حتى وإن اختلفت التسميات ما بين النكبة والكارثة والأضرار، يبقى شيء واحد غير مختلف بشأنه وهو أن واقع الحال يقول إن الآلاف من المواطنين المغاربة فقدوا منازلهم وزراعتهم ومواشيهم، لا لشيء إلا لأن تلك المنازل تدخل في عداد السكن غير اللائق وأن المياه ما كانت لتجرف الذي جرفته لو تدخلت السلطات بنجاعة «هاد الشي ما كافيش...! ياك غير ديال سيدنا... علاش مايعطيوناش اللي يكفينا؟!»، هكذا ترتفع أصواتهم عندما يرون ممثلا للإعلام لعلهم يبلغون، إلى الذين يهمهم الأمر، مطلبَهم في الغطاء والخبز وفي تعويض يرونه بات من المستحيلات لجسامة الخسارة. فقدوا مساكنهم ومواشيهم من الأبقار والأغنام وزراعاتهم، بينما أفراد أسر العديد منهم توجهوا إلى غابة المعمورة أو إلى أقارب بمدن قريبة أو وبقرى لم تطلها السيول، ومنهم من لا يعرف، منذ أسبوع مرَّ على الكارثة الطبيعية التي لا تزال مستمرة، الوجهةَ التي ذهب إليها أفراد أسرته، برفقة آخرين من القرية لا يقطنون بنفس الدوار، في ما يشبه النزوح الجماعي إلى أماكن مجهولة قد تكون آمنة ريثما تهدأ غضبات واد الردم وواد بهت ونهر سبو، التي ثارت ثورتها هذه الأيام فأحالوا منطقة الغرب بحرا من المياه الغامرة التي أتت على الحرث والبناء والمواشي. دواوير كالكبارتة بجماعة دار العسلوجي والحوافات والنويرات والخنيشات بإقليمسيدي قاسم ودواوير أولاد موسى بن احسين والعوابد وأولاد احميد والنبيكات والبغايليين وأولاد الغازي وأولاد بروص والرزاكلة والمرادسة وشرقاوة بجماعة الصفافعة، وبجماعة القصيبية دواوير المركز وأولاد خيرة والشراوطة والغلالتة وأحياء أولاد مالك وأولاد الغازي وأولاد زيد، وغيرها من الدواوير والأحياء التابعة لدائرة سيدي سليمان أو إقليمالقنيطرة مباشرة، كلها تشكل خارطة بدت شبه مغمورة بالمياه نتيجة اتحاد واديي الردم وبهت مع نهر سبو ليحولوا جزءا كبيرا من جهة الغرب شراردة بني احسان إلى منطقة منكوبة، حسب ما يراه أهل المنطقة والفاعلون المحليون، أو متضررة، بحسب ما تراه الجهات الرسمية. وادي بهت.. يثور! لم تكن الساعات الأولى، من فجر يوم الأربعاء ما قبل الماضي، هادئة كما تعوَّد سكان حي أولاد الغازي وأولاد مالك وأولاد زيد والدواوير المتواجدة نواحي مدينة سيدي سليمان والمحاذية لوادي بهت، وفي فترة وجيزة تسارعت الأحداث وارتفعت الحناجر منذرة ب»الحملة» أو «الدِّيكة»؛ فواد بهت الذي انتعش طيلة فصل الشتاء بعد شبه جفاف، إلا من مياه الواد الحار التي تُسكب فيه، طول السنة، ها هو اليوم يُذكِّر الساكنة بأيام ثوراته سنوات الستينات، كما يذكُر ذلك مُعمّْرو المدينة من الستينيين والسبعينيين، بسبب ارتفاع نسبة الماء بسد القنصرة المقيم عليه، وهي النسبة التي بلغت أزيد من مائة في المائة. بضعُ دقائق كانت كافية لتصبح منازل طينية وأخرى بُنيت من قصدير وقصب وأعمدة وأحجار في طي النسيان، بينما الساكنة الذين كان معظمهم يغط في نوم الشتاء العميق ما لبثوا أن هرعوا إلى أماكن نائية عن الضفاف المتاخمة للوادي، بعدما حملوا ما سمحت به المفاجأة من متاع، في