- حدثنا عن أسرة جدك التي عشت في كنفها طفولتك كلها. جدي كان رجلا طاعنا في السن، وكان آنذاك في الخامسة والسبعين أو الثمانين، وكان يحسن إلي، ويصر على أن أتعلم القرآن، خاصة أنه كان فقيها، وزوجته، التي هي بمثابة جدتي، والتي تزوجها بعد وفاة جدتي الفعلية، كانت امرأة طيبة، كنت أناديها «ماما» وأصيبت بالعمى في آخر عمرها، فاختار جدي أن يتزوج بعد ذلك بامرأة في الثلاثين من عمرها، كانت فقيرة وتساعد «ماما» في أعمال البيت، وفجأة سمعنا أنها صارت زوجة جدي. - قلت إن جدك كان في الثمانين، فكيف كانت حالته الصحية؟ كان لا يزال محتفظا بعافيته، وهكذا كان أهل البادية، كان يتحرك بسهولة دون مساعدة من أحد، وكان محتفظا بسمعه وبصره، كما كان يستطيع أن يحمل الأوزان الثقيلة دون أن يشتكي، وكان يهتم بالقرآن قراءة وتحفيظا. كان الناس يقولون عن جدي إنه قاس، وإنه سبق أن «أسقط أرواحا»، لكنه كان يعاملني بحنان كبير، وكنت أتجاهل كل ما يقال عنه، وهو كان يعتبرني مثل ابنه بعدما كبرت والدتي وخالي. لقد كان جدي هو حمايتي. - قلت إن جدك كان يصر على أن تحفظ القرآن، فكم حفظت منه؟ حفظت 30 حزبا، منها الذي ما زلت أذكره إلى الآن، وكان عمري وقتها عشر سنين. - ألم تجد أي صعوبة في حفظ القرآن في هذا السن؟ لم يكن أطفال قبيلتنا يتجاوزون ربيعهم الثالث حتى يشرعوا في حفظ القرآن، ويختمونه عندما يصلون ست أو سبع سنوات، وكان الكثير من الأطفال في هذه السن يحفظون كتاب الله، لقد كان من العيب أن يكون الشخص غير مطلع على القرآن ويعمل على حفظه، كنا نناديه بلهجتنا «قبان»، أي الراعي أو الحراث، أما حافظ القرآن فنقدسه، ولا مجال للحديث عن أي صعوبة في ذلك. - وهل كنت تتعلم أيضا القراءة والكتابة؟ نعم، بدأت أتعلم الحروف، وشرعت في تعلم القراءة، صحيح أنني لم أتم ذلك في صغري، لكنني أتمه اليوم، رغم أني أجد صعوبة في القراءة والتعبير باللغة العربية السليمة، لكنني أجتهد وأحاول. - وهل كان الأطفال في قريتكم يحسنون القراءة والكتابة؟ نعم، الذين يحفظون القرآن يتعلمون أيضا كيف يكتبون ويقرؤون، حتى ولو كان ذلك من نوع الكتابة الذي نطلق عليه «كتابة المسيد». - وهل كنتم تتعلمون قواعد اللغة والنحو؟ لا، ذلك كان في المدرسة العصرية بالمدينة، نحن لم نكن ندرس اللغة ولا الحساب، وكانت المدرسة التي نعرفها هي «المسيد»، لكن منها انتقل أطفال إلى فاس للدراسة بمدارسها، وأصبحوا طلبة علم. - هل كنتم تفهمون القرآن؟ أغلب حفظة القرآن لم يكونوا يفهمون معانيه، بل حتى معلموه لم يكونوا يفهمونه غالبا، ووالدي نفسه، رغم أنه كان يحفظ القرآن، إلا أنني لو طلبت منه أن يشرح معنى «تبت يدا أبي لهب»، ما كان ليستطيع. - لنعد إلى منزل جدك، ما هو الطارئ الذي طرأ عليه وجعل حياتك تنقلب؟ جدي تزوج بالمرأة التي كانت تساعد في أعمال البيت، وبعد وقت وجيز رزق بطفلة صغيرة، ستصبح محور اهتمامه كله، وكان هذا هو أول دافع لي للرحيل عن المنزل، لقد كنت صغيرا وأغار بشدة من معاملة جدي لرضيعة صغيرة، كان اسمها فاطمة، وكان جدي يدللها ويسميها «شنيشنة د الذهب» ولم يكن يروقني أن أخسر دلال جدي (ضاحكا). - كيف استقبلت جدتك «ماما» خبر زواج جدك؟ جدتي، التي هي في الأصل زوجة جدي كما ذكرت، والتي كنت أناديها «ماما» (بترقيق الميم)، كانت امرأة طاعنة في السن، غير قادرة على الحركة، ولم تكن لتعترض على زواج جدي، بل إنها شجعته على ذلك، واحتسبت الأمر إحسانا لتلك السيدة الفقيرة التي تزوجها جدي. وفي الحقيقة، فإن زوجة جدي كانت «درويشة» وفقيرة، وكانت تساعدنا في عمل المنزل، لكن الإنسان يتغير، فبعدما رزقت بطفلتها، «كثرات فيها الفهامة»، وصارت تعاملني بقسوة، وأصبحت تتعالى على جدتي، وهذا دفع ابنتها الكبرى إلى نقلها للعيش معها في بيتها، ثم تطور الأمر إلى درجة أن الزوجة الجديدة بدأت ترفع صوتها حتى على جدي الذي كانت علامات الضعف قد بدأت تظهر عليه. لقد كنت أتأثر سلبيا بكل ذلك، فلم أعد أتحمل العيش في هذا المنزل، فقررت الخروج منه وأنا في ربيعي الثامن أو العاشر، لا أتذكر بالتحديد.. وبدأت أطالبهم في المنزل بأخذي إلى منزل أمي، وكنت أصر على خالي تحديدا أن يأخذني إلى المدينة التي تقطن بها والدتي.