بداية، وجب التذكير بأن أهمية هذا الموضوع تتجلى في اعتبار التنمية الاجتماعية مدخلا أساسيا للتنمية السياسية والاقتصادية. إضافة إلى ذلك، يكتسي الموضوع أهمية قصوى في مغرب اليوم نظرا لآنيته، ولطابع الاستعجال للنهوض بالتنمية البشرية كورش مواز للإصلاحات السياسية والاقتصادية. فبعدما بذلت جهودا كبيرة لم يسبق لها مثيلا لتأهيل البلاد من الناحية الحقوقية، والقانونية، إضافة إلى الإجراءات والمجهودات الهامة لتأهيل الاقتصاد الوطني في إطار المخطط الوطني لإعداد التراب، أصبحت اليوم مسألة التركيز على التنمية الاجتماعية من أولويات الأولويات. إن تلاحم الاقتصادي بالاجتماعي لمن شأنه أن يفضي إلى مجتمع راق على مختلف المستويات. "" وعندما نتكلم عن "مجتمع" فلا يمكن إختزاله في تجمع بشري يقطن بلدا ما، بل يتعلق الأمر بأسرة كبيرة متضامنة لا يحس فيها الفرد بالسعادة، والاطمئنان، والأمن، والاستقرار إلا من خلال سعادة مجتمعية شمولية. ومن أجل تحقيق هذه الشمولية، على كل فرد أن يناضل بكل إمكانياته على واجهتين اثنتين يسعى من خلال الأولى إلى تحقيق ذاته ككائن اقتصادي بتقوية قدرته التنافسية وبالتالي تنمية حياته المادية من خلال مساهمته اليومية في تنمية المنظومة الاقتصادية للبلاد. وثانيا، من خلال تنمية محيطه وبيئته الاجتماعية بتخصيص حيز مهم من وقته في العمل التطوعي الوطني لتنمية مجتمعه بالانخراط الفعلي في العمل السياسي بشكل يستجيب لتطلعاته الفكرية ويمكنه من تفجير طاقاته الإقتراحية، وبالتالي من تحقيق طموحه الشرعي ككائن سياسي. فواجبات الفرد المجتمعي لا تقتصر فقط على تحقيق تفوقه المهني وتنمية حياته المادية، بل يحتاج كذلك إلى الاعتراف المجتمعي به كفاعل تنموي جاد ومسؤول. وتبتدئ هذه المسؤولية بالتدرج حسب طاقة الفرد، من أسرته بتربية أبنائه تربية سليمة على أساس الحداثة والارتباط بالوطن، يليها المساهمة في تنمية حيه أو دواره (إنتاج نخب القرب)، ومدينته أو قريته (إنتاج نخب محلية)، وإقليمه (إنتاج نخب إقليمية)، وجهته (إنتاج نخب جهوية)، ثم وطنه (إنتاج نخب وطنية). وفي هذا السياق، تصبح الدولة من مسؤولية الجميع (المجتمع). وبالتالي تفند وتندثر كل الخطابات التي تشرعن وجودها السياسي من خلال مواجهتها للدولة معتبرة إياها جهازا منفصلا عن المجتمع. فانفتاح الدولة منذ 1998 وما نتج عنه من تقليص الهوة الفاصلة بين الدولة والمجتمع، لسيتدعي اليوم وباستعجال من كل الفاعلين السياسيين الأساسيين في المجتمع مراجعة مفاهيمهم باعتبار تطابق هوية الدولة بهويتهم، وهو ما يعني أن تطور حال الدولة ما هو إلا مرآة لتطور حالهم. ويمكن أن نقول اليوم بأن زمن الصراع السياسي الداخلي العنيف قد ترك مكانه للصراع السلمي من أجل الاندماج في المنظومة الدولية والاستفادة من مزايا العولمة والانفتاح. وما على الفاعلين على مختلف المستويات الترابية سوى التقاط الإشارات السياسية الكبرى في مغرب الألفية الثالثة. إشارات التحركات الدائمة للمؤسسة الملكية، وهي تحركات ذات قيمة اعتبارية كبيرة لأنها تعبر، من خلال وثيرتها، عن إرادة الملكية بخلق القطيعة مع الماضي، ومن خلال محتواها، تعطي نموذجا للفعل المؤسساتي في التنمية والذي لا ينحصر في تدشين المشاريع فقط،، بل وفي تتبعها ومراقبة انجازها، مع السهر على حماية المال العام. أكثر من ذلك، تحرص الملكية على تتبع تحقيق الأهداف المرتقبة من خلال تقييم استغلال المشاريع المنجزة. إنها مرحلة الانتقال والتأهيل التي تفرض حركية سريعة وناجعة لكل الفاعلين والفعاليات في المجتمع من المحلي إلى الوطني. حركية تحتاج الى التغطية الإعلامية لتعميم التجارب الناجحة، وبالتالي، إلى تثبيت القطيعة مع الآليات السابقة للتدبير الإداري. ومن أجل ضمان ترابط منطقي لإشكالية التنمية الاجتماعية بالمغرب بسياقها الوطني والدولي وجب، أولا، توضيح الترابط الكبير للعولمة بالطابع الاستعجالي للنهوض بالوضع الاجتماعي، وثانيا، التطرق إلى الوضع المغربي في حركية هذا المسلسل. 