«اُنظروا إلى هذا الشعب البطل كم يُعاني وكم ْيُضحي في سبيل كرامته ووطنه ومقدساته، فكيف لي أن أشكو، إن سعادتي في أن أتحمل في هذا المبنى (المقاطعة) شيئا ولو يسيرا مما يُعانيه شعبي، هذا الشعب الذي شرّفني بقيادته وأكرمني بتمثيله. إن هنالك الكثيرين ممن يطالبونني بالاستسلام، لكنني لن أفعل ذلك وأنا أرى شعبي على ما هو عليه من الإصرار على الحق والتحدي للغطرسة الإسرائيلية... فكيف لي ألا أكون مع شعبي في خياره...»، إنها كلمات أخيرة للراحل الرئيس ياسر عرفات التي عاش لأجلها واستشهد في سبيلها، وها نحن الآن نُردّدها في ذكرى استشهاده التاسعة وفي ظلّ المناخات التي تفرضها معطيات التحقيق الدولي الروسي السويسري التي أكدت أن سبب وفاة الرئيس لم يكن سوى بفعل السّم الإشعاعي لمادة البولونيوم الذي لا تمتلكه دولة في المنطقة سوى «إسرائيل»... فبعد أن صدر التقرير الطبي حول استشهاد الرئيس الراحل ياسر عرفات والذي يؤكد وفاته بفعل مادة «البولونيوم» القاتلة، تحقق ما جاء على لسانه كأمنية طالما انتظرها وينتظرها أي مواطن فلسطيني في الأرض المحتلة ألا وهي الشهادة في سبيل الوطن الذي طالما حلم به وأنار له غرفته التي امتلأت بأضواء الشموع في لحظات ملحمية (يريدونني أسيرا أو طريدا أو قتيلا، وأنا أقول لهم شهيدا شهيدا شهيدا). إنه تقرير رسمي حقيقي يكشف لنا الآن وبشكل قاطع مسؤولية الكيان الإسرائيلي عن اغتيال الشهيد ياسر عرفات، تقرير يأتي ليعري ما تبقى من الوجوه العارية ويحرج من جديد أقزام أحضان الدنيا الزائفة بلا أحلام سوى أحلام الجسد وبلا طموح سوى طموح الشهوة واللذة...، تقرير يأتي ليطرح العديد من التساؤلات: ماذا فعل العالم بعدما رحل عرفات وزالت العقبة كما زعموا؟!! ماذا قدم العرب والمسلمون، الذين أحرجهم عرفات كثيرا في حياته، إلى القضية الفلسطينية وهم يرونه يقود شعبه من خلال «علبة» المقاطعة المحطمة ومن وراء أكياس الرمل التي ملأت مداخل مكتبه خوفا من اقتحام إسرائيلي مفاجئ..؟!! سنوات عجاف أثبتت بشكل قاطع أن أمريكا وإسرائيل لا تريدان شريكا لسلام حقيقي وإنما «عميلا» يخدم مصالحهما وينحرْ القضية الفلسطينية من الوريد إلى الوريد باسم الشعب الفلسطيني ونيابة عنهم؛ فعرفات لم يكن المشكلة، ولكن الحقيقة أن كل فلسطيني يقف على رأس الهرم السياسي الفلسطيني ويصّر على الحقوق والأماني والآمال والثوابت الفلسطينية سيشكل، هو أيضا، مشكلة يجب أن تُزال وقد يتساوى في ذلك عباس وهنيه ومن يأتي وراءهم دون احتساب حدود المكان والزمان... فلماذا، إذن، فتح هذا الملف الآن فقط؟ أمِن أجل معرفة القاتل الحقيقي لياسر عرفات أم من أجل زيادة التشكيك داخل المجتمع الفلسطيني وزيادة اللغط وتوسيع الهوة بين الصفوف القيادية التي سيحمل أحدها المسؤولية ويشكّل كبش الفداء لإثبات براءة (إسرائيل) وقياداتها من هذا الجرم الكبير؟ وهل سيشكّل المجتمع الدولي محكمة خاصة للتحقيق في ملف اغتيال عرفات كما فعلت سابقا بخصوص ملف رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري..؟ وهل زوال ياسر عرفات، الذي وصف بكونه عقبة أمام عملية السلام والمفاوضات، حقق السلام؛ وبالتالي، هل تمكنت «إسرائيل» من العثور على الفلسطيني الذي يقبل بشروطها في ما يسمى بالسلام ووجدت الفلسطيني الذي يفرط في الثوابت التي تمسك بها ياسر عرفات؟ أسئلة كثيرة تطرح هنا بعد أن ثبت، وبالدليل القاطع، اغتيال «إسرائيل» للراحل ياسر عرفات، أسئلة وأخرى تحتم علينا وضع إجابات عنها حتى تتضح الصورة وتتجلّى معالم الغموض فيها، كالتالي: أولا: لا بد لنا كفلسطينيين أن نعترف بأن طي ملف اغتيال ياسر عرفات وعدم الخوض فيه كان، دون شك، مصلحة مشتركة عند البعض؛ وأن فتحه اليوم يؤكد، أيضا، وجود نفس المصالح للبعيد والقريب على حد سواء، نتيجة كون ملف عرفات لم يخل من إثارة حتى بعد وفاته، وهو شيء يعيد، بعد تسع سنوات، حالة القلق والخوف والرعب للأصدقاء والأعداء، لأن جريمة بهذا الحجم لا يمكنها أن ترتكب وتنجح إلا من خلال منظومة من الأدوات التي على رأسها الصمت والسماح بالتنفيذ وغض النظر عن ملاحقة الجناة وتبديد الشكوك حول حالة الوفاة والتجاهل الطويل للقضية، خاصة وأن أداة التنفيذ لم تأت إلا عن طريق الطعام (سائل حقن) الذي كان عرفات حريصا على عدم تناوله إلا شخصيا ومعلبا فقط. ثانيا: إنّ الاتجاه الفلسطيني الرسمي لتحميل العدو الصهيوني مسؤولية اغتيال ياسر عرفات هو اتجاه صحيح، ولكن الاتجاه يبقى منقوصا إذا لم تتخذ الإجراءات القانونية ضد منفذ عملية الاغتيال. وإذا كانت لدى أحد إجابة أخرى فليجبنا قبل ذلك عن سبب تقاعس الجهات الفلسطينية المنوط بها تحمل مسؤوليتها بالكشف عن الفلسطيني، منفذ عملية الاغتيال؟ ولماذا تتهرب كل المستويات الفلسطينية من السير في هذا الاتجاه؟ وأين اللجنة المركزية والمجلس الثوري لحركة فتح من كل هذا وذاك؟ ولماذا لم يتخذ المؤتمر العام السادس للحركة قرارا جادا ومسؤولا في هذه القضية؛ كما أن كلا من الحكومات الفلسطينية المتعاقبة منذ اغتيال ياسر عرفات وحتى يومنا هذا تتحمل المسؤولية عن عدم الكشف عن الفاعل الفلسطيني بكل أجهزتها ومسؤوليها دون استثناء.. ثالثا: إن عدم التحرك الفلسطيني في اتجاه التحقيق في جريمة اغتيال ياسر عرفات منذ اللحظات الأولى لظهور الشّك في وجود جريمة اغتيال، يضعنا أمام سؤال كبير، يحتاج إلى جرأة أكبر، وهو: من الفلسطيني صاحب المصلحة الحقيقية في التخلص من ياسر عرفات لذا أراد أوسلو وسيلة للوصول إلى الحقوق الفلسطينية، بينما أراده البعض الفلسطيني هدفا لا يمكن تجاوزه، فكان الاختلاف الذي جعل ياسر عرفات عقبة في تنفيذ المخطط الصهيوني على الأرض، وبدؤوا في تضييق الخناق عليه (داخليا وخارجيا) ابتداء بتعيين رئيس حكومة، ومرورا بقضية كنيسة المهد وأحمد سعدات وانتهاء برفضه للتنازلات التي طالبه بها الجانب الإسرائيلي في المراحل النهائية للمفاوضات والتي كانت تحتّم التنازل عن القدس والأسرى واللاجئين حتى وجد نفسه في مقاطعته الصغيرة المحاصرة بعد أن عزّز نفسه بشعار الحياة الدائم: «عالقدس رايحين شهادء بالملايين»، تلك الملايين التي كانت تهتف باسمه في ظل رفضه المطلق مغادرة مقاطعته ومغادرة فلسطين بعد أن علم يقينا بنهايته وخرج إلى الجميع يقول: «لقد تمكنّوا مني»، في إشارة واضحة، ربما، إلى معرفته للشخص الذي قام بدسّ السّم له دون أن يستطيع النطق باسمه حفاظا على وحدة الصف الفلسطيني ربما أو لغاية في نفس يعقوب. لكن، إذا كان كل هذا مجرد تخمينات وتوقعات، فإن الأكيد أن عرفات استشهد بالسّم، وبالتالي سيبقى الكل مسؤولا عن مقتله حتى يتم الكشف عن الجاني الحقيقي. رابعا: يجب أن تتحمل القيادة الفلسطينية مسؤوليتها بكل صدق وشفافية وتتوجه الآن إلى المجتمع الدولي وهيئاته المختصة لمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائليين على هذه الجريمة الكبرى بعد أن اغتالت الحلم الفلسطيني والأمل القادم لإقامة الدولة الفلسطينية التي لا جديد في مفاوضاتها السلمية بعد اغتيال عرفات الذي طالما تبجّجت وتحجّجت القيادات الإسرائيلية بأنه ليس شريكا للسلام، فأين السلام الآن بعد تسع سنوات على اغتياله، وما الجديد الذي حققته الإدارة الفلسطينية بقيادة محمود عباس سوى المزيد من التنازلات والمزيد من الاستيطان والمزيد من الانقسام الداخلي للصف الفلسطيني/الفلسطيني الذي طالما حرص عرفات على وحدته ولمّ شمله وبناء أسسه ومرتكزاته بكل ما أوتي من قوة وحدس سياسي كبير؟ خامسا: يجب تحميل الدولة الفرنسية مسؤوليتها في المشاركة والمساهمة في عملية اغتيال الرئيس عرفات، وهذا لا يعني أننا نتآمر على الدولة الفرنسية، لكن الحقيقة يجب أن توضّح للجميع، خاصة وأن فرنسا كانت تعلم جيدا بتسميم عرفات بالبولونيوم منذ لحظات وصوله إلى المستشفى العسكري (بيرسي) هناك، فالفحوصات الطبية التي أجريت أكدت لهم إصابته بتسمّم قاتل، لكنها تذرعت سريعا بأن السبب لا يزال غامضا وأنها أتلفت العينات، وهذا مخالف لأبسط القواعد الطبية والقانونية التي تسهر فرنسا على حمايتها وتكريسها، أمام أنظار المجتمع الدولي؛ فلماذا إذن تجاهلت تلك الحقوق في حالة الرئيس عرفات لو لم تكن مشاركة في ذلك؟ سادسا: إن «إسرائيل»، التي لازالت تنفي مسؤوليتها عن مقتل عرفات، تعترف دائما بمسؤوليتها عن اغتيال العديد من الشخصيات الوطنية الفلسطينية والعربية بالطريقة ذاتها والسمّ نفسه، فلم تخف ضلوعها في اغتيال وديع حداد ومحاولة اغتيال خالد مشعل الذي نجا منها بأعجوبة كبرى بعد تدخل الملك الأردني الراحل الحسين بن طلال، الذي أمسك بالخلية الإسرائيلية التي نفذت العملية ومساومته «إسرائيل» على تزويده بالمصل مقابل الإفراج عن أعضاء الخلية، وبالتالي يجب تفجير المفاوضات الجارية في منتصف الطريق حتى لا تضرب (إسرائيل) «كما هي عادتها» بتلك التقارير عرض الحائط وتتجاهل مقرّرات الشرعية الدولية وتتمادى من جديد في تهديدها للأمن والسلم العالميين وتتمكن، بالتالي، من التصرف وكأنها فوق القانون الدولي؟ وفي النهاية نقول: يجب على السلطة الفلسطينية وأجهزتها العمل، وبشكل فوري، على الكشف عن اليد المنفذة، أيا كانت، وأيا كان من يقف معها أو كان على علم بها، حتى لا يضيع الدم الفلسطيني بشكل عام ودم الرئيس الراحل عرفات دون ثمن ودون تحقيق محاكمة عادلة له، وبالتالي لا يجب أن تمر الجريمة مرور الكرام أو ينام ملفها لسنوات عجاف أخرى في مكاتب ودهاليز المماطلة والمعادلات السياسية والمصالح الفردية والجماعية، خاصة وأن القضية قد بدأت بأخذ زخم كاف لإيصالها إلى نهايتها العادلة واللائقة بمركز الشهيد ياسر عرفات والشعب الفلسطيني الذي طالما هدر دمه دون ثمن؛ فالراحل ياسر لا يزال ينتظر قاتله، إن عرفات يحاكمنا في ذكرى رحيله التاسعة ويشير إلينا بإصبع التقصير ويطالبنا جميعا، قيادات رسمية وفصائلية وأهلية، بملاحقة القتلة أينما كانوا، وأيا كانت صفاتهم ومسمياتهم، لأن اغتياله استهدف اغتيال القضية وتصفية الوطنية الفلسطينية، وبالتالي تصفية خيار السلام المرتكز على حلّ الدولتين على حدود الرابع من يونيو عام 1967، كما أن الصمت على مرتكبي الجريمة النكراء يعني منح القتلة الضوء الأخضر لاغتيال رئيس الشرعية الفلسطينية وكل قائد وطني يدافع عن الحقوق الوطنية، ولاسيما أن (إسرائيل) بكل مكوناتها الحزبية الصهيونية لا تقبل القسمة على خيار السلام ومنح الشعب العربي الفلسطيني الحد الأدنى من حقوقه السياسية -المتمثلة في إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية، وضمان حق العودة للاجئين الفلسطينيين على أساس القرار الدولي 194- وعلى خيارها القاضي بمواصلة الاستعمار الاستيطاني في الأراضي المحتلة عام 67. معادي أسعد صوالحة