصف المدينة. وقد برر الفرنسيون القصف المتوالي للمدينة وضواحيها، بالرغبة في منع الفرسان من الدخول إلى المدينة. وليخففوا ضغط الهجوم الباسل للمقاومة المغربية على القنصلية الفرنسية، بالرغم من ذلك استطاع الفرسان النفاذ واختراق قذائف البوارج الحربية، فقد تمكن المغاربة من تضييق الخناق على حي القناصل، ونظموا «حصارا ضد القنصلية الفرنسية، واتخذوا من سطوح المنازل وصوامع الجوامع والنوافذ الضيقة للدور، متاريس ومخابئ كانوا يطلقون منها نيران بنادقهم بدون انقطاع»(عبد الرحمان بن زيدان، الإتحاف، جزء 1) . ومع اشتداد المقاومة، كثفت البوارج الفرنسية قصفها لحي «التناكر»، الذي التهمته النيران، في الوقت الذي كان البحارة المحتلون للقنصلية يطلقون النار من بنادقهم ورشاشاتهم على كل شيء يتحرك، دون تمييز بين المقاتلين وبين الفارين من جحيم القصف، ليساهم رصاص البحارة في تضخيم عدد القتلى من بين سكان المدينة، والذين كان أغلبهم من النساء والأطفال... مقتل العمال الأوربيين التسعة بورش الميناء أشارت بعض الروايات التاريخية إلى وفد من القبائل المجاورة للدار البيضاء، تزعمه ممثلون عن قبيلة مديونة، اتصل بباشا الدارالبيضاء أبي بكر بن بوزيد في 28 يوليوز، مطالبا إياه بثلاثة إجراءات استعجالية وهي طرد المراقبين الفرنسيين وتخريب السكة الحديدية والإيقاف الفوري لأشغال ميناء الدارالبيضاء، وأضافت المصادر حيرة القائد التي انتابته بحكم الالتزامات المالية للدولة الشريفة مع فرنسا والناتجة عن قرض 1904، فقرر إمهالهم إلى يوم الثلاثاء 30 يوليوز. وحدد «مارتان» يوم اللقاء في 29 يوليوز ذاكرا أن عدد أفراد الوفد بلغ 30 شخصا. أما نائب القنصل الفرنسي بالمدينة «ميكري» فقد ذكر أن قبيلتي مديونة وأولاد زيان أرسلا وفدا للقائد باسم جميع القبائل المجاورة، الذي التقى بالقائد وبمولاي الأمين خليفة السلطان بالدارالبيضاء، أما في تقرير للقنصل الإنجليزي فقد جاء فيه بأن قبائل الشاوية عقدت اجتماعا يوم 28 يوليوز، واتفق المجتمعون على إرسال وفد للمدينة مطالبا القائد بتوقيف أعمال السكة الحديدية، وعمل المراقب الفرنسي بالديوانة. ذكر الصحافي «جورج بوردون» بدوره معلقا على الأحداث، بأن أهل الشاوية كانوا يريدون تطهير المدينة من وجود أوربي ونهب حي الملاح، (ما رأيت في المغرب، الأيام بالدارالبيضاء 1908)، وكان اتهام سكان الشاوية بالرغبة في نهب المدينة وإثارة الفوضى مجانبا للحقائق الموضوعية التي أسلفنا تبيانها، إذ اكتفى بالإشارة إلى نصف الحقيقة المتمثل في رغبة السكان في تنقية المدينة من الأوربيين. وفي سياق متصل خاطب القائد بن بوزيد وفد القبائل قائلا: «ليكن، نطرد الفرنسيين، أنا معكم. لكن السلطان مدين لهم ب80 مليون فرنك يجب أداؤها أولا، هل عندكم الأموال؟. كما أورد «بوردون» فعلى الساعة الحادية عشر من صباح يوم 30 يوليوز يذكر «بوردون» بأنه كان هناك «شخص وسخ يرافقه رجل أسود يدعو للجهاد ويندد بالأوربيين وبالنصارى الكلاب...». كما حكى «فكتور بيرتي» أنه على الساعة الحادية عشر صباحا، دعا الشريف حسن الزياني -أحد أعيان الدارالبيضاء- مواطنيه للانتفاض قائلا: «خلال خمسة أيام سنغزو الدارالبيضاء وسنقتل النصارى واليهود، فعلى مديونة وأولاد احريز والمذاكرة وأولا زيان والزايدة أن ينضموا إلى إخوانهم في أقرب وقت ليقضي الله أمرا كان مفعولا....». مقابل هذه الرواية «الاستعمارية» كانت هناك رواية أخرى تفيد بأن براحا عموميا من أولاد حريز يدعى «سحور» كان يرافقه بعض الأعيان، وكان أشهرهم الحاج الحسين، وكان ينادي في الناس بمقاطعة بضائع النصارى وعدم التعامل مع التجار الأجانب، مهددا من لم يمتثل من المغاربة لهذا الإجماع الشعبي، كما دعا المستخدمين المغاربة إلى مقاطعة أعمال الأجانب والالتحاق بقبائلهم، ليتضح أن المغاربة لم تكن دعوتهم صباح 30 يوليوز إلى نهب المدينة أو قتل النصارى واليهود، وإنما اقتصرت دعوتهم إلى المقاطعة التجارية للأجانب، وبما أن الفرنسيين كانوا على رأس المستهدفين، فقد اتجه جمهور من العامة إلى المرسى، وانتهى بحادث شجار في أوراش الميناء بين الفرنسيين والمغاربة عشية 30 يوليوز، ذهب ضحيته 9 عمال أجانب من بينهم فرنسيين ومغاربة كذلك (علال الخديمي، التدخل الأجنبي والمقاومة بالمغرب). معظم الروايات المستقاة، لا تكشف عمن بدأ بالأعمال العدائية بورش الميناء، لكنها تشير إلى أن القاطرة وهي في طريق عودتها من المحجر، توقفت عند كومة من الأحجار، ولما حاول عامل إزالة الأحجار، نشج شجار، قتل خلاله عامل وميكانيكي القاطرة المسمى «راتا»، وهو الشجار الذي انتهى بقتل العمال التسعة وعلى رأسهم رئيس الورش، المسمى «ماس» بعد أن تصدى للمغاربة بواسطة سكين. هكذا دفن قتلى المدينة في حفر جماعية سجل الملاحظ الإنجليزي «هويل» في كتابه (مغامراتي المغربية) «أن مظهر المدينة غداة الإنزال، يتعدى ما يمكن للمرء أن يتخيله من فظاعة، إن الأزقة الضيقة مليئة بنتانة تؤدي إلى الاختناق»، تعدى عدد الضحايا كل التقديرات التي وردت في الروايات التاريخية، إذ تم دفن المئات في ظروف استعجالية وبطريقة جماعية عبر رميهم في الحفر دون أدنى طقوس وشعائر إسلامية أو إسرائيلية للدفن، بحكم أنه كان من بين الهلكى العشرات من اليهود المغاربة. يضيف الملاحظ الإنجليزي نفسه: «من ثلاثين ألف من السكان، لم يتبق إلا حوالي مائتين أحياء بالمدينة..