من الممكن أن تكون هناك ملفات لها ارتباط أو علاقة بفتح الحدود، لكن أغلب القضايا المطروحة، بما فيها الخلاف المغربي الجزائري حول قضية الصحراء، ليست ذات تأثير مباشر على قضية الحدود مرت الذكرى العشرون لتأسيس اتحاد المغرب العربي دون أن يُفرد لها ما تستحق من مناشط ولقاءات وندوات للتقييم والمساءلة ومطارحة الآفاق. لقد كان حجم الاحتفاء بالذكرى محدوداً رغم بعض الملتقيات التي نُظمت هنا وهناك، وبعض المقالات التي تناولت الموضوع، والتي حملت طعم المرارة بسبب المآل البئيس لحلم الوحدة المغاربية. ولعل من أبرز الفعاليات التي أُقيمت تخليدا للذكرى، الندوة التي احتضنها القطر التونسي الشقيق بالمناسبة. لقد تم بمراكش في 17 فبراير 1989 توقيع المعاهدة التي أُنشئ بموجبها اتحاد المغرب العربي الذي يضم كلا من المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريطانيا، في ظرفية دولية تتسم بنظام عالمي جديد لا يعترف إلا بالأقوياء، وأمام عولمة تفرض قيام تكتلات جهوية لمواجهتها، فالدولة الواحدة -خاصة إذا كانت مواردها وإمكاناتها محدودة- عاجزة عن كسب رهان العولمة بمفردها. إن التكتل الجهوي لم يعد مجرد تعبير عن حاجة عاطفية، بل أصبح ضرورة من ضرورات العيش في حاضر معولم، ووجها من أوجه صياغة الجواب الملائم على السؤال الذي تطرحه العولمة على مختلف البلدان. فهذه الأخيرة مطالبة بتعميم الثقافة المعلوماتية على مواطنيها ومؤسساتها، وتوفير دورة مالية ملائمة، وحد أدنى من شروط العيش الكريم، والاندراج ضمن أوسع إطار جغرافي ممكن لتعبئة أكثر ما يمكن من الطاقات والإمكانات. وقبل أن تضع حرب التحرير بمنطقتنا أوزارها، أدرك القادة الوطنيون أهمية الشروع في وضع أسس الوحدة المغاربية، فكان مؤتمر طنجة في 27 أبريل 1958 الذي جمع الأحزاب الوطنية في المغرب والجزائر وتونس، ترجمة لهذا الوعي المغاربي الوحدوي. فبالإضافة إلى تأكيد المؤتمر على دعم نضال الأشقاء في الجزائر من أجل الانعتاق من ربقة الاستعمار وتكوين الحكومة الجزائرية، عمل المؤتمر على وضع اللبنات الأولى لصياغة الإطار الوحدوي المغاربي، ودعا مثلاً إلى قيام مؤسسة برلمانية مغاربية. والإطار المغاربي لم يمثل في يوم من الأيام بالنسبة إلى الحركة الوطنية المغاربية نهاية مطاف المسار الوحدوي، بل مثل ذلك الإطار خطوة على طريق الوحدة العربية، وربما على طريق وحدة أوسع. وهناك من يتساءل عن مصير الوحدة المغاربية، مقارنة بالوحدة الأوروبية، انطلاقاً من كون فكرة الوحدتين معا انطلقتا من حدثين بارزين متقاربين زمنيا، فمؤتمر طنجة انعقد في 1958 ومعاهدة روما وُقعت في 25 مارس 1957، وهي عملياً عبارة عن معاهدتين، الأولى تؤسس للمجموعة الأوروبية، والثانية تؤسس للمجموعة الأوروبية للطاقة النووية، والمعاهدتان دخلتا معاً حيز التطبيق في فاتح يناير 1958، وتمثلان تشخيصا للميلاد الرمزي للاتحاد الأوروبي، لذلك تم الاحتفال بذكرى مرور نصف قرن على هذا الحدث من خلال تظاهرات تردد صداها في أوروبا برمتها. فما الذي جعل المسار الوحدوي المغاربي يتعثر ويُجهض، والمسار الوحدوي الأوربي يتقدم وينجح؟ أوروبا انتقلت إلى تأسيس اتحاد يضم اليوم 27 دولة، وفق نمط خاص ليس له نظير فيما سبق، وجعلت منه اتحادا جمركيا، كما أنشأت برلمانا أوروبيا، ولجنة أوروبية، ومجلسا للاتحاد الأوروبي، ومحكمة للعدل ومحكمة للحسابات، ومجلسا أوروبيا، ومجلسا اقتصاديا واجتماعيا، وبنكا مركزيا، وبنكا للاستثمار، ووسيطا أوروبيا، ومنطقة للأورو تعتمد عملة موحدة بين عدة بلدان، وكل هذه المؤسسات تشتغل بشكل جيد. هذا، رغم أن الجيران الأوروبيين يعرفون تعدداً ثقافيا وإثنيا، وعاشوا تاريخاً من الحروب بينهم، ويتحدثون بلغات مختلفة، بينما نحن في الضفة الأخرى نتحدث لغة واحدة مشتركة بين كافة