حين تعالت أصوات الأطفال كما المراهقين والنساء الذين خاضوا في عويل ولطم على الخدود جراء مصابهم الجلل وفقدان العديد منهم لمنازلهم ورزقهم الذي تعِبوا السنين كلها لتوفيره، فكانت تلك الليلة ليست كباقي الليالي خاصة بالنسبة للأطفال الذين صُدموا لهول الفاجعة في ذاك الليل الحالك، الذي سيظل موشوما في ذاكرتهم لاسيما بعد معاناتهم بعد هيجان الواد الطبيعي، ولكن هذه المرة بسبب ضعف المساعدات المقدمة إليهم، وأحيانا بسبب جحود مسؤولين ولا إنسانيتهم، حيث لم يترددوا في التهكم من ضحايا غضب الطبيعة. الوادي جرف كل شيء هكذا خاطب رئيس المجلس البلدي لمدينة سيدي سليمان قدور المشروحي، ساكنة المدينة المنكوبة، عندما سألته جموع غفيرة من قاطني حي أولاد الغازي عن مصيرهم بعد أن جرفت المياه مساكنهم البسيطة بساطة تفكيرهم الذي أوعز لهم ذات يوم من أيام الانتخابات أن يصوتوا على ممثلين عنهم، يسخرون من ناخبيهم أيام الانتخابات كما أيام الضراء والكوارث، وهم الذين ما فتئوا يؤجلون مرارا تنفيذ مشروع محاربة السكن غير اللائق رغم وجود الوعاء العقاري منذ سنوات. ثم يذهب هذا المسؤول ليحل مكانه آخر وآخرون، ولكن هذه المرة من الإدارة الترابية، الذين عبروا للمواطنين عن عجزهم عن تقديم المساعدات المطلوبة، فنقلوا العشرات من المتضررين وبحوزتهم بعض الأغطية، التي نجت من جرف سيول المياه، إلى ملحق كنيسة تعود للاستعمار الفرنسي وآيلة للسقوط بفعل تقادمها، إلا أنها في هذه الأيام العصيبة، وبفضل بقاء سقفها قائما، تمثل بالنسبة إلى هؤلاء مأوى أحسن بكثير من العراء والمبيت في برد قارس، حتى ولئن كان ملحق الكنيسة هذا لا يتوفر على مراحيض. وبمحطة تلفيف الحوامض، كما كانت في السابق، قبل أن تتحول إلى مستودع كبير فارغ إلا من علب الحوامض البلاستيكية والقصديرية، ومن جرذان ظلت تعبث بزوايا فضاء المستودع، نزل ضيوف آخرون أتوا من حي أولاد مالك وبعض الدواوير القريبة من المدار الحضري، ليسكنوا مؤقتا هنالك على أمل أن يجدوا لهم سكنا يكون بديلا لمساكنهم البسيطة التي لم تصمد أمام قوة مياه واد بهت. مر اليوم الأول ثم الثاني فالثالث، وبينما كان مستوى المياه بوادي بهت يزيد وينقص كان عدد طالبي الالتحاق بالملجأين يزيد وينقص بينما الطاقة الاستيعابية والإمكانيات غير كافية لاستقبال أكثر من خمس مائة شخص، وهو العدد التقريبي من المستفيدين الذين استطاع المأويان السالفان استقبالهم، على المستوى الحضري للمدينة في حين في البوادي كانت الفيضانات ترسم صورا دراماتيكية أخرى لم تميز بين الإنسان والحيوان والزرع. الإنسان والماشية.. والأرض! على مدى أزيد من ثلاثين كيلومترا، ومن حدود إقليمسيدي قاسم إلى جماعة عامر السفلية التابعة لإقليمالقنيطرة، تبدو المياه على مرأى العين فُرشة واحدة اجتاحت البلاد والعباد إلا من شاءت الجغرافيا أن يكون مسكنه أو بستانه أو حقله بربوة عالية. لكن واقع الحال يقول إن القليلين هم من كانوا محظوظين وتجنبوا «فيضة» واد بهت، بينما الغالبية ذهبت مواشيهم ومزروعاتهم ومساكنهم أدراج المياه! «الوليدات