يمرُّ عمومُ الأقطار العربية من زوبعة استعمارية جديدة، تعتبر منتوجا رئيسا لمحاولات الرأسمالية الغربية تصدير أزماتها العميقة والشاملة نحو أسواق ومجتمعات ودول الجنوب، و في المقدمة منها ذات العمق التاريخي والموقع الجغرافي والإرادة الشعبية المقاومة. «جديد» هذه الهجمة ليس في أهدافها، بل في أساليبها وتكتمات التحضير لها، ومن ثم تعدد وتنوع عناصر المفاجآت في تدبيرها. لقد تأكد حلف الأطلسي بقيادة أمريكا، بعد المقاومات الوطنية المذهلة بل والأسطورية، خاصة في العراق والشام (سوريا ولبنان وفلسطين)، أن سلاحه قد فلّ وتفوقه العسكري قد اختل... وذلك، خاصة، بفضل التوظيف العبقري لسلاح الصواريخ، والذي انتهى بهزيمته في جميع حروبه العدوانية الأربع الأخيرة منذ مطلع قرننا. ولأن الجشع الرأسمالي المتوحش في حاجة إلى عدوان وإلى سيطرة واحتلال، فلقد انتبه إلى مراكز إنتاج وشبكات توزيع المعرفة والمعلومات وإلى منتجيها.. وتوظيفها جميعا «قواعد» سياسية وإيديولوجية للكذب والبهتان وقلب الحقائق واصطناع الأخبار والأحداث وتضبيب الرؤية ونشر الفوضى... خاصة عن طريق التأويل الاستعماري، بل وحتى الصهيوني، للدين ومؤسساته وسرطنة التناقضات المجتمعية (الدينية، المذهبية، الطائفية، الجهوية واللغوية...) وتعميقها وتفجيرها... لشغل المواطنين عن التناقض الرئيس معه ومع صنائعه في المنطقة، وفي المقدمة منها الكيان العسكري-الاستيطاني الصهيوني. إنها حرب أخرى إذن، جديدُ مكرِها وخبثِها أنها تخاض من قبل ضحاياها ضد بعضهم البعض، ولا تكلفهم سوى قنوات صفراء مغرضة (أكثر من ألف) وشابكة ملغومة وفقهاء السلاطين، وشراء من لا ذمة لهم من «المثقفين»، والباقي يتكفل به ما نشروه سلفا من أمية وتجهيل وتعطيل لحاسة النقد، بل ومقاييس الفطرة السليمة. هذا هو ما يصفونه بالحرب «الناعمة». لقد انتصر جنود الحرب التقليدية العرب، في مقاوماتهم المسلحة للاستعمار وذلك سواء كجيوش نظامية (1973) أو شعبية (2000 حتى 2011)؛ أما جنود هذه الحرب (المثقفون والإعلاميون...)، خاصة المنبتين منهم شعبيا، فلقد عطلوا وعيَهم، ومن ثم إراداتَهم سلفا، أمام: - نشر الفوضى والتضليل في الحقلين الثقافي والإعلامي: العدمية الوطنية باسم الكونية/اللادولة باسم المجتمع المدني/حقوق الإنسان على حساب حقوق الأوطان/الحرية بديلا عن التحرر/الفلكلور نقيضا للثقافة/الحكامة عوض الديمقراطية/توظيف الحق في الاختلاف من أجل الخلاف/الشكلانية في الأدب والفن/الدعوة إلى الهويات الأصولية (دينية، لغوية، جغرافية،...)... إلخ. شعارات وأهداف سامية، يعمدون إلى مسخها وتشويهها وتحريفها... في الأذهان والأفعال، وهو ما نعاينه اليوم في الميادين العربية التي تعكس، في فوضويتها، مقدماتها المدبرة في الوعي المغلوط، الشعبوي والعدمي... الثقافي والإعلامي و«المدني» العربي المعاصر (لا الحداثي بالأحرى). لقد وُظفت لقيادة هذه الحرب، العدوانية والمخوصصة، قيادة أركان من مثقفين وإعلاميين وفقهاء.. اشتريت تواريخهم وحذلقاتهم الخطابية بمكافآت (رشاوى) لا يصمد في مقاومة أرقامها الفلكية إلا ذوو الضمائر والذمم، وهم منها براء. بقية المثقفين حوصروا أو حيدوا في سجون ذهبية: دعوات ومكافآت مغرية على مقالات وندوات ومؤتمرات... تدبر لهذا الغرض بالذات، وليس للعلم أو المعرفة... في الغرب كما