من أكبر عيوبنا في المنطقة العربية أننا نتفاعل مع الأحداث عاطفيا وانفعاليا، ونصنع قناعات سريعة وسطحية تفقدنا القدرة على التأمل و التساؤل و تنزع منا حاسة النقد ومهارة الشك، وتجعلنا عبيد أحلامنا القديمة وأسرى أوهامنا الطارئة.نتعاطى مع الظواهر بسذاجة كبيرة، ونكتفي بقراءة الواجهة ،فنتخذ مواقف ونؤسس لمسلمات جديدة ونصدق الشعارات والخطابات المسوقة للسياسات الصانعة للأحداث و كأن العالم العربي يتحرك بدون لوحة تحكم عالمية، أو كأن هذه المتغيرات الجديدة تجري بعيدا عن برج المراقبة الدولي. لقد عشنا مرحلة الحلم الجميل ونحن نرى شجرة الطواغيت تتساقط أوراقها تباعا. تفاعلنا مع حركة الشارع وهو يستعيد حيويته و يعلي صوته. تابع الصغير منا و الكبير لحظات اندحار أنظمة مستبدة و مشاهد تاريخية لسقوط أصنام بشرية طالما ألهت نفسها و استعبدت رعيتها ونهبت خيرات شعوبها. ولكن آن لنا أن نستفيق و نستعيد بعض الوعي لنتساءل عما جرى و يجري وما ستأتي به الأيام. حان الوقت لكي نضع تلك القناعات و الأوهام و المسلمات على مائدة التشريح لعلنا نتعرف على الخفايا والنوايا التي غالبا ما تحجبها الانفعالات والتحليلات الظرفية والتعليقات السطحية. إن واقع المنطقة العربية اليوم يطرح علينا أسئلة كبرى و يدفعنا إلى البحث عن الإجابات المقنعة التي تستطيع أن تبدد سحب الوهم المتراكمة في عقولنا منذ أن اعتقدنا بأن خلايانا السياسية و الفكرية بدأت أخيرا تتغير ، ومنذ أن اقتنعنا بأن صناعة حاضرنا أصيلة تتم بأيدينا وفي مصانعنا ، ومنذ أن تصورنا بأننا فعلا بدأنا نستعيد إنسانيتنا وإرادتنا. إذا كان من حقنا أن نؤمن و نحلم ونصنع مسلمات فمن حقنا أيضا أن نشك وأن نشغل أجهزة التساؤل المعطلة في مجتمعاتنا سواء عند النخب أو عند الجماهير.لأن الوصول إلى الحقيقة مطلب عزيز يحتاج دائما إلى وضع كل الفرضيات و طرح كل الإشكاليات و الشك في كل الظواهر. فقد تخدعنا حواسنا وقد تغدر بنا ثقتنا العمياء وما بداخلنا من سذاجة وبساطة مثل الغباء. ولهذا من حقي أن أطرح بعض الأسئلة التي قد يكون لها إجاباتها الآن أو في مستقبل الأيام .و ألتمس من القارئ المغربي و العربي أن يشارك في تفكيك الظواهر الحالية وفي البحث عن الأجوبة الشافية التي قد تنير العقل العربي وتستفز خلاياه و تدفعه إلى مراجعة مواقفه وقناعاته ومسلماته. أصحيح أن ما تعرفه المنطقة العربية من دينامية اجتماعية وحركية سياسية وإعادة تشكيل سياسي و جغرافي و ثقافي صنع محلي ناتج من تراكم داخلي للإحباطات و تواصل مستمر للإخفاقات؟ إلى أي حد كانت الثورات العربية ومسلسلات التغيير و الإصلاحات السياسية ثمرة لنضال جماهيري ونتيجة لكفاح طويل خاضته الشعوب لعقود وسنوات حتى جاءت تلك الشرارة التي أشعلت الفتيل؟ هل خططت الشعوب العربية لمستقبلها ونسقت فيما بينها مسبقا لهذه الثورات أم أنها اعتمدت التلقائية و العفوية والانفعال العاطفي فكانت ضحية الاستدراج الممنهج لتنفيذ مخططات جاهزة أعدت في المختبرات التي تحدد معالم الخريطة السياسية الدولية؟ أتوجد عندنا نخب سياسية وفكرية مؤثرة ومقنعة و رائدة لها مشاريع مستقبلية وبرامج حقيقية ونظريات أصيلة وبدائل حقيقية للتغيير السياسي و الاجتماعي و الثقافي في المنطقة العربية؟ ما دور الغرب في ما يحدث في الوطن العربي؟ وما حجم تدخله ومساهماته في مسلسل التغيير؟ وما هي الآليات التي يوظفها لفرض وصايته وتطبيق مخططاته وحماية مصالحه؟ ألا يمكن أن نقول بأن هناك إرادات خفية ودراسات جيوسياسية و جيو استراتيجية خططت و قدرت ورتبت لهذا الواقع الجديد ومهدت لهذا التحول(الفجائي) في الوطن العربي؟ من له المصلحة في إشغال العرب بذواتهم و تقسيم أوطانهم و إلهائهم عن مشروع تنمية بلدانهم ودفعهم إلى العودة إلى درجة الصفر ليهتموا أولا بإنشاء دولهم في صورتها الجديدة و مغازلة هوياتهم المستيقظة وهدر سنوات طويلة في إرضاء طوائفهم و مذاهبهم وتياراتهم؟ ما علاقة الأحداث الراهنة بالتنبؤات التي سطرها منذ سنوات طويلة رواد الدراسات المستقبلية و الجيو الاستراتيجية في الداخل و الخارج ؟وما درجة اعتمادنا نحن على تلك النظريات الخطيرة في قراءتنا للواقع المعاصر؟ لاشك في أن هذه الأسئلة وغيرها تجعلنا نعيد قراءتنا للظواهر والأحداث، وتدفعنا إلى تبني موقف الاحتراس و الحذر قبل اتخاذ أي قرار، وتحرك فينا حاسة النقد و البحث والتنقيب عن الإجابات مهما كانت صادمة لقناعاتنا أو مكسرة لآفاق انتظاراتنا. فالمهم هو أن نترك مسافة معتبرة بين تفكيرنا وبين ظواهر الواقع حتى تشتغل عقولنا بحرية بعيدا عن كل المشوشات وعن كل الشعارات والخطابات التي تروج الوهم لدغدغة مشاعر الإنسان العربي وتسوق الأحلام للتلاعب بعواطفه.إننا في حاجة إلى معرفة ذواتنا أولا و معرفة واقعنا ثانيا حتى نمتلك رؤية واضحة وواسعة نطل من خلالها على هذا البركان لنتعرف الأسباب و العوامل الكامنة وراء فورانه و ثورانه (الفجائي) في هذه الظرفية الحساسة من تاريخنا المعاصر. إننا اليوم نشهد الفصول الأولى من مخطط oded yinon المفكر الاستراتيجي الإسرائيلي الذي وضع فيه المعالم الأساسية للخريطة الجغرافية و السياسية في الشرق الأوسط وفي المناطق الإسلامية من المحيط إلى الهند.وهو مخطط نشر سنة 1982 ينظر فيه صاحبه استرتيجيا لإقامة أمن إسرائيل وتحقيق رفاهيتها و استقرارها بإشاعة حالة اللااستقرار و الفوضى و العنف في البلدان المحيطة بها.وينطلق هذا المخطط من ضرورة بلقنة المنطقة العربية وتقسيمها وتمزيق دولها وتفتيتها إلى ميكرو دويلات ضعيفة ومنهارة اقتصاديا ومتناحرة اجتماعيا و طائفيا،وذلك بالارتكاز على: - التقسيم اللغوي - التقسيم العرقي - التقسيم الديني و الطائفي ونتيجة لهذا المخطط بدأت معالم التقسيم الثلاثي الأبعاد تبرز على السطح من خلال أشكال التطهير العرقي و الطائفي والديني و اللغوي في العديد من البلدان العربية و الإفريقية.فقد شاهدنا كيف انطلق هذا المخطط من العراق فحوله إلى دويلات متناحرة طائفيا و عرقيا(أكراد- سنة- شيعة) وشاهدنا شرارات الصراع المفتعل في مصر على أساس ديني(مسلمون-أقباط) ونشاهد محاولات كثيرة لتمزيق لحمة البلدان المغاربية من منطلق لغوي عرقي(عرب – أمازيغ) ونشاهد محاولات جديدة لتقسيم دولة مالي كما تم تقسيم السودان من منطلق عرقي ديني(مسلمون- مسيحيون).