في زمن مضى كان النطق بكلمة التغيير، أو حتى التفكير في النطق بها، يعني حتما قطع الرقاب، والرمي في أقبية ودهاليز السجون، و الإعدام شنقا أمام الملأ؛ أما اليوم فقد صار لهذه الكلمة سحر القبول والعصرنة والحداثة والتطور المحتوم، حتى غدت لازمة تتكرر بانتظام في كل ورش سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو إداري مفتوح، وتفنن الفلاسفة وعلماء الاجتماع والنفس والاقتصاد ورجال السياسة في تخيل وإقامة مكونات صناعة لها، تنافس صناعة الأغذية وصناعة الأسلحة وما شابه ذلك؛ فصار الناس، برؤسائهم ومرؤوسيهم، يتحدثون عن التغيير بإسهال وتكرار كما يفعلون بملابسهم الداخلية كل يوم. وككل الصرعات المفكر فيها وغير المفكر فيها، والتيارات الفكرية والسلوكية الغربية والشرقية الآتية من خارج أو داخل الحدود، تمكنت تيمة التغيير، بتمظهراتها وتناقضاتها ونواياها الحسنة والسيئة، من التغول في نمط العيش، وتمكنت من سلطة الرعاة قبل استكانة الرعية، لتتعدد وجوه التغيير بين الإيجابي والسلبي، بين الشكلي والجوهري، بين الداخلي والخارجي، بين الاختياري والاضطراري، حسب التموقع السلطوي للقائمين على التغيير وانتظارات واحتياجات المستهدفين بالتغيير. ولقد صارت هذه التيمة عنصر الزهو وشعار الانتصارات السياسية والاقتصادية والتربوية المعلن عنها، خاصة مع تعاقب الحكومات المنتخبة والمجالس النيابية والجهوية والترابية، وتناسل المقاولات الكبرى والصغرى والمؤسسات العمومية والخصوصية التي لا تنشد التغيير كقيمة مضافة إلى نمو ورفاهية البلاد، بل تعشقه إلى حد الجنون ويكاد يتمثل لبعضها في صورة امرأة فاتنة تأسر الناظرين بقوامها الممشوق وأنوثتها الصارخة، ويتحول عندها التغيير إلى حالة نفسية مزاجية يستدعيها للمثول أمام هواه كما يستدعي مجنون ليلى ليلاه العامرية. وحال التمكن من سلطة التغيير، المقرونة بالشرعية الفوقية، يستل القائم على التغيير سيف التغيير المزاجي ويأتي على الأخضر واليابس، لصناعة تاريخ جديد تنتهي فيه «أسطورة» أسلافه، ويبدأ ميلاد وجوده وواقعيته وحداثته وعصرنته. وهذا شكل مشوه لمفهوم التغيير الذي تحتاجه البلاد في كل حقبة تاريخية، حتى ولو جاء ببعض التطور، وجاء بتخفيض كلفة الإنتاج الاقتصادي والاجتماعي، لأن عمر هذه البلاد لا يقاس فقط بالأشخاص وبالجماعات، وإنما أيضا بمنظومة مسلسل حضاري مترابط الحلقات، يجمع الحسن بالأحسن بالسيئ، والذي يولد منه في النهاية النموذج الأفضل لناسه، وفي مرحلته التاريخية، ومقارنة مع محيطه الجيوسياسي والحضاري المحدد في الزمان والمكان؛ فالتغيير، الذي هو تحول من حالة إلى حالة، مرتبط، في المصطلح والمضمون، بالتطور والابتكار والوعي والمسؤولية والواقعية والإدراك والمعرفة والحدس. وكلها صفات قد تكون متناغمة مع سلوكات القطيعة، كما مع سلوكات الاستمرار حسب موضوع التغيير والمستهدفين من برامجه ومخططاته، حيث يبدو التغيير في الأخير اختيارا لا محيد عنه في مرحلة تاريخية معينة، له شروط خاصة وموضوعية، واحتياجات آنية وانتظارات مستقبلية. غير أن السؤال الفلسفي والاجتماعي وحتى النفسي المطروح هو: هل التغيير ممكن مع القطيعة أم مع الاستمرار أم مع المزج بين فضائلهما؟ في الواقع، نحن نعيش في هذه البلاد في سوق من التغيير، يتزاحم فيه الغث والسمين، والأصلي والمغشوش، والمحلي والمستورد، ويكاد المرء البسيط تلفه دوخة من الحيرة في الاختيار السليم، هذا إذا كانت له سلطة وإرادة الاختيار، أما إذا لم يكن له ذلك، وما أكثر هذه الفئات، فما عليه إلا أن يخضع لمزاجية التغيير التي لا تستثني أحدا أو شيئا، من الموارد والفضاءات والمواقع والبرامج، ولو حبا في التغيير من أجل التغيير، كأن ينام المواطن المغمور في المساء ويصبح وزيرا في الغد، لا يعجبه العجب، ويبدأ في تنحية أعمدة الوزارة ولو كانت مصنوعة من كفاءات وإسمنت مسلح، وينتهي به الأمر إلى نسف البرامج القائمة، ومخططات العمل القطاعية، حتى ولو صرفت عليها اعتمادات هائلة من المال العام واستنزفت زمنا وجهدا وطاقات مادية وبشرية منزوعة من عمر وتنمية البلاد، لتحل محلها فلسفة التغيير الجديدة، للوزارة الحداثية الجديدة، بالموالين والمناصرين الجدد، والبرامج المستحدثة بالاعتمادات الإضافية، والبشائر السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تنقص في الواقع من عمر التنمية البشرية للبلاد أكثر مما تزيد في الظاهر؛ فالقطيعة مع الممارسات الملتوية للزمن الذي ولى، والتخلص التدريجي من الإرث السلبي المتراكم، هي مسألة مطلوبة، إن لم نقل ملزمة للأطراف الجديدة القائمة على التغيير، لوقف النزيف ومنع السكتة القلبية ورفع المظالم وتغيير اتجاه التنمية بخطى فيها ثبات وسرعة محسوبة ووعي بأهداف ووسائل القيادة، لكن القطيعة المرادفة للاستئصال وقطع أوصال وجذور ما قبل التاريخ «الحداثي»، برغبة شرسة، وأحيانا مقصودة، في محو ذاكرة وفتح سجل ذاكرة أخرى، رغم ما قد تتضمنه الذاكرة الأولى من فضائل وحسنات تحمل في أحشائها جنين شرعية الاستمرار، ستعود بالوبال السيئ على حاضر ومستقبل البلاد وعلى أجياله الشبابية التي تأمل خيرا في حكامها الجدد، وفي التنمية المستدامة بشكل عام. إن التغيير من خلال القطيعة مع الماضي مرتبط بالاستئناس بتراكمات تجارب الأسلاف، مع الوعي الوطني باحتياجات الحاضر وانتظارات المستقبل، أي أن هذه القطيعة تتضمن فلسفة عقلانية، لديها وعي وإدراك ومسؤولية تاريخية لتطوير أداء المؤسسات وضمان شروط العيش الكريم، من خلال تثبيت ركائز جديدة للتدبير الجيد، وحماية الحقوق والواجبات للأفراد والجماعات والأقليات، وفسح المجال أمام الكفاءات والقدرات للتعبير عن ذواتها وانشغالاتها وأفكارها وأحلامها، وتنقية أجواء العمل المشترك، وصناعة أخلاق حميدة للسياسة المنفلتة والاقتصاد الشرس، ومراجعة قيم الانتماء إلى الوطن من خلال الفصل النهائي مع مراحل الظلم والإقصاء وسيادة القانون.