سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
هكذا حوّل أردوغان تركيا من «رجل أروبا» المريض إلى «فتى أروبا المتعافى» قال في فترة سجنه جملة كانت بمثابة النبوءة الصادقة: «هذه ليست النهاية بل هي البداية»
يتساءل الناس -باستغراب- مَن أعطى هذا الرّجُل المتواضع العصاميّ كلَّ هذه القوة والشّجاعة، ليقف في وجه الجميع، بدءاً من الطاغوت في بلاده و آلته العسكرية الفتاكة، مرورا بمعاركه مع القضاء والمؤسّسات العلمانية، من أجل تأسيس حزبه، «ذي الميول الإسلامية»، وصولا إلى مواقفه الصّارمة من الغطرسة الصهيونية.. كل هذه المواقف وأكثر دون خوف أو مَهابة، بسبب بسيط هو أنه يتمتع بنخوة الإسلام والشّعور بالفخر والاعتزاز بالانتماء إلى أمّة سيدنا محمد، صلّى الله عليه وسلّم.. هذا ما يمنحه كلَّ هذه الجرأة والمروءة ليوقف، بل ويُجمّدَ كلَّ أشكال التعاون، السياسي والعسكري، مع إسرائيل، الذي امتدّ لعقود، نصرة للأبرياء والضّعفاء والمُحاصَرين في قطاع غزّة، ولينصُرَ الإسلام المحاصَر في بلاده، مما جعل منه نجماً ساطعا في سماء الأمّة الإسلامية.. وقد لجأ كثير من الكُتاب والمحللين السياسيين إلى تشبيه «ظاهرة» رئيس الوزراء التركي رجب أردوغان بالعديد من الزّعماء التاريخيين، حيث عقدوا مقارنات تاريخية بين مواقف هؤلاء الزّعماء ومواقف أردوغان، فمنهم من شبّهوه بالسّلطان عبد الحميد الثاني، آخر سلاطين الإمبراطورية العثمانية ودولة الخلافة الإسلامية، وآخرون بالزّعيم الخالد جمال عبد الناصر، ومنهم من توغلوا في التاريخ إلى أبعدَ من ذلك وراحوا يقارنونه بالسّلطان محمد الفاتح وبالقائد صلاح الدّين الأيّوبي..
«كل إناء بما فيه ينضج».. مثَل عربي -تركي يشكل تحديدا ما أحدثه أردوغان من تأثير طاغٍ لا يقاوَم على شعبه وعلى الجماهير العربية والإسلامية، ويكاد يفوق كل وصف وتفسير، لأنّ رجب طيب أردوغان صار اليوم هو سحر تركيا الخفيّ.. تركيا التي أعطاها أردوغان قُبلة الحياة، فتحوّلت من «رجل أروبا» المريض إلى «فتى أروبا المتعافى»، القوي، المدافع المغوار عن قضايا العالم الإسلامي.. وقد كانت تجربة أردوغان في رئاسة بلدية (عمدة) إسطنبول بدايته الحقيقية في إثبات قدرته على أنه رجُل اقتصاد وسياسة ملهم ومبدع. فبروح عثمانية خالصة تربت وترعرعت في مدرسة دينية وسياسية محافظة أوحت خطب أردوغان بأنه رجُل مبادئ من الدرجة الأولى، وساهمت سيرته في إدارة إسطنبول من تحويل عجزها إلى فائض وتدشين أول موقع إلكترونيّ لخدمة المواطنين، واهتمامه بالحدائق العامّة وحماية البيئة في مدينة يعيش فيها حوالي خمُس سكان تركيا في زيادة شعبيته ورفع أسهمه عند جماهير تهتف له بما يمليه عليها قلبها.. وقد ذاعت شهرة أردوغان كرئيس بلدية ناجح على مدار 4 سنوات (1994 - 1998) حيث انتشل المدينة من الإفلاس وحلّ الكثير من مشاكلها، مثل انقطاع الكهرباء والمياه وتفشّي القذارة.. كما