1 العولمة والطابع الإستعجالي للنهوض بالوضع الاجتماعي إننا نعيش في كرة أرضية تتعولم باستمرار، مما يفرض على الجميع الوعي الكامل بالتداخل الحاصل بين الدولي، والوطني، والمحلي، وبالتأثيرات المتبادلة، وبالمتغيرات العميقة المؤثرة على السياسات الدولية، والجهوية، والوطنية، والمحلية. إن هذا الوضع يفرض على كل الدول التفكير في المصير، والمستقبل المحتمل للشعوب والجماعات في إطار المنطق الجديد للحكامة الذي يفرض الانفتاح والتنافسية كأساس للاستمرار في التواجد من خلال مجابهة اكراهات السوق العالمية الحرة. إن هذا المسلسل كنظام عالمي مفروض من طرف الأقوياء يضع الدول النامية في مرحلة تأهيل ترابها الوطني أمام إشكال الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي ومقاومة التأثيرات السلبية للانفتاح. انه سياق صعب تسيطر عليه الشركات العابرة للقارات والمتعددة الجنسيات، حيث إن 70 بالمائة من التجارة العالمية تحتكرها الشركات السالفة الذكر. وإذا ما استثنينا الصين والهند كأكبر الدول المؤهلة للاستفادة من العولمة، نجد معدلات الفقر تزداد يوما بعد يوم خصوصا في الدول النامية والتي بلغ فيها عدد الفقراء إلى 1.3 مليار (2001). وبما أن منطق العولمة لا يستوعب إلا الأشخاص المؤهلين، فإن هذا العدد يزداد باستمرار في الدول التي لا تتوفر على مخطط استراتيجي للتنمية البشرية، خصوصا الجانب المتعلق بالتعليم، والتربية، والتكوين، ومحاربة الفقر والهشاشة. ومن خلال إحصائيات الأممالمتحدة، فإن دخل 20 بالمائة من الأغنياء في العالم سنة 1960 يعادل 30 مرة ما يكسبه 20 بالمائة من الفقراء. وهذه المعادلة ارتفعت إلى 60 سنة 1990 لتبلغ 80 في أواخر القرن العشرين. إن الحصول على فرصة عمل في إطار المنطق الجديد للاقتصاد العالمي يتطلب، إضافة الى شرط المهارة المهنية بمواصفات خاصة، المسؤولية، والشفافية، وجدية الموارد البشرية (محاربة الغش، والرشوة، والزبونية، والسرقة داخل المقاولة). ونتيجة للتقدم التكنولوجي والمكننة اللذين عرفهما العالم، أصبحت الوحدات الإنتاجية العالمية مستغنية عن اليد العاملة الرخيصة، بل تكتفي بتشغيل عدد قليل من العمال المؤهلين Déprolétarisation)). مما يزيد من حدة الفقر في الدول النامية. وإضافة إلى الزيادة من حدة التفقير، تعيش الحركات النقابية في الدول النامية مسلسل الإضعاف جراء الإغلاقات المتعددة للوحدات الإنتاجية. كما أصبحت الصناعة العالمية تستغني بالتدريج عن المواد الأولية بالرغم من تصديرها بأثمنة منخفضة من طرف الدول النامية. إضافة إلى الدقة في تحديد الاستعمال الكمي لهذه المواد في مسلسل الإنتاج بفعل تعميم التقنيات الحديثة والمعلوميات، فإن الصناعة العصرية قامت باستبدال مجموعة من المواد المعدنية بمواد مصنعة جديدة، وبتكلفة منخفضة كاستبدال الحديد بالبلاستيك المصفح في صناعة السيارات، والطائرات، والقطارات. كما أن تطور البيوتكنولوجيا أدى إلى خلق مواد استهلاكية منافسة للمواد الطبيعية (القهوة المصنعة مقابل القهوة الطبيعية، والبوليستير مقابل القطن الطبيعي،...) إضافة إلى اعتماد الزجاج المصفح، والسيراميك، والبوليمير، والكرافيت، والألياف البصرية. كما أن الأبحاث جارية لاستبدال البترول بمصدر طاقة جديد fuel cell)). إن هذا التطور يدفع الدول المصدرة للمواد الأولية واليد العاملة الرخيصة للبحث عن سبل تطوير قطاعات تنافسية جديدة لجلب العملة الصعبة. كما انها مطالبة برفع مستويات التكوين لشبابها، وإصلاح قوانينها لتحفيز رؤوس الأموال الخارجية والوطنية للاستثمار بها. وفي هذا السياق، أصبح رهان الاندماج الاقتصادي للدول النامية في الاقتصاد المعولم رهينا بمدى قدرتها على الحفاظ على التوازن المجتمعي وتنميته خصوصا في مرحلة الانتقال والتأهيل. 