شعوبنا، بالإضافة إلى اللغة الأمازيغية ولغات أو لهجات أخرى، ويجمعنا الشعور المتقد بهوية موحدة يحركها التراث الثقافي والديني والنضال المشترك ضد مستعمر واحد بالنسبة إلى أغلب شعوب منطقتنا، كما نتوفر على مقومات التكامل الاقتصادي، ومع ذلك لم نحقق أي مكتسب جوهري يجسد الروح المفترضة لفكرة الاتحاد التي انبلج صبحها منذ نصف قرن على الأقل. فرغم وجود 37 اتفاقا، فإن حجم التجارة المغاربية الداخلية لا يتعدى 5 إلى 6٪ من مبادلات دول المنطقة، بينما تحقق هذه الدول حجم معاملات مع الاتحاد الأوروبي يصل إلى 80٪ من مبادلاتها. إن منطقة المغرب العربي تضم اليوم 90 مليون نسمة، وبها 75٪ من الاحتياطي العالمي للفوسفاط، ونسباً مهمة من الاحتياطي العالمي للبترول والغاز الطبيعي، ومع ذلك فإنها قد تواجه غدا مشاكل معقدة ناجمة عن التقلبات المناخية وندرة المياه، وتهديدات جدية لأمنها الغذائي. وعوض أن نمضي إلى الأمام في طريق الوحدة، نتراجع إلى الوراء، فها هي الحدود بين الجزائر والمغرب مقفلة منذ 1994. وإذا كانت المبادرة التي باشرتها السلطات المغربية العليا من خلال دعوة الجارة الجزائر إلى فتح الحدود تعتبر إيجابية، فإن الرد الجزائري كان غريباً، إذ انبنى على ضرورة التصفية المسبقة لكافة الملفات العالقة قبل فتح الحدود. من الممكن أن تكون هناك ملفات لها ارتباط أو علاقة بفتح الحدود، لكن أغلب القضايا المطروحة، بما فيها الخلاف المغربي الجزائري حول قضية الصحراء، ليست ذات تأثير مباشر على قضية الحدود، ويمكن فتحها من جهة، والسعي إلى إيجاد حلول في المستقبل، فالملفان قابلان للفصل بينهما ولاشيء يفرض موضوعياً وجود ارتباط حتمي بينهما، إلا أن يكون هناك شعور بأن فتح الحدود فيه فائدة لأحد الطرفين فقط، ولهذا يسعى الطرف الآخر إلى منع حصول هذه الفائدة ما لم يتحقق له ما يريده بصدد ملف الصحراء، أي أن هناك ربما إرادة لفرض الأمر الواقع. ومن الضروري التنبيه هنا مثلاً، إلى أن كل «الملفات العالقة» لم تمنع التعاون الأمني بين البلدين من أن يبلغ درجة متقدمة، وهذا يعني أن مواصلة الإصرار على إغلاق الحدود من جانب أشقائنا الجزائريين ربما يمثل نوعاً من العقاب الجماعي الموجه إلى المغرب، لأنه لا يشاطر هؤلاء الأشقاء الرأي في طريقة حل ملف واحد وأوحد هو ملف الصحراء. ولهذا ربما حان الوقت لقيام ممثلي تعبيرات المجتمع المختلفة في البلدين بمبادرة رمزية لإنهاء هذا الوضع الشاذ المتمثل في إغلاق الحدود، عبر مسيرات شعبية تضم المثقفين ورموز المجتمع المدني والمنظمات النقابية والسياسية والحقوقية والشبابية، وتتوجه إلى الحدود رافعة علمي البلدين، لتعقد تجمعات في وقت واحد، تطالب بفتح الحدود وتدعو إلى بناء الديمقراطية واستئناف المسيرة المطلوبة لبلوغ وحدة بلداننا المغاربية. إن هناك تقديراً عاماً لدى المحللين والمهتمين بالشأن المغاربي، مفاده أن الخلاف المغربي الجزائري حول قضية الصحراء يمثل أحد أبرز المصاعب التي تقف عائقاً في وجه إنجاز الوحدة المغاربية، وهذا صحيح، إلا أنه لا يجب أن يحجب عنا بعداً آخر للمشكل، وهو ما يمكن أن نصطلح عليه بغياب «التجانس الديمقراطي» لبلدان المنطقة. فقضية الصحراء، هي أحد رواسب حقبة كان القادة الجزائريون فيها مسكونين ربما بحلم السيطرة الإقليمية، في ظل سياق تبوأت فيه الجزائر مكانة رفيعة في الحلبة الدولية كقائدة للعالم الثالث ورائدة إنجازات ثورية واشتراكية، ومالكة لرصيد رمزي ومادي يسمح لها ببناء قاعدة اقتصادية جبارة ومؤسسات دولة قوية قادرة على جر بقية بلدان المنطقة إلى حضنها. كانت النظرية البومديانية تنطلق من خلفية أن الجزائر ستقطع أشواطاً تجعل الآخرين يشعرون بالحاجة إليها ويدورون في فلكها. إلا أن ذلك تبخر بفعل استشراء الفساد في دواليب الدولة