تحولت المدينة في عهده إلى ما يشبه «الواحة الخضراء»، وهو يتحدث عن سر نجاحه في ذلك بقوله: «سألوني عن السّبب في النجاح في تخليص البلدية من ديونها، فقلت: لدينا سلاح أتنم لا تعرفونه.. إنه الإيمان.. لدينا الأخلاق الإسلامية وأسوة رسول الإنسانية، عليه الصلاة والسلام».. ونجح أردوغان خلال فترة توليه رئاسة البلدية في تعرسيخ صورته كنصير للفقراء والمحتاجين، حيث وفّر لهم الكثيرَ من المساعدات، العينية والمادية، وحرص في الوقت نفسه على إبراز نفسه كشخص متديّن بشكل عميق، يحرص على الصلاة في أوقاتها، ويستشهد بالقرآن والأحاديث في خطبه وكلماته.. كما أبقى على مسكنه المتواضع في «قاسم باشا» ورفض أن ينتقل إلى آخرَ «يليق» برئيس بلدية لمدينة ضخمة مثل إسطنبول.. لا يمكن وصف ما قام به إلا بأنه انتشل بلدية إسطنبول من ديونها، التي بلغت ملياري دولار، إلى أرباح واستثمارات بقيمة 12 مليار دولار، وبنمو بلغ 7% بفضل عبقريته ويده النظيفة وعلى الخصوص بقربه من العمّال ورفع أجورهم ورعايتهم صحيا واجتماعيا.. وقد شهد له خصومه قبل أصدقائه بنزاهته وأمانته ورفضه الصّارم كل المغرَيات المادية من الشّركات الغربية التي كانت تأتيه على شكل عمولات، كحال سابقيه.. وبعد توليه مقاليد البلدية، خطب في الجموع وكان مما قال: «لا يمكن، أبدا، أن تكون علمانيا ومسلما في آن واحد.. إنهم دائما يحذرون ويقولون إنّ العلمانية في خطر.. وأنا أقول: نعم إنها في خطر. إذا أرادات هذه الأمّة معاداة العلمانية فلن يستطيع أحد منعها. إن أمة الإسلام تنتظر بزوغ الأمة التركية الإسلامية.. وذلك سيتحقق، إن التمرّد ضد العلمانية سيبدأ». وعلى صعيد المشاكل التي كانت إسطنبول تعاني منها، تمكن أردوغان من حلّ مشكلة مياه المنازل والبيوت التي كانت تؤرّق الملايين من سكان المدينة عبر سنوات طويلة، فبعد أن كانت إمدادات المياه تتقطع لفترات طويلة عن مناطق العاصمة، تغيّرَ الوضع منذ عام 1996، وأصبح ضخّ المياه يتم بصورة دائمة وطبيعية في جميع مناطق المدينة مترامية الأطراف.. وبذلك قضى على معاناة الألوف من السّيدات اللواتي كنّ يعانين من عدم التمكن من تشغيل ماكينات غسل الملابس الحديثة لعدم وجود مياه في الصنابير أو وصولها في ساعات متأخّرة من الليل.. ووضع أردوغان طبقا لبرامج حزب الرّفاه (المحظور) خطة نقل المياه إلى أسطنبول من الأماكن القريبة منها عبر أنابيب ضخمة، علاوة على توفير أماكن لبيع مياه الشرب في نقط كثيرة من المدينة بسعر رخيص، في ظلّ مشروع شركة «حميدية» لتعبئة وبيع مياه الشّرب. وفي ما يتعلق بالخدمات الاجتماعية في المدينة، قدّم أردوغان إعانات ومواد غذائية ونقودا وملابس للفقراء والمحتاجين من أهالي المدينة في شهر رمضان، وفي المناسبات الإسلامية، كما ذهب بنفسه على رأس فريق العمل لمتابعة توزيع تلك الإعانات على البيوت والمنازل.. وهو أول من أقام «شوادر» عامّة للإفطار في مدينة