2 الوضع المغربي والرهانات المستقبلية لتحليل الوضعية الاجتماعية في المغرب لا بد من الرجوع شيئا ما إلى الوراء خصوصا إلى مرحلة سياسات التقويم الهيكلي في الثمانينات. فالقرار السياسي لهذه المرحلة، والذي فرض ضرورة الحفاظ عن التوازنات العامة، والحد من التضخم بنهج سياسة التقشف لتمكين الدولة من جمع قواها لإنقاذ نزيفها الاقتصادي، ومن تم الرفع من مستويات النمو الاقتصادي، واستثماره في تحسين مستويات مؤشرات التنمية الاجتماعية لم يفرز إلا نتائج معاكسة أدت إلى تعميق الأزمة الاجتماعية. فما تم استخلاصه دوما جراء التقشف في مصاريف التسيير(الفائض) لم يخصص للاستثمار، بل استفاد منه رعاة الفساد، ولم ينجح المغرب في خلق طبقة اجتماعية وسطى تلعب دور الوساطة في إنعاش الاقتصاد الوطني. كما أن انعدام الشفافية في تدبير الشأن العام بسبب الفساد الإداري أدى إلى ضياع فرصة توجيه الموارد المالية العمومية لتنمية الطبقات الاجتماعية المهمشة. ولعل المنطق الذي اعتمدته الدولة في إطار الصراع السياسي عمد إلى تهميش المسألة الإجتماعية وإلى إنعاش العديد من الظواهر السلبية التي أثرت بشكل مباشر أو غير مباشر في تدبير المرفق العام والمجالات العمومية. فإلى جانب الوصاية المالية والإدارية على الجماعات المحلية، وتشجيع الهجرة القروية إلى المدن مع تسهيل انتشار ظاهرة السكن الغير اللائق (أحياء الصفيح) والسكن غير القانوني، تم تفريخ الدوائر الانتخابية بالمدن، والتحكم في التمثيليات السياسية المحلية، والجهوية، والوطنية، وصنع الخرائط السياسية. وفي هذا الصدد، وجب القول بأن كل التحليلات التي كانت تقارب ظاهرة العشوائية والهشاشة بالمدن بتركيزها على الهجرة القروية بدافع الفقر والحاجة كانت نسبية لكونها أبعدت في تحليلها، بوعي أو بدون وعي، علاقة الظاهرة بمنطق ممارسة السلطة في زمن الصراع. لقد كان إرث هذه المرحلة ثقيلا بمؤشرات اجتماعية محرجة. وهو ما دفع الفرقاء السياسيين الأساسيين في البلاد إلى اعتماد مقاربة جديدة قوامها التوافق، وفتح المجال للإصلاحات السياسية المطلوبة التي يستلزمها الانتقال الديمقراطي. وانطلاقا من سنة 1999، اقر العزم على الاستمرارية في الإصلاح بمنطق جديد يصبو فعليا إلى جعل التنمية الاجتماعية مدخلا للإصلاحات السياسية والاقتصادية. وهكذا فتحت الدولة العديد من الأوراش ذات الطابع الإجتماعي الإستعجالي من خلال: في الأخير، يمكن أن نقول إن التنمية الاجتماعية بما تحمل الكلمة من معنى تعتبر رافعة لتأهيل البلاد في كل الميادين وبالخصوص في المجال السياسي. حيث أصبح رهان المغرب على مشهد سياسي واقتصادي يليق به مرتبطا إلى حد بعيد بضمان العيش الكريم للمواطنين، وتمكينهم، بالآليات المختلفة، من ممارسة حقوقهم السياسية بشكل موضوعي. إن قطيعة الدولة مع منطق الماضي واضحة، وتركيز المؤسسة الملكية على العمل التنموي من الأولويات، ويبقى إعطاء نفس جديد للحياة السياسية مرتبطا بالتوجه إلى المجتمع من خلال الركائز الخمسة للعمل السياسي (العمل الحزبي، العمل الشبيبي، العمل النقابي، العمل النسوي، العمل الجمعوي). وعلى التنظيمات السالفة الذكر أن تستثمر جهودها باغتنام الفرص الجديدة المتاحة والمليئة بمصادر