الجزائرية، وتسلط العسكراتية، وفشل بعض البرامج التنموية والأوراش الكبرى، وقيام الحرب الأهلية، والوهن الذي دب في أوصال جبهة التحرير، فلم تعد تمثل صورة حركة تحرير نموذجية، تحوز جدارة تاريخية بالزعامة الإقليمية، كما أن التحولات التي طرأت على الصعيد الدولي أفقدت الدور الجزائري الدولي جزءاً أساسياً من بريقه ووهجه. لقد تغيرت نظرة الآخرين إلينا، فبينما كانوا يخشون في الضفة الأخرى للبحيرة المتوسطية آثار وحدتنا المغاربية، أصبحوا اليوم يلحون علينا في بناء تلك الوحدة ويقدمون تحفيزات وتشجيعات عليها، ويعتبرونها ضرورية لحل عدد من المشاكل المتوسطية، ويريدون أن تظهر دولنا في صورة مخاطب واحد، منسجم في رؤيته وفي صيغ وعيه بمصالحه وفي رسم دفتر مطالبه. وعلى العموم، يمكن القول بأن تجربة الاتحاد الأوروبي اليوم تبين بالملموس مدى التأثير الجوهري الذي يلعبه التجانس الديمقراطي لبلدان منطقة جغرافية ما في مسلسل الوحدة بين تلك البلدان. هناك في الماضي وحدات قامت على القوة والقهر والاستيعاب والإلحاق، وفرض فيها طرف واحد قانونه على الآخرين، وحدد لهم مصيره، وهناك في الحاضر «تجارب وحدوية» أملتها إرادة حكام مستبدين في أكثر من بلد، أخضعوا شعوبهم لتصورات وحدوية لم تنبثق من الإرادة الحرة لتلك الشعوب، ولم تكن ثمرة وعي جماعي ومساهمة جماهيرية في تشييد صرح الوحدة ووضع أركانها، إلا أن مثل هذه التجارب معرضة في أية لحظة للانهيار والسقوط. فبدون دولة المؤسسات، لا يمكن ضمان الحد المطلوب من الاستقرار، بالإضافة إلى أن الوحدة بين بلدان تغيب فيها الديمقراطية، لا يمكن أن تمضي بعيداً ولا أن تحفر عميقاً في التربة. إن المثال الأوروبي الماثل حالياً أمام أعيننا، يقدم لنا الوحدة بين بلدان متعددة في صورة بناء من طبقات متعددة، فلا يمكن إضافة أية طبقة إلى البناء إلا إذا كانت منسجمة مع المواصفات الهندسية للطبقة التي سبق بناؤها من قبل، ويعني ذلك أن نعتمد في بناء الطبقة الثانية على نفس أعمدة الطبقة الأولى ونفس مساحاتها ونفس نقط الماء فيها... إلخ، وذلك حتى يستقيم البناء. إن هذا الانسجام والتناغم بين طبقات البناء الواحد، هو ما يجب أن يتوفر في أنظمة البلدان التي تخضع للوحدة، فيتعين أن يستوفي كل نظام شروط وآليات الديمقراطية حتى تُكلل الوحدة بالسداد والنجاح وتضمن لنفسها الرسوخ والاستمرار. إن هذا التجانس الديمقراطي هو الغائب في حالة منطقتنا المغاربية. والوحدة التي تجري في ظل هذا التجانس هي وحدة : - يكون منطلقها هو الاستفتاء الحر، فتصادق الشعوب على معاهدة الوحدة بعد نقاش في الساحة العامة يستعرض كافة إيجابياتها ومتطلباتها وتوابعها، وتصبح الشعوب طرفاً أصليا يتحمل التزامات التعاقد بوعي وإرادة. - يكون فيها برلمان الوحدة جهازاً منبثقا من شعوب البلدان المنضوية تحت لواء الوحدة، ذا اختصاصات واضحة، ويعتبر نفسه قناة تمر عبرها تمظهرات الإرادة العامة للشعوب، يثق في نفسه وفي صلاحياته، ولا تصطدم مهمته في التشريع بتسلط السلطة التنفيذية وتراميها على اختصاصاته. - يكون فيها الجهاز القضائي للوحدة كيانا مشكلا من قضاة مستقلين، يعملون نظرهم الخاص وقناعتهم الوجدانية في الرجوع إلى قوانين الوحدة وتأويلها وإصدار أحكامهم بطمأنينة وأمان. - تكون فيها الحكومات التي تتألف منها المؤسسة التنفيذية الموحدة، هيأة مسؤولة أمام شعوبها، ومرتبطة بحكم صناديق الاقتراع، تتعرض للرقابة، وتخضع لتبعات فصل السلط، ولضوابط دولة القانون، لا دولة الأشخاص والأهواء. - يكون فيها قضاة الحسابات حماة للمال العام، لا ينصاعون لتدخلات ولا يخضعون للحسابات السياسية التي قد تفضي إلى التغاضي عن مستلزمات الحكامة خدمة لتلك الحسابات. فكيف ينجح الرهان الوحدوي في بلداننا المغاربية في غياب التجانس الديمقراطي لأنظمتنا؟