بل إن موضوع مالي أصبح اليوم أهم بالنسبة للغرب من موضوع سوريا. إننا في حاجة ماسة إلى فك شفرات هذه الأحداث التي تجري في وقت واحد في العديد من البلدان العربية و الإسلامية و الإفريقية.نحن في حاجة إلى استخدام كل آليات التفسير و التأويل و التحليل لفهم ما يحدث،لأن هناك من يصنع مستقبل بلداننا ويخطط له بعيدا عنا وعلى المدى البعيد.هناك من جعل من الديموقراطية و الحرية و حقوق الإنسان سلاحا لتقسيم البلاد العربية وتفكيك مكونات وحدتها وعناصر قوتها.فباسم إرساء الديموقراطية في البلدان العربية و حماية الأقليات وجهت أساطيل وجيشت جيوش و صرفت الملايير ونزفت دماء و أزهقت أرواح.باسم إقامة الديموقراطية تضحي أمريكا بأبنائها في العراق و أفغانستان و الصومال وغيرها من البلدان .والحقيقة أن مشروع التقسيم و التمزيق يحتاج إلى مبررات مقنعة لتمريره وفرضه.ومع الأسف الشديد نجد أن هناك بعض الدول العربية و بعض المنظمات و التيارات المدعومة قد وظفت لهذه المؤامرة ، فتجدها في الواجهة دائما لتنفيذ ما يتم التخطيط له. إن هناك رغبة لتشكيل المنطقة العربية و الإسلامية تشكيلا جديدا خدمة لطموحات أمريكا و إسرائيل.فلو قرأنا ما ورد في مخطط oded yinon لعلمنا أن هذه الأحداث و المتغيرات الطارئة قد كانت معدة سلفا و مبرمجة من قبل. بل إن هناك خريطة جيوسياسية نشرت منذ 2006 تعرف بخريطة ralph peter تبين الصورة المستقبلية للمنطقة العربية في ضوء هذا المشروع التقسيمي. إن صاحب هذا المخطط يصرح بضرورة انتهاج سياسة تخدم مصالح إسرائيل عن طريق خلق حروب ونزاعات وانقسامات في الدول العربية،حتى تتحول إسرائيل إلى دولة مهيمنة على المنطقة و إلى قوة عالمية ليست في حاجة إلى اتفاقيات سلام مع الدول المجاورة.ولهذا نجده يعتبر اتفاقيات السلام مع مصر خطئا تاريخيا قيد إسرائيل و أخر تنميتها وحرمها من السيطرة و الاستفادة من الغاز المصري. ولهذا يتنبأ بخلق دويلة قبطية في شمال مصر تمكن إسرائيل من العودة إلى سيناء. إننا اليوم أمام لعبة سياسية و اقتصادية ودينية تحتاج إلى نخب واعية بذاتها متحررة في مواقفها متشبعة بقيمها مخلصة لأوطانها حاملة لمشاريع بديلة قادرة على عرقلة كل مخطط يسعى إلى إشاعة الفرقة وزرع بذور الحقد و الكراهية و الأنانية داخل التربة العربية و الإسلامية بعيدا عن كل المزايدات السياسية و الأيديولوجية.فالمسؤولية اليوم تتحملها النخبة( إن كانت هناك نخبة متحررة في أوطاننا)حتى لا نبقى مقيدين بنظرية المؤامرة.فما يجري أمامنا وعلى مرأى و مسمع من العالم بأسره،نحن قد ساهمنا فيه و في تسريع إيقاعه شئنا أم أبينا.لأن تنفيذ هذا المخطط في بلداننا لم يكن لتتم فصوله الأولى منذ الاحتلال الأمريكي للعراق لو لم يجد فينا القابلية و الاستعداد لتقبله واحتضانه و تسهيل الظروف لتحقيقه، وذلك بغفلة البعض وصمت البعض الآخر و تواطئ طائفة صنعت ومولت لهذا الغرض.