في الخليج، سيان. إنهم في سياق خلط المعطيات وقلب الأولويات وتحريف الاتجاه، يشيعون خطاب كون الاستبداد هو ما يفسر التخلف، مع أنه منتوج التبعية واللاتكافؤ واللاعدالة واللاديمقراطية في العلاقات الدولية؛ هدفهم التغطية على الدور الإمبريالي لليبرالية المتوحشة وحقيقة استعمارهم للأرض وللاقتصاد واستنزافهم للثروات والعقول والكرامة. ليس الاستبداد، حيث كان، سوى المنتوج السياسي للاستعمار وفرع من فروعه. ولا يمكنهما لذلك أن يتحاربا. إن ما يحاربه حلف الأطلسي هو: رأسمالية الدولة الوطنية، ومن ثم حارس اقتصادها (الأبناك خاصة) المدافع عن تماسك مجتمعاتها وعن ثقافتها الوطنية ومراكزها العلمية وعن استقلالها والسيادة على حدودها: قواتها المسلحة وجيوشها النظامية وأمنها.. مستثمرين في ذلك خاصة عيوبها البيروقراطية وحسها الأمني المتطرف وضمورها الديمقراطي... خاصة في معالجة تناقضاتها الوطنية الداخلية. أساليب الاستعمار تتجدد وتتوحش وقانونه هو نفسه «فرق تسد»، أما أهدافه فثابتة: - التخلص من أزمات الاستعماريين الاقتصادية والمالية والسياسية والأخلاقية... عن طريق تصديرها نحو أسواقنا ومجتمعاتنا وضمائرنا، وذلك خاصة بتفكيك القطاع العام وإلغاء صناديق الدعم ومجانية الخدمات وخوصصة الأبناك والصناديق ورفع الحماية عن الصناعة المحلية والأسواق الوطنية وعقد صفقات التسلح «الورقية» معهم... إلخ؛ باختصار، تحويل الأوطان إلى محض أسواق لا حامي لها، لليبرالية المتوحشة وتحويل المواطنين إلى زبناء بدون تحصين.. وهذا هو فهمهم وتدبيرهم ل«العولمة»؛ - فرض نمطهم في التقسيم الرأسمالي الدولي للعمل، ومن ثم الدخول في لعبتيْ: التبادل التجاري غير المتكافئ، والاستدانة الربوية الفاحشة من أبناكهم؛ - محاصرة مراكز البحث العلمي والإشعاع الثقافي الوطني والقومي الديمقراطي، وخاصة تلك التي توظف، ومن ثم تنمي اللغة العربية، والدفع بالعلماء نتيجة ذلك نحو الهجرة والتهجير... - أما سياسيا، فأهدافهم صريحة ومعلنة، الشرق الأوسط «الجديد»: المزيد من التجزئة وتعميقها وتفجيرها... (النموذج اليوغسلافي) وضمان السيادة المطلقة لإسرائيل على عموم الوطن العربي. ضدا على هذه الأهداف وغيرها من نظائرها، تقف الشعوب العربية الحرة، وفي الطليعة منها اليوم جيوشها، إذا كانت عتيدة وذات عقيدة وطنية، ذلك لأنها: الأكثر مؤسسية وانضباطية واستخداما للعقلانية وللتقنيات وللعلم الحديث والمطلعة أكثر على حقائق العصر ومستجداته والمسؤولة الأجدر عن الوحدة الترابية والأهلية... وطبعا فهي الأكثر استفادة من القطاع العام والذي لا تستطيع القيام بوظائفها بدونه، ولذلك فهي تقف حارسة عليه أكثر من غيرها... ومنمية لقطاعاته... ولهذا فهي اليوم الأكثر استهدافا من قبل الاستعمار، وذلك لإضعافها وحتى تفكيكها (العراق، ليبيا،...) وتحويلها من حماية الحدود الترابية إلى حماية الحدود الطبقية والجهوية والمذهبية واللغوية... إلخ، عمليا، إلى أجهزة للأمن والاستخبار(؟!) إن العمود الفقري للدول الحديثة: ضامن استقلالها وتنميتها وسيادتها... هو الجيوش النظامية، ولهذا فهي اليوم مستهدفة في أوطاننا، وذلك منذ إدارة محمد علي. المستهدف، إذن، هو الدول وليس إداراتها أو أنظمتها السياسية كما يدعون (؟!) الصمود الأسطوري للشعب السوري وجيشه العربي العتيد هو ما يفسر