الأكيد أن هذه القطيعة التي جاءت، نظريا على الأقل، بمنهج تدبير جماعي وأخلاقي جديد، ومن خلال إرادة داخلية ووعي وإدراك ومسؤولية، و ليس بمزاجية أو صرعة سلطوية وسلوكية فردية، والتي من نتائجها المحتملة أو المفترضة سجل حافل بالحكامة الجيدة والشفافية في التدبير والجودة في الخدمات وارتباط البرامج بالأهداف والمصالح العليا للبلاد، سيترتب عنها، في الواجهة الأخرى، ظهور قوى الممانعة والثورة المضادة، وخاصة لدى الفئات القليلة التي كانت تستفيد، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، من ريع مرحلة «الفوضى» والتدبير العشوائي للشأن العام، حيث من المحتمل، بل الأكيد أنها ستصطف علانية في جبهة الرفض والمعارضة، أو ستندس احترازا في جيوب المقاومة، لعرقلة مشاريع وآفاق القطيعة، والنيل من سمعتها وأحلامها وطموحها، وتقزيمها والتشكيك فيها إلى درجة التشهير بأهدافها الملتوية وغير البريئة وبآثارها الوخيمة على المصلحة العامة، وستستعمل كل الطرق الشرعية وغير الشرعية لإعلان مقاومتها لهذا التغيير وهذه القطيعة، من خلال جر القائمين عليها إلى الجدالات الفكرية والمذهبية العقيمة، والضغوط السياسية والنفسية والإعلامية الموازية، بحجج ومبررات الخوف من المغامرة غير المحسوبة والمجهول، وضعف الموارد المتاحة، والأزمة الاقتصادية العالمية، والإكراهات الإقليمية والجهوية، والأولويات السيادية، وغير ذلك من اليافطات الضخمة التي تلبس لباس الحق الذي يراد به باطل. وكلما كانت تجربة القائمين على التغيير من خلال هذه القطيعة ضعيفة أو متوسطة، اهتزت أركان أحلام هذه المشاريع التنموية العامة لفائدة واقع المشاريع التنموية الخاصة، وكثر الحديث، تبعا لذلك، عن شروط السلم الاجتماعي، ومقتضيات التوازن السياسي، ودواعي التوافق المصلحي، على حساب الحكامة الجيدة بدرجة مائة في المائة، والقرارات السيادية التي تنصف كل فئات أبناء هذا الشعب. وهذا ما يستلزم تركيبة جديدة لوصفة التغيير من خلال اختيارات القطيعة التي تتلاقى مع اختيارات الاستمرار، بمعادلة تضمن القطع النهائي مع عشوائية التدبير، صحبة استمرارية مكاسب الأسلاف، حتى وإن جاءت هذه المكاسب عن طريق الصدفة أو الظروف التاريخية الميسرة، اعتبارا لكون هذه البلاد في حاجة إلى كل طاقاتها ورموزها، التاريخية والحضارية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وكذا إلى برامجها ومخططاتها التي استنزفت من ميزانياتها العامة جهودا وأموالا طائلة؛ فليس العيب في تحيين التجارب والبرامج والمخططات، وليس العيب في تعديلها وتقويمها أو حتى تحويل اتجاهها، ولكن العيب في رفع معاول الهدم العمياء ودفن معالم أمة، سيكون من العبث أن تبني تاريخها أو تصنعه من جديد في كل مرحلة انتخابية أو تنصيبية جديدة، لأن صناعة التغيير يجب أن تخلق لها مرحلة تاريخية خاصة بها، تتزاوج فيها القطيعة مع الاستمرار بفضائل ما فيهما من عناصر تكاملية، وليس بما يبدو عليهما من أجزاء تنافرية إلى حد التضاد، ولأن التاريخ واحد، والشعب واحد، والبلد واحد، والغاية بتعدد طرقها واحدة، والفرصة أصبحت مواتية لقيادة التغيير، ليس بمنهج استئصالي أو مزاجي، ولكن بعقد تشاركي يميز الفضلاء عن المتلاعبين بمصالح الوطن، ويضع التغيير في سكة غير سكة التدافع السياسي الأناني الذي تسبق فيه الجماعة المجتمع، ويصير الفرد رقما ضائعا في المعادلة السياسية الصعبة. إن للتغيير، المرتبط بالقطيعة والاستمرار في آن واحد، منهجية ومواكبة تضمن شروط تنزيله ونجاحه، يبدأ بالمعرفة الماضوية، ومعرفة الاحتياجات والانتظارات، ومعرفة الشركاء والفئات المستهدفة، والوعي بهذه المعرفة أو الإحلال في زمانها ومكانها وخصوصيتها، وإدراك قدرات الموارد على صناعة التغيير وإدارة كلفة الإنتاج والتدبير والتخطيط السليم، والتحكم في مسلسل التغيير بإشراك كافة مكونات المشروع، بنظرة ديمقراطية قاعدية تشاركية، وليس بهيكلة بيروقراطية هرمية انتقائية، حتى يتحقق الإشباع العمودي والأفقي بمعناه التنموي الوطني العام، وتبدأ مسيرة البحث عن الرفاه بتلاحم الرأسمال البشري والمادي بالاستراتيجيات والمخططات العملية، والتكنولوجيات الحديثة، والمحيط البيئي السليم، والإرادات السياسية والاقتصادية المتضامنة. غير أن صعوبة الاعتقاد في هذا الحلم المثالي بصناعة التغيير بمعناه العلمي والإنساني الأصيل، يؤكدها واقع التشرذم والشتات الذي يميز الخريطة السياسية للبلاد بأغلبيتها الحاكمة المتعارضة ومعارضتها المتنافرة المغلوبة، والخريطة الاقتصادية التي تنهشها، من جهة، الأزمة الاقتصادية العالمية، وخاصة أزمة منطقة اليورو الشريك الأول للبلاد، ومن جهة ثانية، رغم أريحية أمطار الموسم الفلاحي الحالي، استئساد أرباب المقاولات والمؤسسات الإنتاجية حين الاقتراب من مواقعها وامتيازاتها، أو حين طرح إصلاحات ضريبية وتضامنية تمس ثرواتها، والخريطة الاجتماعية التي، رغم الأوراش الاجتماعية الكبرى والصغرى المفتوحة، ما زالت مؤشراتها سلبية في بعض النواحي، أمام محدودية السياسات الاجتماعية القائمة، والنمو الديمغرافي المطرد، وجمود عجلة التنمية الاقتصادية. ومع ذلك، سيظل الإيمان بصناعة التغيير قائما مادام منبعه في داخل الإنسان وليس خارجه، وإننا جميعا مدعوون إلى الإصلاح من الداخل وتطهير نفوسنا من شوائب المزاج والهوى والأنانية وسلطة الفرد والنفاق السياسي. وصدق الله سبحانه في سنته الكونية حين قال: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».