إسطنبول في شهر رمضان، تقدّم الوجبات الساخنة لمن لم يتمكن من إدراك وقت الإفطار، وهو المشروع الإنسانيّ الذي لاقى الترحيب من أهالي المدينة. كما كان أردوغان يتواجد بصفة دائمة في المشروعات الميدانية ويرتدي ملابس العمّال، من أجل المتابعة وتشجيع العاملين على إنجاز أعمالهم بجدّية وحماس. وفي إطار برامج حزب الرّفاه أيضا، كان أردوغان يوزّع بنفسه المِنح المالية على الطلاب مع بدء العام الدراسي، وكان يشارك في مباريات كرة القدم، التي تنظمها البلدية للشباب، نتيجة لممارسته هذه الرياضة لفترة طويلة في شبابه وصباه. وتبنى أردوغان مشروع زرع مليون شجرة في أنحاء المدينة، من باب الحفاظ على نظافة البيئة، وكسبت المدينة الضّخمة متنفسا وبقعا خضراء تساعد على التنفس والتنزّه بشكل مناسب، بعدما كانت الرّوائح الكريهة تنبعث من خليج القرن الذهبي في إسطنبول، المتفرع من مضيق البوسفور والمتصل في الوقت نفسه ببحر مرمرة، نتيجة إلقاء مياه الصّرف الصحي فيه، وهو ما منع سكان المدينة من الاقتراب منه. كل هذه الإنجازات والتقارب مع مشاكل ومواجع الجماهير أكسبت أردوغان شعبية جارفة وثقة كبيرة، ليس فقط على مستوى إسطنبول، ولكن أيضا على مستوى تركيا كلها، وبات الناس يعقدون آمالهم عليه في حلّ المشاكل المزمنة لتركيا.. أشعار تسجُن وتحرّر أيضا انزعجت بعض القوى العلمانية في تركيا ممّا ناله أردوغان من إعجاب سكان إسطنبول، أكبر مدينة في تركيا، عندما كان رئيسا لبلديتها، بسبب نجاحه الباهر في تقديم الخدمات البلدية وتنظيم حياة المدينة ومحاربة الفساد في الأسواق وتقديم المساعَدات للمحتاجين والطلبة. وأدى ذلك إلى محاكمته وسجنه بموجب مادة في القانون الجزائيّ تجرّم كل من يقوم بتأجيج مَشاعر التفرقة العرقية أو الدينية في تركيا.. فككل قائد سياسيّ جريء، فإنّ السجن طريق لا بد منه ليعدّل القائد من مواقفه ويعتدل ليتسلم مقاليد الحكم بشكل مشرّف ونبيل.. بناء على حكم من محكمة أمن الدولة في ديار بكر عام 1998 م، حيث قضت بسجنه لمدة عشرة أشهر ومنعه من ممارسة أيّ نشاط سياسي، وحينها قال أردوغان جملة كانت بمثابة النبوءة الصّادقة «هذه ليست النهاية، بل البداية».. وقد قامت تلك التهمة على أساس أبيات من شعر شاعر القومية التركية ضياء غوك ألب، والتي ألقاها أردوغان، الذي يتمتع بموهبة فائقة في إلقاء الشّعر، بصوته الشّجي، خلال أحد الاجتماعات العامة لحزب «الرفاه» في مدينة «سعرد»، جنوب شرق الأناضول. واعتبرت المحكمة أنّ تلك الأبيات تؤدي إلى إثارة المشاعر الدينية لدى المواطنين، تلك المشاعر التي طالما عمدت الحكومات التركية المتعاقبة على كبتها، ولكنها لم تتفجّر يوما بشكل همجيّ لتدخل البلاد في حرب أهلية أو طائفية.. وقضى أردوغان في السجن مدة أربعة أشهر، مما جعل منه بطلا وطنيا في عيون الشّعب التركي، المتحمس آنذاك للمشروع الإصلاحي الإسلامي الذي قاده الشيخ أربكان..