اليوم إعادة تشكيل الجغرافية السياسية العالمية، وذلك أولا باستقطاب المراكز العظمى والتاريخية الثلاثة: روسيا والصين وإيران، فضلا عن الهند وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، وغيرها في الانتظار. وبفضله أيضا تستمر القضية الفلسطينية حية، وتصمد المقاومة في لبنان ويستمر العراق، رغم علاته، موحدا... والأمة العربية رائدة في مقاومة الاستعمار على صعيد العالم.. ولهذا فهي اليوم ودائما تؤدي الثمن غاليا. لا شك أن كل قديم يحتاج في كل حين إلى إصلاح وتجديد، ومن ذلك بالطبع جميع الأنظمة في الأمصار العربية، والرئيس في ذلك هو تحقيق «الانتقال نحو الديمقراطية»، مما يعني: 1 - تكريس مقياس الوطنية كشرط للديمقراطي وللديمقراطية ضدا على الاستعمار، قديمه وجديده، وخاصة منه اليوم الذي يخترق الإعلام والثقافة والمجتمع المدني... إن حقوق الأوطان في التحرير والتحرر شرط لحريات الإنسان والمواطن... 2 - إن الطريق الوحيد لإنجاز هذا المطلب التاريخي الضروري والملزم، هو التوافق عن طريق الحوار بين جميع المكونات الوطنية (لا العميلة) ودون تدخل خارجي استعماري يخرب الذمم سبيلا لتخريب الدول؛ 3 - إن مفهوم وحدث «الانتقال» يجب أن يكون شاملا لإدارتي الدولة والمجتمع، متدرجا، منيعا ومقاوما، ويرتبط فيه زمن تنفيذه بمحتوى ومتطلبات برنامجه (احتاجت البرتغال، مثلا، إلى سبعة أعوام لإنجاز انتقالها)؛ 4 - يشترط ذلك، بالطبع، إشاعة الحريات الديمقراطية (الرأي، التعبير، التنظيم، التظاهر،...) لا الحريات الفوضوية، ورفض تقزيم الديمقراطية إلى «تسلط الأغلبية»؛ 5 - إن الاستعمار هو العدو الرئيس والجذر العميق لجميع التناقضات والأدواء، ولا يعني ذلك إهمالها وعدم معالجتها، ولكنه يعني عدم تضخيمها وبالأحرى تفجيرها، ومن ثم الاستعاضة بها عن الاحتلال وعن الاستعمار. يستهدف هذا البيان-النداء: 1 - دعوة عموم المثقفين العرب الوطنيين-القوميين والديمقراطيين... إلى مغادرة حالة السلب والانتظارية وإلى استرجاع مواقع أسلافهم النهضويين الليبراليين واليساريين.. إلى استرجاع البوصلة؛ 2 - فضح ومحاربة النمط الجديد من الخيانة للمبادئ وللقيم الوطنية، الموظف للدين والليبرالية... لخدمة الاستعمار والتبعية (=العبودية الطوعية)؛ 3 - مناهضة الصيغ الجديدة للتفرقة والفتنة وإشاعة الفوضى، باسم «الحق في الاختلاف» الديني والمذهبي والعقدي والطائفي والجهوي والألسني و»الثقافي» الفلكلوري... إلخ، واعتبارهم له تنوعا فاصلا وانعزاليا لا تعددا وتكاملا بالأحرى... 4 - تأسيس (جبهة الانتصار للانتقال) فكرية وثقافية عربية عريضة ضدا على الدجل السياسي «الأخلاقوي» والمغرض استعماريا في توظيفه الدين في الشأن السياسي، بما ترتب عنه من بعث للفكر السحري والخرافي والطرقي... إن التحرير المزدوج للدين عن الدولة، والعكس، هو اليوم «الجهاد الديمقراطي الأفضل» ضدا على الفتنة في الحقل الديني (الروحي والأخلاقي)، وبالتالي ضدا على صهينة الإسلام (=خلط الدين بالسياسة)؛ 5 - التشبث بقيم ومؤسسات الممانعة والمقاومة، ومحاصرة جميع أشكال وصيغ التطبيع مع الاستعمار ومع «العثمانية الجديدة»؛ 6 - تكريس وتنمية ما تحقق من تقدم على طريق الانتقال، وكنتيجة للحراك الشعبي المتواصل، وخاصة من ذلك الإصلاح الدستوري الديمقراطي الأخير في الساحة السورية.