الشرعنة السياسية من باب الفعل التنموي الميداني وسياسة القرب. مثلا، في اطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، يمكن ان يفوق دعم الدولة لمشاريع منظمات المجتمع المدني 200000.00 درهما لكل مشروع غير قابلة للاسترجاع. في هذا السياق، يبقى من واجب الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني تسخير طاقاتها البشرية في مختلف المستويات الترابية في تنشيط أجهزتها بتمكينها من مشاريع مدروسة بعلمية وباحترافية وترشيحها في اطار البرنامج الأفقي للمبادرة projets clés en mains ، وفي كل المبادرات التنموية العمومية. ولضمان الإستمرارية والنجاعة في العمل التنموي من خلال العمل السياسي، على الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني كذلك أن تخلق بداخلها أجهزة جديدة تعنى بالدراسات والأبحاث وبلورة المشاريع وتدبيرها. كما عليها أن تحول مقراتها إلى فضاءات للتكوين والنقاش والاستشارة. كما يفرض عليها الوضع التوفر على إدارة حزبية تجعل من "الحزب" فضاء سياسيا بامتياز تحقق من خلاله الطموحات المشروعة للمناضلين والمواطنين بصفة عامة في إطار خدمة الوطن كشعار يؤطر كل التصرفات والتحركات اليومية للمناضلين. بالموازاة، على الدولة كذلك فتح مناصب المسؤولية الإدارية للتباري بين الكفاءات على أساس الترشيح والانتقاء من خلال المباراة. إن الإدارة هي المحرك الأساسي للعمل التنموي وإصلاحها وصلاحها من صلاح الدولة. على هذه الأخيرة أن تخلق الآليات الناجعة الكفيلة بوضع الإنسان المناسب في المكان المناسب على أساس الكفاءة والاستقامة. إن تقدم المجتمع المغربي ليست هدفا بعيد المنال بل يتطلب فقط الالتقائية لكل مكوناته في إستراتيجية تنموية محكمة. علينا أن نحذو حذو الصين والهند كنموذجين مختلفين للتنمية. فالنموذج الصيني استثمر كل طاقاته في الصناعة إلى أن أصبح يغطي أكثر من 20 بالمائة من حاجيات العالم في ميدان النسيج، كما أغرق السوق الدولي بالسلع الإلكترونية إذ أصبحت مبيعاته من آلات التصوير الفوتوغرافية الرقمية تمثل أكثر من 50 بالمائة من مبيعات العالم. كما يتوقع أن يتبوأ المرتبة الأولى في بيع الحواسيب في أفق 2010. أما النموذج الهندي، فقد أبان عن الصدارة في ميدان التكوين والخدمات حيث أصبح أكبر خزان للأدمغة في العالم خصوصا في ميدان المعلومات والتكنولوجيا. وقد وصل الى هذا المستوى بتكوينه لأزيد من 275000 مهندسا في السنة. وأكثر من هذا، فقد أفادت الدراسة التي قام بها بنك "موركان ستالي" سنة 2003 أن الهند ستصبح من ضمن الاقتصاديات الثلاث القوية في العالم إلى جانب الصين والولايات المتحدةالأمريكية في أفق 2045. علينا أن نساهم جميعا في الحفاظ على المكتسبات السياسية وتطويرها بتدارك الهفوات والنواقص. فالانتقال الديمقراطي كحدث تاريخي بالنسبة للمغرب عليه أن يتوج ببلورة وتفعيل سياسة اجتماعية تعود بالنفع على المواطن في الأمد القصير. ومن خلال ما يروج في الأوساط الاجتماعية المغربية، يمكن أن نقول إن بطء الانتقال يمكن مرده إلى هذا السبب بالضبط. إن تطوير الديمقراطية على أساس الحداثة بالمغرب وتعميقها يبقى رهينا إلى حد بعيد بقدرة الدولة بكل مكوناتها على استغلال كل الآليات التشاركية لترسيخ مبدأ القرب والعمل التنموي الميداني بالتركيز على المنطق المؤسساتي في كل مجالات التدخل. يحتاج المغرب اليوم إلى تكثيف الجهود للحفاظ على كرامة المواطن وتقوية عزة النفس لديه بتمكينه من العيش الكريم لأن هذا سيجعله مستقلا بذاته وقادرا على جعل مسافة بينه وبين دعاة التطرف والإرهاب، مترفعا على كل الإغراءات المؤقتة لمروجي الفساد في كل مناحي الحياة.