في ظل ضعف التواصل بين ممثلي المهندسين ومحيطهم يظل مشروع الهيئة لدى العديدين من الأمور التي يحسن اجتناب الخوض فيها منذ ما يناهز السنتين أصبح مطلب هيئة المهندسين بالمغرب من المطالب الأساسية التي يرفعها مهندسو المغرب بمختلف تلاوينهم وانتماءاتهم وتوجهاتهم. ولعل عقد المؤتمر التأسيسي للنقابة الوطنية للمهندسين تحت شعار: «نقابة وطنية في أفق هيئة وطنية» من اللحظات المفصلية التي تؤشر على الأهمية البالغة التي أضحى يضطلع بها موضوع هيئة المهندسين. تاريخيا، عرف تطور مهنة الهندسة بالمغرب تطورات عدة ابتداء بالمهندس الفلاحي كأولى المهن الهندسية الحديثة التي عرفها مغرب الحماية، مرورا بعصر أو فترة المهندسين المدنيين، وصولا إلى العقود الأخيرة التي عرفت تزايدا مضطردا لتخصصات أخرى كالهندسة الكهربائية والميكانيكية والمعلوماتية وغيرها. وعلى امتداد هذه المراحل شكل معيار الانتقاء المدقق أساس التوجيه للمهن الهندسية، انطلاقا من الطلبة المتفوقين في الشعب العلمية خاصة الرياضيات والفيزياء. فمنذ تأسيس المدرسة المحمدية للمهندسين سنة 1959 بالرباط كأول معاهد الهندسة بمغرب الاستقلال كان عنصر الجودة دوما عنصرا أساسيا في عملية التوجيه والانتقاء. بجانب هذه الجوانب المتعلقة بالاختصاص والتكوين، عرف الجانب المتعلق بالتنظيم المهني تطورا فاترا ومحتشما، لم يحقق الشروط الضرورية لإفراز وخلق إطار قانوني ينظم المهنة الهندسية ويسهر على حمايتها وعلى رعاية مصالح المهندسين؛ فباستثناء إنشاء هيئة المساحين سنة 1996، والتي أنقذت هذه المهنة من التردي والعشوائية، لم تستطع الأغلبية العظمى من المهندسين خلق هيئتها الوطنية بالرغم مما يتيحه هذا الإطار من إمكانيات لتحسين وتنظيم وتطوير ممارسة المهنة. في هذا الإطار يمكن التمييز بين ظروف ذاتية وأخرى موضوعية أسهمت مجتمعة في الحيلولة دون تكوين الهيئة. فمن الناحية الذاتية، هناك تشتت المهندسين بين العديد من التخصصات والعديد من القطاعات، فعلى سبيل المثال نجد المهندس المدني إطارا في إدارة عمومية أو أجيرا في شركة خاصة، كما يمكنه أن يكون صاحب مكتب للدراسات. وهو الشيء نفسه الذي يتكرر بالنسبة إلى بقية التخصصات. هذا التنوع يعقد بلورة فكرة الهيئة ويجعل من مسألة البحث عن القواسم المشتركة عملية في غاية التعقيد. أضف إلى ذلك عدم تبني مشروع الهيئة من طرف بعض النخب الهندسية النافذة، وذلك لأسباب عديدة ومتنوعة، إلا أنه يمكن إجمالا أن نخلص إلى انعدام الرغبة لدى المهندسين «المسؤولين» للاهتمام بمستقبل مهنتهم الأصلية. هذا في الشق الذاتي/الداخلي لجسم المهندسين، أما الشق الموضوعي/الخارجي فيمكن أن نجمله في غياب الإرادة السياسية في تقنين المهن الهندسية سواء لدى الدولة أو لدى الأحزاب السياسية. ففي ظل عدم وضوح الانعكاسات المفترضة لخلق الهيئة وفي ظل ضعف التواصل بين ممثلي المهندسين ومحيطهم، يظل مشروع الهيئة لدى العديدين من الأمور التي يحسن اجتناب الخوض فيها. إلا أنه بالرغم من استمرار الأسباب والمعيقات سالفة الذكر، فإن ذلك لم يمنع من ارتفاع الوعي لدى عموم المهندسين بأهمية وضرورة إنشاء إطار تنظيمي يشرف قانونيا على المهنة الهندسية يكون من بين مهامه: السهر على سير ممارسة المهنة الهندسية واحترام أخلاقيات المهنة; تنظيم القطاع الهندسي والإشراف على منح تراخيص الممارسة واشتراط القيد في سجل الهيئة قبل ممارسة المهنة; تولي مخاطبة السلطات العمومية باسم المهندسين; المشاركة في الإشراف على برامج التكوين والتكوين المستمر لضمان جودة التكوين الهندسي; إلى غير ذلك من الأدوار التي تضمن حقوق المهندسين من جهة، ولكن أيضا حقوق المتعاملين معهم والمستفيدين من خدماتهم من جهة أخرى. لبلوغ هذا الهدف يتعين على المهندسين ألا يكرروا نفس أخطاء الماضي بالانصراف إلى معارك هامشية تخدم مصالح جهات عديدة لكن حتما لا تخدم مصلحة المهندسين. ولعله من بين أخطر ما يمكن أن يشتت جهود المهندسين ويبدد أحلامهم وطموحاتهم هو دخولهم في صراعات داخلية عقيمة، ذلك أن مشروع الهيئة يتطلب تضافر مجهودات جميع الفاعلين الهندسيين كل من موقعه في اتجاه الهدف الأسمى والأهم الذي يوحد الجميع. في هذا الإطار يجب التفكير جديا في تنظيم مناظرة وطنية أو يوم دراسي حول موضوع وحيد هو موضوع الهيئة، يكون البداية العملية والفعلية لمسار إنشائها. في انتظار ذلك تظل الهندسة رهينة العبث والارتجال، ولعل مبادرة تخريج «10000 مهندس» أو «ما شابه» سنويا، وما يصاحبها من نقص في المكونين وخصاص فادح في الوسائل لهو خير دليل على غموض مستقبل التكوين الهندسي وإغراقه بدوره في الأزمة العامة التي يعرفها قطاع التكوين. وكل ذلك يصبح نتيجة طبيعية لأن التداول في مستقبل المهنة يصاغ بمعزل تام عن المعنيين بالأمر وفي ظل فراغ قانوني فادح لهيئة وطنية تمثلهم. فكم من الوقت مازال يلزمنا لإنشاء الهيئة ووقف النزيف؟