ضاعوا.. مستقبلهم ضاع» قال قائل من الذين تحدثوا إلى «المساء»، والمتحدر من دوار المويلحة بجماعة الصفافعة، قبل أن يتدخل آخر يبدو أن وقع الكارثة كان أكبر عليه وهو ما تبديه عيناه المغرورقتان، فانبرى يقسم بأغلظ الأيمان بأن سيول المياه الهائجة جرفت 36 رأسا من الماشية وهي كل ما كان يملك، بينما البغلة لا تزال محاصرة بالمياه ولا يستطيع إنقاذها، في غياب تام لرجال الوقاية الذين يمرون من أمامه ب»الزودياك» متجهين إلى جماعة القصيبية التي يترأسها وزير العدل عبد الواحد الراضي، يقول المتحدث، وأما أسرته فقد ذهب بعضهم عند الأهل في مناطق آمنة، بينما ابنه البالغ من العمر اثنتين وعشرين سنة ينزل بمستشفى المدينة بعد أن أصيب إصابة خطيرة في أول ليلة من الفيضانات عندما كان يساعد والده على إنقاذ ما يمكن إنقاذه. حالات أخرى تعجز الكلمات عن إيجاد الأوصاف لها، صادفتها «المساء» وهي تجول بين الدواوير، فمنهم من فقد أبقارا وأغناما ومنهم من تهدم منزله والكثيرون هم من بار زرعُهم، ليقطعوا كيلومترات، حتى يصلوا إلى نقطة توزيع المساعدات الغذائية، وعندما يصلون يظلون طول النهار في انتظار التسجيل في لوائح المستفيدين، وقد لا يسعفهم طول الطوابير في نيل حصتهم والتي تختلف نوعيتها بين ما إن كانت معلبة بعلبة كارطونية مطبوعة بعلامة مؤسسة محمد الخامس للتضامن، أو ملفوفة في كيس بلاستيكي أسود ما يدل على أن مصدرها هم المحسنون. مساعدات يقول بشأنها المتضررون إنها لا تكفي لعشاء ليلة أسرة تتكون من ستة أفراد، فبأحرى إن كانت الأسرة تتكون من أكثر من عشرة، والذين هم في أمس الحاجة إلى خيمة تَقيهم قساوة البرد وتجمع شمل أفراد أسر توزعوا على الجيران والأقارب في المدار الحضري لمدينة سيدي سليمان وبمدن مجاورة كسَلا وسوق الأربعاء الغرب والقنيطرة. غير أن كابوسا آخر سيظل جاثما على صدور هؤلاء الفلاحين البسطاء والعمال الزراعيين، حتى ولو عادت المياه إلى مجراها الطبيعي، وهي القروض الصغرى التي يحين وقت سدادها كل أسبوع، ما يجعلهم عاجزين عن ردها وهو ما يهددهم بالمتابعة القضائية من طرف المؤسسات المانحة، ما يزيد الطين بلة. غياب الممثلين.. وسلطة عاجزة! لم تتردد غالبية الذين تحدثوا إلى «المساء» في نعت ممثليهم على مستوى البرلمان والمجالس المحلية بأبشع النعوت، متهمين إياهم باللصوصية والخيانة وبأنهم يقبلون اللحا يوم الانتخابات، كما قال أحد الغاضبين، ولكنهم اليوم يختفون. وحدها السلطات وأعوانها تعمل في ظل ضعف إمكانياتها اللوجيستيكية والغذائية على إرضاء أكبر عدد من المنكوبين، في الوقت الذي يسجل فيه المتضررون غيابا لساسة الرباط الذين يرونهم على التلفزيون كل مساء يزورون فيه مناطق مختلفة من المغرب، مما جعلهم يتساءلون عما إذا كان هؤلاء المسؤولون ينتظرون كوارث أكثر من كارثة فقدان المسكن والزرع والبهيمة، لكي ينزلوا إلى هذا الوحل الذي يغرقون فيه. «ما بقاش فينا الحال.. على قدر الله.. بقا فينا علاش ماداوهاش فينا»، صاحت ميلودة الخمسينة، قبل أن تضيف أن «حتى وْزير ما جا عندنا أو