آلاف من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء، يهود ومغاربة مزقوا إربا بواسطة قنابل الملينيت وبقروا بالحراب، بعد أن استنفذت القنبلة أسوأ ما عندها، كان جيش المتطوعين الأجانب «اللفيف» الذي تم إنزاله بعد القنبلة يخرج الناس من مخابئهم ويعدمونهم بكل هدوء...» وفي رسالة بعث بها الوزير الأكبر لمولاي حفيظ عقب بيعته بتاريخ 15 غشت 1907، قبل إرسالها إلى عميد الهيأة الدبلوماسية بطنجة، احتج على مجزرة الدارالبيضاء، «التي تعرض سكانها للعنف والاعتداء، بحيث قتل منهم 6000 نسمة». قصف بحري أتى على الأخضر واليابس بالمدينة بعد رفع شارة القنبلة من طرف بحارة الإنزال، بدأت البارجة غاليلي وبعدها البارجة دي شايلا بقصف المدينة بقذائف «المنيليت» والقنابل التي التهمت الأحياء الشعبية، خصوصا حي «التناكر» وقتلت السكان الذين كانوا آمنين وعزل. واستمر القذف خلال يومي 6 و7 غشت، مع احتدام الصراع وكثرة القتلى ودخول فرسان الشاوية للانتقام من الغزاة. وفي يوم الأربعاء 7 غشت 1907، واصلت البارجتان البحريتان القصف المدمر، تمهيدا لنزول جيش الاحتلال بقيادة الجنرال درود رفقة 300 جندي، وإذا كان سكان الدارالبيضاء، في تلك اللحظة لا يتجاوزون ثلاثين ألف نسمة، فإن ما بين 6000 و15000مواطن استشهدوا، وفر معظم المتبقين إلى النواحي، كما اعتقل العديد من الثوار والمجاهدين الذين حوكم بعضهم بالإعدام الفوري والبعض الآخر بالسجن، ووضع ثوار آخرون في المعتقلات دون محاكمة ومن غير أن يعرف مصيرهم حتى الآن. كل هذا زاد من غضب الفلاحين بدليل أن الجنرال الفرنسي ظل محاصرا في الدارالبيضاء ومديونة لمدة ستة أشهر، إلى أن تم تغييره بالجنرال داماد. تسلم الجنرال داماد القيادة يوم خامس يناير 1908، وقد جاء لينفذ سياسة الاستعمار الفرنسي بأية وسيلة، فهو صاحب المنطاد الذي استعمله في عمليات التحرك والاستكشاف، وصاحب القتل بدون تمييز للأطفال والنساء والشيوخ وكل المدنيين وحرق الأراضي وتسميم المواشي ومياه الأنهار والآبار... كمحارب قذر. المدينة كادت أن تصبح مقبرة للغزاة إن عنف المقاومة الشعبية الأولى داخل المدينة، جعل قيادة جيش الاحتلال والسلطات القنصلية وقيادة الأسطول، يفكرون مليا في خطة لمجابهة الوضع بالدارالبيضاء. وقد تلخصت هذه الخطة في التظاهر بالتعامل مع المخزن، والاتفاق معه بغية تحييده عن المواجهة مع الغزاة، وذلك بضمان ولاء عم السلطان المولى الأمين عامل المدينة. وفي هذا الصدد يؤكد قائد الحملة الأميرال فيليبير : «إن عملنا بالدارالبيضاء ستكون له انعكاسات قوية على الاستعدادات المعادية للقبائل المحرضة على الحرب من قبل. وأخاف على قواتنا أن تواجه هجومات خطيرة، ولذلك فقد رأينا مع الجنرال درود والسيد مالبرتوي، أنه من الجوهري أن نتظاهر بالسير متفقين مع المخزن، وفي هذا المجال نضمن مساندة عم السلطان...» وبالرغم من تعاون جنود محلة المولى الأمين مع جيش الاحتلال، لأجل المحافظة على ما تبقى من الهيئة المخزنية بالمدينة، فقد حوصر الغزاة في خنادقهم عند مداخل المدينة، حيث اتخذوا مواقع دفاعية على شكل هلال يحيط بالمدينة، معتمدين على مدفعية الأسطول الراسي بالميناء، وعلى المدفعية الميدانية التي تمركزت فوق إحدى الدور. ولم يستطع الجنرال