الراضي مشا غير عند حبابو»، لكن ميلودة لم تعلم بأنه نهاية الأسبوع حط بالمدينة وفد رسمي مصغر يرأسه وزير الداخلية شكيب بنموسى ويضم أحمد أخنوش، وزير الفلاحة والصيد البحري، والجنرال حسني بن سليمان، نقلتهم طائرة مروحية، بعدما جالت بهم في أجواء المنطقة المنكوبة، إلا أن متضررين غاضبين رأوا أن زيارتهم غير مرغوب فيها فهتفوا في حضورهم، وأرغموهم على المغادرة في اتجاه الباشوية، بعدما رشقهم أحد الأشخاص بالطين المبلل، يقول أحد الذين تابعوا الحادث. مسيرات.. أمن! كان الغضب باديا على الذين تحدثوا إلينا، وعلامات الحسرة والتذمر لا تحتاج إلى كبير عناء لاستجلائها. وعندما يتاح لهذا الشخص أو ذاك مجال للحديث يختلط عليه العتاب بالشكوى لينتهي به الأمر إلى التضرع إلى ربه من أجل اللطف في قدره! ولكن هناك من المتضررين من لم يستطيعوا كتم غضبهم فسارعوا إلى القيام بمسيرات عفوية، تماما كما فعل شباب متحدرون من دوار الرزاكلة حين قطعوا مسافة أكثر من ثمانية كيلومترات سيرا على الأقدام في اتجاه مقر بلدية سيدي سليمان، يوم الاثنين، حيث وقفوا احتجاجا على ضعف المساعدات والخدمات المقدمة إليهم، كما يقولون. ونفس الشيء، ولكن بحدة أكثر هذه المرة، وقع بالخنيشات بإقليمسيدي قاسم، يوم الثلاثاء، عندما فوجئ المواطنون بثمن الخبزة يرتفع بكيفية صاروخية، فاندفع العشرات من الشباب غاضبين في شكل زمر وطفقوا يكسرون واجهات بعض المحلات التجارية وبعض الوكالات البنكية، ما جعل قوات الدرك والقوات المساعدة تتدخل. وعلى مداخل مدينتي سيدي قاسموسيدي سليمان وأمام بعض الإدارات شوهدت ناقلات وشاحنات وسيارت تقل عناصر من الأمن والقوات المساعدة والجيش رابضة، ما يطرح السؤال حول جدوى حضور هذه القوات، الذي تفسره الجهات الرسمية باستعداد هؤلاء لتقديم العون والمساعدة للمتضررين، بينما فسره فاعلون سياسيون بأنه استعراض رمزي ورسالة إلى الذين يودون القيام باحتجاجات غاضبة، على شاكلة احتجاج الخنيشات. فاعلون.. حصيلة! كانت خلية تتكون من بعض الفاعلين السياسيين وأفراد المكتب المحلي للجمعية المغربية لحقوق الإنسان تتأهب لعقد اجتماع من أجل تدارس وضع المتضررين ذاك اليوم، عندما التحقت بالاجتماع «المساء»، التي اطلعت عن كثب على الدور النشيط الذي يقوم به هؤلاء الفاعلون بقصد التخفيف من عبء السلطات ومساعدة المتضررين؛ ووحدهم هؤلاء من فطنوا إلى حجم الكارثة، وأصدروا بيان إغاثة، في وقت سابق، معلنين أن منطقة الغرب منطقة منكوبة، وهو ما استجاب له بعض ذوي النيات الحسنة، فبادروا إلى إرسال مساعدات غذائية وأخرى على شكل أغطية وأدوية. وبحسب مصادر من هؤلاء الفاعلين فإن الكارثة خلفت أكثر من ثلاثين ألف متضرر، على مستوى البوادي، بينما العدد فاق ألف متضرر على صعيد المدار الحضري لمدينة سيدي سليمان، في حين فاقت الأراضي الفلاحية التي أفسدتها سيول المياه الثمانين ألف هكتار، وأما بخصوص عدد المنازل المنهارة فاللائحة مرشحة للارتفاع بسبب استمرار تهاويها كل يوم ومن المرتقب أن يصل العدد إلى المئات من البيوت التي دكتها المياه.