درود تحقيق أي تقدم طيلة ستة أشهر التي ظل محاصرا خلالها، مما دفعه إلى التظاهر بالمرض وتقديم استقالته. مذبحة السور الجديد بفعل القصف الوحشي المتواصل طيلة أيام على المدينة، عمد سكانها إلى الاحتماء بالسور الجديد حيث تواجدت «محلة» مولاي الأمين، تبعا لاتفاقه مع القنصل الفرنسي، بلجوء المدنيين من السكان إلى السور الجديد، وعندما تم تجميعهم هناك بجانب جموع المحلة السلطانية، صبت عليهم القذائف المحرقة، فحولت جمعهم إلى ركام من الجثث المفحمة، وصف ابن زيدان هذه المجزرة قائلا : «وفي عشية يوم الأربعاء 7 غشت، أطلقت الذارعتان الفرنسيتان قنابلهما على الملتجئين بالسور الجديد....»، وينضاف وصف الصحافي بوردون للحادث، (بوردون، أيام في الدارالبيضاء) : «إن ما وضحه لي من بعد-يقصد أحد المدنيين الفرنسيين الذي شارك في قتل الكثيرين من السكان- ويدعى ميرسي. إنها المجزرة الأكثر فظاعة والأكثر بشاعة...» يضيف الصحفي متأثرا بهول المجزرة : «...لا، لا لقد استيقظ قلبي ولن أبين مدى ذلك. هذا الجندي المخزني الذي فقد وجهه، وذو الفم المتورم الملتوي، الذي أزال له القصف ثلاثة أرباع رأسه. وهذه المرأة الحامل التي ولدت هناك وسط الرعب والفزع، وسقطت ميتة ورأسها محني إلى الأمام...». عندما تنكر «كومندو» الإنزال بلباس مدني وصلت البارجة «غاليلي» إلى الدارالبيضاء يوم 1 غشت على الساعة الثامنة صباحا. ومنذ وصولها شرع قائدها في الاستعداد لتنفيذ الهجوم، تبعا لما اتفق عليه مع «سان أولير» من القيام بانتقام عنيف يعيد هيبة فرنسا في أعين المغاربة». وتتأكد نوايا قائد البارجة، من التقرير الذي كتبه إلى أحد الدبلوماسيين بالمفوضية الفرنسية وهو «أوليفيي» بتاريخ 2 غشت 1907، حين قال: «لقد اتخذت الاستعدادات على ظهر الطراد «غاليلي» لإنزال فرقة متخصصة لاحتلال قنصليتنا –بالمدينة- وقنصليتين أجنبيتين إذا رغب في ذلك أصحابهما. إن القوات التي أتوفر عليها لا تسمح بأكثر من ذلك. وقد هيأت المدافع لقنبلة الشاطئ، كما غيرت مرسى باخرتين لفسح مجال رمي مدفعيتنا...»، التخوف نفسه من الإنزال العسكري تم تسجيله في المحضر الذي اتفق عليه قناصل المدينة مع الباشا بن بوزيد، الذي رفض أن يضمن نتائج الإنزال، وقد اشترط عليه نائب القنصل الفرنسي، ب»أن يقوم الباشا بإخلاء الطريق من القنصلية إلى باب المرسى من المغاربة، وألا يمنع من يريد المرور فيه من الفرنسيين، وأن تخلى السكة الحديدية بالمرسى من المغاربة». ومن جملة الاحتياطات السابقة التي اتخذها «كومندو الإنزال» نزول بعض من أفراده قبل يوم الإنزال بين 3 و4 غشت خفية، وبلباس مدني على هيئة سواح، كما أنزلوا معهم صناديق مليئة بالأسلحة والذخيرة كتب على ظهرها معلبات غذائية كما جاء به الصحافي (هويل، مغامراتي المغربية)، لتعزيز التحصينات بالقنصلية التي سوف تنفعهم في تحمل الحصار الذي ضرب على القنصلية لاحقا. قبائل الشاوية التي أبلت يوم 18 غشت في يوم 18 غشت عاود المغاربة هجومهم على المعسكر، في الساعات الأولى من الصباح. لكن المدفعية ردتهم، وعند طلوع الشمس، بعث الجنرال درود بسرية من الفرسان نحو التل الذي صدر منه الهجوم، وحالما ابتعدت تلك السرية عن المعسكر فاجأها الفرسان المغاربة بهجوم عنيف كادت تسحق خلاله، لولا النجدة السريعة التي بعثها الجنرال من المشاة والمدفعية، التي أبعدت المغاربة وأنقذت السرية المحاصرة، بعد تكبدها ل3 قتلى و12 جريحا بينهم قائد السرية. وفي تقرير استخباري عن الوضعية السياسية بالشاوية، صادر سنة 1907. نبه Huot مسؤول مخابرات جيش الاحتلال إلى حقيقة موقف المغاربة بالشاوية، قائلا:»إن تجمعات تادرت والحاج بوعزة وتيط مليل تبين بالفعل، وبوضوح أن النفوس محرضة جدا ضدنا، وبأن جمهور الشاوية يرغب في الحرب...إننا لا نوجد كما كان يعتقد البعض أمام بعض قطاع الطرق المنعزلين، أو بعض المجموعات من العصاة والمتمردين، ولكننا أمام تجمعات كبرى، من القبائل التي تبدي عداوة حقيقية تجاهنا». أرغم مقاتلو القبائل الذين تطوعوا من أولاد حريز وأولاد سي بن داود ومزاب والمذاكرة وأولاد زيان وأولاد سعيد وأولاد بوزيري، الجنرال درود مجددا على طلب الدعم من باريس. الدبلوماسية الفرنسية تحبك خيوط المؤامرة إن العقلية المسالمة للمخزن هي ما كان يحتاج إليه نائب الوزير رينيو «سان أولير» لترتيب مؤامرة تدمير مدينة الدارالبيضاء واحتلالها، وهكذا لم يقتنع الفرنسيون، بما قدمه المخزن من ترضيات بمناسبة مقتل العمال التسعة للسكة الحديدية. يؤكد ذلك ما جاء في رسالة من المكلف بالقنصلية الفرنسية بفاس مؤرخة في 4 غشت 1907 أرسلها إلى «سان أولير»، يخبره فيها بأن المخزن تلقى خبر حادث الدارالبيضاء، الذي أسف كثيرا لوقوعه وهو «مستعد لإعطاء جميع الترضيات الضرورية للحكومة ولعائلات القتلى...»، كما تخبر الرسالة نفسها بأن باشا المدينة سيعزل وسيتم استبداله بآخر أكثر قدرة على حفظ الأمن، وبأن أوامر سلطانية قد صدرت للنائب بطنجة لإرسال قوة للدار البيضاء، للقضاء على الاضطرابات وحماية الأجانب. وأن أوامر أخرى ستعطى لقواد القبائل لإلقاء القبض على المسؤولين عن الحادث. وأن جلالة السلطان يأمل أن «تقدر الحكومة الفرنسية هذه الإجراءات الفورية». لكن «سان أولير» سبق وأن تلقى تعليمات من رئيسه الوزير «رينيو» التي مفادها تجاهل ملتمسات المخزن، وعدم التدخل عنده لطلب موافقته، إلا بعد «حدوث الأمر الواقع» أي بعد التدخل المسلح في الدارالبيضاء (برقية من بيشون إلى سان أولير رقم 365 5 غشت 1907). المصطفى برنوسي *: فرنسا كانت تمسك بخناق المخزن وتؤمن بعدم قدرته على صد هجومها على البيضاء – تحدث لنا عن سياسة الذرائع التي اتخذتها فرنسا سبيلا لاحتلال الدارالبيضاء؟ هنا لابد من الكلام عن الأهداف، أما الذرائع فكلها صالحة لتبرير تحقيق تلك الأهداف. في حالة قنبلة الدارالبيضاء واحتلالها كانت ذريعة فرنسا الحادثة التي حصلت عندما اعترض أهل الشاوية على الأشغال الجارية بمرسى الدارالبيضاء، بعدما طالبوا بإيقافها وبطرد المراقب الفرنسي الذي صار يجلس إلى جانب أمناء المرسى، تنفيذا لشروط عقد قرض 1904. – كيف تطورت مشاعر العداء للفرنسيين وللأجانب عموما بالمدينة قبيل الحادث؟ لابد من التدقيق فمشاعر العداء تطورت بالخصوص تجاه الفرنسيين الذين تجلت أطماعهم الاستعمارية في البلاد بشكل سافر، وإن كان الفرنسيون قد حاولوا الترويج إلا أن مظاهر العداء كانت موجهة ضد الأجانب باختلاف جنسياتهم لتبين التدخل الفرنسي على أنه تدخل لحماية الأجانب بشكل عام. أما أسباب تنامي مشاعر العداء ضد الفرنسيين فتعود كما قلت إلى الأطماع الاستعمارية الفرنسية في المغرب. هذه الأطماع التي باتت فرنسا تترجمها على أرض الواقع منذ مدة. فكما تعلمون فرنسا كانت منذ أواخر القرن التاسع عشر قد قررت مد هيمنتها إلى المغرب لإكمال السيطرة على شمال إفريقيا، وحددت لتحقيق ذلك سياسة تقوم على شقين، الشق الأول وهو العمل على التغلغل السلمي بالمغرب بتنمية كل وسائل التأثير التي يمكن أن تحصل عليها. أما الشق الثاني فهو العمل على حل المسألة المغربية دوليا لإبعاد المنافسين، وذلك بالتفاهم مع الدول المعنية بالقضية المغربية. وبموازاة مع ذلك كله عملت على وضع خطط عسكرية للتدخل بسرعة في المغرب في حالة ما إذا طرأ طارئ يهدد الوضع القائم فيه. وقامت هذه الخطط على التدخل عبر محوري وجدةوالدارالبيضاء للوصول بسرعة إلى فاس. وكانت تعمل على تحيين هذه الخطط ارتباطا مع تطور الأوضاع. وبطبيعة الحال شرعت فرنسا في تنفيذ تلك السياسة بالضغط على الحدود وبتكبيل أيدي المخزن بما فرضته من شروط بمناسبة القرض الذي قدمته له سنة 1904. كما تفاهمت مع إنجلترا بمقتضى اتفاقية 1904 ومع إسبانيا وقبلهما إيطاليا. فباتت تعتبر أن الوقت حان للانقضاض على المغرب وفرض الوصاية عليه، وهذا ما حاولت القيام به من خلال برنامج إصلاحات يقوم بها المخزن تحت إشرافها قدمته له في مستهل سنة 1905. ولم يفشل هذا البرنامج إلا بتدخل ألمانيا وإعلانها مدافعة عن استقلال المغرب ووحدته. وأفضى هذا التدخل إلى عقد مؤتمر الجزيرة الخضراء للنظر في الإصلاحات الواجب إدخالها للمغرب، لكن نتائج المؤتمر كرست المكاسب الفرنسية بالمغرب. وزاد توقيع المخزن على ميثاق المؤتمر من حدة الاستياء لدى المغاربة، فتأجج غضبهم ضد الفرنسيين وأطماعهم وضد المخزن العاجز عن صدهم. فعمت الاضطرابات كل نواحي البلاد. ففي الشرق تعززت انتصارات بوحمارة وفي الشمال استمر الريسوني في عملياته ضد الأجانب وفي الجنوب ثار أهل مراكش وقتلوا الطبيب الفرنسي «موشان»، فاستغلتفرنسا الحادث واحتلت وجدة. وفي الدارالبيضاء ثار أهل الشاوية وتعرضوا للأشغال الجارية في المرسى فاتخذتها فرنسا ذريعة لقنبلة المدينة واحتلالها. على أي تزايدت حدة العداء لدى المغاربة الأجانب وبالخصوص ضد الفرنسيين الذين باتت أطماعهم معروفة. وتبين أحداث الدارالبيضاء بوضوح أن مشاعر العداء كانت ضد الفرنسيين أساسا. – غموض موقف المخزن طيلة أيام تدمير المدينة؟ فرنسا كانت تمسك بخناق المخزن وكانت مطمئنة إلى عدم قدرته على فعل أي شيء. والمخزن كانت تعوزه الوسائل، وكان يرى عدم جدوى المقاومة. ولم يكن بإمكانه في مثل هذه الظروف إلا الخضوع لسياسة الأمر الواقع التي فرضها التدخل العسكري. – كيف ساهم احتلال فرنسا للمدينة في حسم «المسألة المغربية» لصالح فرنسا؟ ربما تقصد كيف مهد احتلال الدارالبيضاء لفرض الحماية على المغرب؟ احتلال الدارالبيضاء والشاوية معها كان خطوة ضمن خطوات خطتها فرنسا قصد احتلال المغرب. وهي خطوة كبيرة فرضت أمرا واقعا كما سبق وحدث في الشرق مع احتلال وجدة. فرنسا كانت تعلن دائما أن احتلالها للمدينة احتلال مؤقت إلى حين الاستجابة لمطالبها ودفع المخزن غرامة تعويضا لها عن تدخلها العسكري، وتعويضا لضحايا الأحداث. ولم يكن في نيتها الانسحاب وإنما استعمال كل الأوراق للبحث عن مكاسب جديدة. – ما الدور الذي لعبته الدبلوماسية الفرنسية إبان الحادث؟ عمل قناصل فرنسا في المغرب على الترويج لقضية انعدام الأمن ليمهدوا السبيل أمام التدخل العسكري، ودفع حكومة بلادهم إلى اتخاذ تدابير عسكرية ضد المغرب. وفي الوقت ذاته عملت الآلة الدبلوماسية الفرنسية بعد حادثة المرسى على إخبار الحكومات الأجنبية بقرارها إرسال قوة بحرية وقوات إنزال إلى الدارالبيضاء بمشاركة إسبانيا، مبينة أن هذه القوات سوف تحتل المدينة وضواحيها، وتعيد النظام والأمن وتضمن حماية الرعايا الأجانب. – قامت البحرية العسكرية الفرنسية بارتكاب مجازر بالمدينة ألا يستحق ذلك اعتذارا تاريخيا عما وقع؟ مسألة الاعتذار هنا لا يمكن أن نعزلها عن الاستعمار بشكل عام. فمسألة قنبلة الدارالبيضاء واحتلالها ليست مسألة معزولة حتى نطالب بالاعتذار عنها بشكل منفرد. إن قضية الدارالبيضاء تدخل في إطار قضية الاستعمار، الذي تسبب في فظائع إنسانية لا حصر لها. وإذا كان هناك من اعتذار فيجب أن يكون عن الاستعمار ككل. - لماذا ركزت فرنسا على احتلال الدارالبيضاء حتى قبل توقيع الحماية سنة 1912 ؟ أشرت إلى أن فرنسا كانت قد أعدت منذ سنة 1900 خطة للتدخل العسكري في المغرب عبر محوري وجدةوالدارالبيضاء، وعملت على تحيين تلك الخطة ارتباطا مع تطور الأمور على أرض الواقع. وذلك في إطار برنامج للانقضاض على البلاد. ولذلك فإن تدخلها في الدارالبيضاء كان تنفيذا لهذا المخطط. والملاحظ أن التدخل كان عنيفا، بل يمكن القول إن فرنسا تعمدت أن يكون التدخل بالعنف الذي كان، حتى ترهب المغاربة وتجبرهم على الانصياع لأهدافها. * أستاذ جامعي أعد الملف - يوسف منصف